برلمان المثقفين ضرورة أكيدة البشير بن سلامة

برلمان المثقفين ضرورة أكيدة

سيكون للتحولات التي جدت في العالم في أوائل التسعينيات تأثير كبير في العالم الثالث وبالأحرى في الوطن العربي، مغربه ومشرقه. وليس في نيتي في هذا المقال تعداد هذه التحولات وأنواع تأثيرها في البلدان سياسيا واقتصاديا، بل غرضي هو التركيز على تحليل ما أعتبره المحرك الأساسي لهذه التحولات والحافز الأصلي الذي كثيرا ما ينسى أو يتناسى ليطغى عليه العامل السياسي وبالتالي الاقتصادي. وأعني العامل الثقافي الفكري، والحال أنه هو المنطلق وأساس كل تغيير وتحول. ولا يتم ذلك في أي مجتمع من المجتمعات إلا عن طريق الفكرة التي تحرك جمهور الناس، كما أن نجاة أي مجتمع من المجتمعات عندما تنخره - خصوصا الكليانية، أو تبنجه الليبرالية الاقتصادية الكاسحة - لا تكون من جهة إلا عن طريق الفكرة الحاملة للقيم الخالدة التي تدين وتشهر وتقول لا، وتكشف عن المغالطات والدجل والنفاق وما إلى ذلك، وتبين من جهة أخرى كيف يتقدم المجتمع ويتم تحديثه في جو من التسامح والعمل البناء برغم تعدد التيارات الفكرية والاتجاهات الثقافية، مع العلم بأن مفهوم الحداثة قرآني باعتبار قوله تعالى:وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين برغم تحرج المفسرين واستنكافهم من مقابلته بالقديم. وهذا يحتاج إلى بيان، وليس هذا المقال مقامه.

ماذا شاهدنا بعد الحرب العالمية الثانية؟ رأينا شعوبا فتحت لها الاشتراكية آمالا عراضا فتركت الدولة تمسك بكل المقاليد وتأخذ بناصية الأمور سياسيها واقتصاديها وثقافيها، حتى ابتلعت كل ما في المجتمع من مؤسسات وجمعيات ونواد وحولت أيديولوجية الدولة إلى " عقيدة تفرض على رجال الفكر والجامعيين " وبالتالي على المجتمعات بأكملها. وأصبحت بذلك كليانية بأتم معنى الكلمة تضحي بالديمقراطية وبكل الحريات من أجل سعادة ورخاء وحرية طال انتظارها.

وكان أن ساعد، أول الأمر، جل المثقفين في هذه البلدان على إقامة مثل هذا النمط من الأنظمة غرارة أو غرورا، وأعانوا بذلك على اغتيال العقل الحر وانحسار النقد وإسكات كل معارضة ودوس كرامة الفرد والجماعة. ولما ظهرت بمرور الزمن العيوب "وتعرت المذابح " لم تجد هذه الشعوب الخلاص إلا على أيدي بعض المثقفين من كتاب وفنانين وعلماء وغيرهم من المناضلين في الجمعيات الثقافية فكانوا الوحيدين القادرين على أن يقولوا لا للكليانية والعسف والاضطهاد. ففتحوا الطريق للجماهير لأنهم رجعوا إلى وظيفتهم الفكرية الحق. وكان التحول الذي عرفناه في هذه البلدان، وليس من سبب في ذلك إلا لأن المثقفين ابتعدوا في الحالة الأولى عن وظيفتهم الفكرية النقدية المعتمدة على الحرية والحارسة للقيم، وانحازوا إلى الوظيفة السياسية الظرفية " الواقعية " الميدانية، وثابوا إلى رشدهم في الحالة الثانية متمسكين بوظيفتهم الفكرية أساس وجودهم كمثقفين ومصدر كرامتهم وعلو شأنهم بين الناس.

الهيام بالليبرالية

ورأينا شعوبا أخرى هامت بالليبرالية المنبنية على الاقتصاد الحر منادية بالديمقراطية والحريات العامة والخاصة، مناضلة من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرية تقرير مصير الشعوب. ولم يكن ذلك في كثير من الأحيان إلا واجهة كم ألهبت ببريقها العقول وأثارت في النفوس لذيذ الأحلام وبعثت الحماس الحامل للأمل الخلب وزاهر المستقبل، وهي في الواقع تخفي في أغلب الأحيان حقيقة مرة: ألا وهي سيطرة المال الذي جعل مطية له ثقافة مخدرة متخدرة تتزيا بزي الحداثة أو الرأسمالية الشعبية المقدامة في الميدان الاجتماعي وهي في حقيقة الأمر منغمسة في الممارسات الرأسمالية القديمة المفضية إلى الاستغلال الفاحش والعنصرية والعبودية والاستعمار الحديث. وفي هذا الخضم من ديمقراطية الواجهة بأشكالها العديدة المختلفة تم تدجين الوظيفة الفكرية بطرق شتى مغرية. وأصبحت الصحافة ( السلطة الرابعة كانت ) والوسائل السمعية البصرية مؤسسات اقتصادية يتحكم فيها المال والوظيفة السياسية قبل كل شيء. فخفتت أصوات الكثيرين من المثقفين الذين تمسكوا بوظيفتهم الفكرية أو أبعدوا من الحلبة حتى قال أحد الفلاسفة المرموقين في الغرب: "إن الوسائل السمعية البصرية أصبحت تتحكم في إنتاج المعرفة واصطفاء ما يحلو لها من أنماطها من دون أن يكون لهذه الوسائل العلم والاختصاص الضروريان للحكم على المثقفين أو لهم".

السيف والقلم

كما شاهدنا نمطا ثالثا يهيم بين النمطين المذكورين فلا هو من هذه ولا هو من تلك بل هو يستنبط من هذه ومن تلك معا، وليس له من " سياسة إلا اللاسياسة " كما قال عياض بن عاشور، أو ما يفرضه عليه نظام تشبه بالدولة ليستبد بمقاليد الأمور، ولا من غاية عليا تحفزه غير استمرار حكمه ودوام " دولته " وهي دائلة لا محالة في كل الحالات. وليس من الصعب بالنسبة إلى هذا النمط من الأنظمة أن نجزم بأنه اختلطت فيه الوظيفة السياسية بالوظيفة الفكرية والعكس بالعكس، حتى صرخ هشام جعيط مرة قائلا: " رجل السياسة يتزعم كل نشاطات الأمة فيصبح مجتهدا أو فقيها وأديبا وعالما ويمنع المثقف من القيام بدور الزعامة الفكرية في المجتمع والتأثير فيه وفي الدولة ". ويقول عياض بن عاشور: " النخبة العالمة المثقفة تقف تجاه الرأي الغالب وقفة المراوغ المرتاع، تهتف ولا تتكلم، تجامل ولا ترشد، تهادن ولا تكافح تداهن ولا تصارح ". ومضى إلى حد القول " بموت المثقفين ". أما حمادي الرديسي فإنه يؤكد أن " المثقف العربي يبدأ وينتهي بالسياسة. كتبه سياسة، نشاطه سياسة، هو مثقف في السلطة، أو مصلح جنبا لجنب هو والسلطة ".

وهكذا رأينا أن العالم بأجمعه يعيش في هذا المجال نوعين من الأزمة بالنظر إلى التوازن بين السياسة والثقافة، بين " السيف والقلم ". وهو توازن ضروري لسلامة الدولة واستقرارها واستمرارها دون هزات عنيفة، وهو أساسي لتقدم المجتمع وتنميته بصورة طبيعية. فنوع فيه خلط بين الوظيفة الفكرية والوظيفة السياسية وما ينتج عن ذلك من مغالطات وكوارث، ونوع ثان يتسم بوجود فجوة عازلة بين هاتين الوظيفتين فيكون الجمود وما يتبعه من مآس ومصائب وبين هذين النوعين من الأزمة أنواع أخرى تتشكل حسب الظروف والملابسات. وفي كل هذه الحالات يتعذر إيجاد التوازن المنشود بين السلطة السياسية المقامة على الرئاسة المفروضة بالقوة أو المتاحة بقوة الإقناع، وبين سلطة ثقافية فكرية معنوية غايتها حراسة القيم الثابتة، الخالدة المبنية على العقل والخالية من كل نزعة انتفاعية مادية، الحافظة للكرامة والقادرة على أن تقول لا للسلطة السياسية وما وراءها، إذا هي عرضت المجتمع إلى خطر من الأخطار.

وبعد هذا فليس للمرء إلا الاقتناع بأن هذه الوظيفة الثقافية الفكرية أصبحت عاجزة عن القيام بدورها الأساسي عن طريق وسائل الإعلام بما فيها الصحافة التي تنعت الآن تجاوزا بالسلطة الرابعة. وكلنا يعلم أننا نخضع في الواقع إلى سلطة الإعلام التي تتحكم فيها السلطة السياسية ومن ورائها سلطة المال والأحزاب واللوبيات بأنواعها المتسترة ولا من محاسب ولا رقيب. ما العمل إذن وليس هناك والحال هذه أمل في تبدل الأحوال؟ بل إن انتصار الليبرالية الاقتصادية في العالم والتلويح بهذا النظام العالمي الجديد، مع ما يصاحب ذلك من " مطرقة العقول " ينذر بأن الأمر سيتفاقم، وبأن الوظيفة الثقافية الفكرية ستتنازل عن ماهيتها وتتحول بتعقيدات ومراوغات ومخادعات مريبة إلى موالية للوظيفة السياسية دون قيد ولا شرط، مما سيهيئ لشعوب العالم مستقبلا، يهون فيه ضرب الحريات وإشاعة عبودية جديدة "مذهبة" قوامها ضروب من القصور الفكري الإمعي الخادع، وأشكال من الاستعمار "المريح"، وأنماط من الاستغلال "المرتضى" "المحبب".

والغريب في الأمر أن الكثيرين من المثقفين هم الأبعد من أن تجتمع كلمتهم على سلطة رابعة منظمة، لأنهم قلما استطابوا المقام في رحاب الوظيفة الفكرية الثقافية، وهو مقام متعب دائما، مهلك أحيانا، بل كثيرا ما ينتقل العدد العديد منهم إلى الوظيفة السياسية وخاصة إذا هم كانوا صانعي تحول من التحولات وسريعا ما يتنكرون لانتمائهم الأول ليصبحوا أشد قسوة على المثقفين من غيرهم من السياسيين وأكثر نسيانا للميدان الثقافي الذي ترعرعوا فيه. وإذا هم قصروا عن التجلبب بجلباب السياسة لسبب من الأسباب فإنهم يرتاحون إلى وضع يمكنهم من القيام بنشاطهم الإبداعي أو العلمي في ظل سلطة سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، ولو أدى بهم ذلك إلى فقدان حريتهم ودوس كرامتهم والتنكر لما كانوا إليه يدعون وفي سبيله يناضلون.

خلاف المثقفين

والغريب في الأمر أن المثقفين هم الأبعد من أن تجتمع كلمتهم على الأساليب العملية الواضحة لقيام البعد الثقافي بدوره في المجتمع، بله الاتفاق على سلطة رابعة منظمة، لأنهم يعتقدون - وهم أصحاب الرأي والفكر وكل واحد "أمة برأسها" - أن ليس في الإمكان أن يتفقوا، والخلاف قائم حول طبيعة ومحتوى القيم التي ينبغي أن يتفق عليها المثقف مع صنوه. فكلما اجتمعوا وتناقشوا في هذه الأمور بعدت الشقة بينهم لأنهم في الواقع لم ينطلقوا - قصدوا أو لم يقصدوا - عن حسن أو سوء نية - من أرضية واحدة تفرضها الوظيفة الفكرية الثقافية في علاقتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بمؤسسات الدولة. والمفروض أن تكون هذه الوظيفة الفكرية الثقافية بعيدة عن كل أيديولوجيا وكل نرجسية، مبرأة من أي انتفاع شخصي أو فئوية أو "شللية" منحازة مضللة، مزورة عن أية مجاملة لأصحاب الوظيفة السياسية.

كيف يمكن لهذه الوظيفة الفكرية الثقافية أن تتجسم في الواقع الملموس، مثلما تجسمت السلطات الأخرى السياسية والتشريعية والقضائية، بعد أطوار مرت بها البشرية، تخللتها ضروب من الصراعات والاضطرابات، والكوارث سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لتصل هذه السلطة إلى ما وصلت إليه اليوم من درجة عالية في التنظيم والصلاحيات، وبرغم ذلك لا يزال الجدل قائما حولها تغييرا وتحسينا؟

وهكذا، تماشيا مع النسق الذي سارت عليه البشرية في تنظيم مجتمعاتها، رأيت أنه لا مناص من التفكير في سلطة رابعة منصوص عليها في صلب دستور كل بلد تستكمل بها الدولة سلطة هي في الواقع مسموح بها عرفا وعادة في أوقات الانفراج لأنها جزء من الديكور، منسية مضطهدة في الأزمات وزمن الجد والشدة عندما يتحتم أن تقوم بدورها. والمهم هو أن تكون هذه السلطة مجسمة فيما أسميه ببرلمان المثقفين الذي تمارس فيه بصورة قانونية مضبوطة الوظيفة الثقافية الفكرية.

من مهام هذه الوظيفة حراسة القيم الثابتة المرسومة ضمن دستور البلد وقوانينه المتماشية مع هذا الدستور لا الخارقة له، مثلما هو الشأن في كثير من بلدان العالم الثالث. بحيث تفرض هذه السلطة اتباع أخلاقية تضمن الحريات العامة والخاصة وتقي الجميع من إطلاق يد المتسلطين والمستغلين بتنبيه الرأي العام، والمناداة بتطبيق القوانين وسير المؤسسات سيرا قانونيا، ومن مهامها أيضا إبداء الرأي في القضايا والمشاكل التي تعترض المجتمع لإنارة الرأي العام، والتنبيه إلى التجاوزات التي تصدر عن السلطات الثلاث الأخرى دون استثناء بإقامة حوار دائم بينها بعيدا عن كل نزعة إقصائية وروح سلطوية وذهن نابذ لنسبية الأمور، لا رائد لهذه السلطة المعنوية إلا المصلحة العامة وتحكيم العقل ونبذ الدغمائية المقيتة الكارهة لكل تسامح وطرح "الشللية" المتسترة بالدين أو أيديولوجيا من الأيديولوجيات. ومن مهامها أخيرا وليس آخرا دعم الميدان الثقافي بإبداء الرأي في الملفات المهمة واقتراح الحلول وتمكين المثقفين من أداء مهمتهم الإبداعية والتنويرية على أحسن وجه.

تكوين البرلمان

ويحسن أن يكون لهذا البرلمان القدرة على التحصيل من الإدارة ومن المؤسسات على المعلومات لاستكمال النظر. أما المداولات فتكون سرية تفضي إما إلى لفت نظر سلطة من السلطات الثلاث أو هيئة من الهيئات السياسية أو غيرها إلى التجاوزات أو الإخلالات وذلك بصورة سرية مبدئيا. وفي حالة الإعراض عن تلافي الأمر يقرر برلمان المثقفين إطلاع الرأي العام عن طريق البلاغات أو البيانات أو الجلسات العلنية. وتكون وسائل الإعلام الحكومية أو الخاصة ملزمة دستوريا بنشرها أو بثها. وفي كل هذا لا بد أن يراعي هذا البرلمان مصلحة الدولة أولا وبالذات، وتنتهي مهمته عند هذا الحد ولسان حاله يقول: اللهم إني بلغت. والمجتمع بتنظيماته وهياكله ومؤسساته كل في نطاق صلاحياته كفيل عند ذلك باتخاذ ما يراه صالحا والوقوف الموقف الذي يفرضه الوضع.

وفيما يتعلق باختيار الأعضاء الذين سيضمهم البرلمان ( من الأحسن أن يكون العدد محدودا جدا ) فإن الجمعيات والرابطات والاتحادات الثقافية ترشح من يتقدمون لانتخابهم من الهيئات المديرة مجتمعة في مكان واحد.. وهذا مجرد مقترح تتم دراسته واستكماله من أهل الذكر من أصحاب القانون، وذلك للنظر في الصيغة المثلى وهل يحسن مثلا أن يكون الانتخاب على درجتين أم لا: الأولى تصدر عن الهيئات المديرة، والثانية تكون على النطاق الشعبي حتى يكتسب برلمان المثقفين التمثيلية الشعبية والسلطة الدستورية. ولا بد من ضبط الملامح التي تشترط في كل عضو يقبل هذه المهمة ويتم ترشيحه من الهيئات المديرة. فمن الواجب أن يكون معروفا لدى الخاص والعام بنشاطه الثقافي أولا، وكذلك بالنزاهة والانقطاع إلى الصالح العام، مشهورا بمواقفه الرصينة، وبحصافة الرأي والموضوعية وبالتسامح والعزوف عن نزعة الإقصاء وعن التحيز. كما أنه لا بد من أن يبتعد العضو أثناء انتسابه لهذا البرلمان عن كل نشاط نفعي أو تدخل شخصي لفائدة جهة أو شخص، بحيث يلتزم الحياد ولا يقوم بأي نشاط إلا في صلب البرلمان أو بتفويض منه، مع التمتع بحصانة تقيه من التأثر بأي ضغط من الضغوط أو التعرض إلى ما من شأنه أن يفت في عضده أو يضعف من عزيمته في القيام بمهمته على خير وجه. ومحصلة القول فإنه على العضو في هذه الهيئة أن يقبل على نوع من الاعتكاف والزهد في المنافع المادية طيلة مدة انتسابه لهذا البرلمان، اللهم إلا ما يصرف إليه من منحة تضمن له العيش الكريم. وفي اعتقادي أن هذه الفكرة ليست طوباوية كما يتبادر إلى الذهن، بل هي قابلة للتطبيق لو تضافرت جهود المثقفين أفرادا أو في صلب جمعياتهم وأقبلوا عليها نقاشا وإثراء، واقتنعوا بها ثم أقنعوا أصحاب السلطة السياسية وأشاعوها لدى الرأي العام وبينوا محاسنها، إذ هي لا تكون في آخر الأمر إلا عامل استقرار ودوام للدولة وحافزا لتقدم المجتمع ونهضته.

 

البشير بن سلامة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات