ونحن هنا نتحدث
عن التقدم والتخلف بمعناهما الاجتماعي فحسب ولا نريد أن نتحدث عن التقدم والتخلف
بمعناهما الاقتصادي أو السياسي مثلا، ذلك أنه برغم الترابط بين هذه الظواهر جميعا
وتبادل التأثير بينها وبين بعضها الآخر، فإننا سنحاول أن نعرض هنا للسلوكيات
الاجتماعية في حد ذاتها ومدى ما تعكسه تلك السلوكيات من أمارات التخلف.
ولن نحاول هنا أن
نتحدث عن هذه الأمارات على أساس ترتيب أهميتها، ذلك أنها أمارات تتداخل مع بعضها
البعض ويؤثر بعضها في البعض الآخر، ومن العسير كل العسر أن نقول إن هذه الصورة من
صور التخلف أكثر أهمية وأبعد دلالة من هذه الصورة، لذلك فإنه يجب ألا يفهم من عرضنا
لهذه الأمارات واحدة بعد الأخرى أن ما نذكره أولا يحظى بأهمية تسبق غيره من
الأمارات.
ولعل العبارة
التي تضمنتها مقدمة هذا المقال توحي لنا بواحدة من أبرز علامات التقدم
والتخلف.
لا شيء مطلق وكل
شيء نسبي.
هذه العبارة
البسيطة التي يوشك ألا يختلف عليها أحد لا يترجمها السلوك الاجتماعي ترجمة واحدة
وإنما يترجمها في صور مختلفة ومتعددة.
المجتمعات
المتقدمة تترجم هذه العبارة على نحو يرفض التعصب، لأن التعصب يقوم على المطلق، وترى
أن كل شيء نسبي بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه وحده يملك الحقيقة وأن الحقيقة
في ذاتها - عدا الحقيقة الإلهية - هي نسبية وليست مطلقة وهكذا يعطي هذا السلوك
مساحة للآخر، مساحة للرأي الآخر، مساحة لحق الاختلاف.
فإذا كان ذلك سمة
من سمات المجتمعات المتقدمة فإن الأمر في المجتمعات المتخلفة يسير على عكس ذلك
تماما.
التعصب للرأي سمة
من سمات المتخلفين، لأنه علامة على ضيق الأفق وعلى محدودية الرؤية، وفي المجتمعات
المتخلفة تجد الناس غير مستعدة لقبول فكرة أنها تصيب وتخطئ. إنها دائما على صواب
وغيرها إذا اختلف معها فهو دائما على خطأ، ومحاولة الإقناع بغير ذلك تذهب
سدى.
إن الآخر موجود
في الحقيقة ولكن ليس موجودا في وجداني. وجداني ليس فيه إلا "الأنا" أما الآخر فإنه
لا يعني شيئا بالنسبة لي، وبالتالي فأنا لا أعني شيئا بالنسبة له، ومن ثم فإن
السدود النفسية تقوم بين رؤية الناس وبعضهم البعض الآخر، ونعيش في جزر منفصلة لا
تعرف كيف تتصل وتتفاهم، لأنها لا تعرف كيف تختلف ولا تترك في عقلها وضميرها
ووجدانها مكانا للغير واجتهادات الغير ورؤية الغير.
وهذا هو أساس
التعصب للرأي. أساس التعصب للرأي يكمن في الجهل بالحقائق الإنسانية، يكمن في الجهل
بأن كل شيء نسبي وأن التعددية هي الطابع الأصيل للأحياء عندما يتطورون من مرحلة
الكائن ذي الخلية الواحدة إلى مرحلة الكائن ذي المخ البالغ التعقيد.
التعصب
والتطرف
والتعصب يولد
التطرف، والتطرف بدوره من أمارات التخلف وهو بدوره نفي للآخر وحكم عليه
بالعدم.
ولا يعني ذلك أن
المجتمعات المتقدمة "كلها" لا يعرف أي فرد من أفرادها هذه الأمارة التي تنطوي على
إنكار الآخر وعلى التعصب للرأي وبالتالي على التطرف. ذلك غير صحيح. ولكن في كل
مجتمع العديد من هؤلاء. ونعود للقاعدة فنقول إن كل شيء نسبي. كم يبلغ عدد هؤلاء إلى
المجموع العام. إن كانوا هم الغالبية فنحن إزاء مجتمع متخلف وإن كانوا هم الأقلية
فنحن إزاء مجتمع يغلب عليه التقدم.
وإذا صح ذلك
بالنسبة للمجتمعات المتقدمة فإنه صحيح أيضا بالنسبة للمجتمعات المتخلفة، ذلك أن
وصفنا لمجتمع بأن سلوكياته متخلفة لا يعني إطلاقا أن أفراده أجمعين يسلكون نفس
السلوك وبنفس القدر من الحدة والانغلاق والتعصب.
كل شيء
نسبي.
ومن أمارات
التخلف أيضا أن تجد الناس في سلوكهم يكرهون القانون، ولا يحبون الالتزام بأحكامه
وينتهزون كل فرصة لمخالفة القواعد القانونية باعتبار ذلك نوعا من الوجاهة ودلالة
على السلطة والسلطان.
المجتمعات
المتخلفة لا تؤمن بالقانون ولا تثق فيه وتنفر منه. ولعل أبسط القواعد القانونية
وأكثرها دلالة على ما نحن بصدده هي قواعد وقوانين المرور.
الناس في
المجتمعات المتقدمة يرون احترام القانون جزءا من نسيج حياتهم، والناس في المجتمعات
المتخلفة يرون في مخالفة القانون تأكيدا لذواتهم. إلى هذا المدى يظهر الفارق بين
سلوكيات مجتمع ومجتمع آخر.
ولا أستطيع أن
أنسى هنا حكايتين كنت شاهدا على كلتيهما، ويتعلقان بقواعد المرور ومدى الإيمان بها
ودلالة ذلك على التقدم والتخلف:
دعيت لمناقشة
رسالة للدكتوراة في إحدى الجامعات الفرنسية وبعد المناقشة دعاني الأستاذ المشرف إلى
العشاء في منزله وبعد أن انتهى العشاء اصطحبني إلى حيث أنزل في استراحة الأساتذة في
حرم الجامعة، وكان الوقت صيفا، وكنا قرب منتصف الليل، وكان الحرم الجامعي خاليا من
الطلاب ومن الأساتذة وكان حرم الجامعة كبيرا متسعا، كله حدائق وأشجار. وعند تقاطع
الطرق داخل الحرم توجد إشارات مرور تعمل بطريقة أوتوماتيكية. وصادف أن قابلتنا
إشارة حمراء فتوقف الأستاذ الفرنسي عن السير، واتجهت إليه في خبث مظهرا استغراب
تصرفه، ذلك أن الحرم خال تماما والوقت ليلا ولا وجود لشرطي المرور أصلا. فنظر إلي
الرجل قائلا - وكانت معرفتنا ببعض تسمح بالتبسط: - أتهزل أم تجد؟. قلت له: أنا جاد
في السؤال أليس لكل شيء ما يبرره؟ ما الذي يبرر وقوفك؟ وكنا قد اجتزنا الإشارة بعد
أن أضاء الضوء الأخضر، ولكن صديقي الأستاذ الفرنسي توقف ونظر إلي في شبه ذهول وهو
يقول: إن هذه الإشارة تمثل القانون أفلا أنصاع لحكم القانون؟! إن القانون جزء أساسي
من نسيج حياتنا وقد طلب مني القانون أن أقف فوقفت.
هذا ما كان في
حرم جامعة بوردو في فرنسا.
أما الحادثة
الأخرى التي عاصرتها أيضا فكانت في القاهرة. كنت أقود سيارتي الصغيرة متجها من
الجيزة إلى القاهرة، وبعد أن عبرت كوبري الجلاء مباشرة إذا بي أفاجأ باثنين من
الضباط الشبان يقود أحدهما سيارة صغيرة ويريد أن يعبر الشارع لكي يصل إلى الكوبري
الصغير ثم إلى ناحية الجيزة مخالفا كل قواعد المرور مخالفة صارخة وغلى الدم في
رأسي، ووقفت بسيارتي أمام الشابين وطلبت منهما الرجوع عن هذا الخطأ الفاحش ونظرا
إلي نظرة كلها ضيق، ولولا أنهما خشيا أن أكون لواء أو واحدا من ذوي السلطان ما
ارتدعا عن غيهما. وما أكثر مثل هذه الحكايات والنوادر في كل مجتمع
متخلف.
هاتان حكايتان لا
تبرحان ذهني لعمق دلالتهما على مدى احترام القانون ومدى الرغبة في كسره والاستهانة
به، حتى ممن يفترض أنهم خدمه وحماته.
التهرب
الضريبي
خذ أيضا موضوع
التهرب الضريبي. إنه في المجتمعات المتقدمة جريمة تدمر سمعة من تلحق به، وهو في
المجتمعات المتخلفة نوع من "الفهلوة والشطارة". وهكذا فإنك تستطيع أن تقول وأنت
مطمئن إن الإيمان بسيادة القانون ومراعاة أحكامه هي سمة من سمات المجتمعات
المتقدمة، وأنه على العكس من ذلك فإنه في المجتمعات المتخلفة تسود الرغبة في كسر
القانون والافتئات عليه والخروج على أحكامه. والناس في المجتمعات المتخلفة لا تصدق
أن قاعدة قانونية أيا كانت قيمتها تستعصي على المخالفة.
خذ قواعد القبول
في الجامعات في مصر. إنها توشك أن تكون القواعد القانونية الوحيدة الصارمة والمتبعة
فعلا بكل دقة وحزم. ومع ذلك فإن كثرة من الناس لا تريد أن تصدق ذلك وتسعى بكل جهدها
لكي تخالف هذه القواعد، حتى وإن ثبت لها مرة ومرة أن ذلك غير مقدور
عليه.
وخذ إلى جوار ذلك
- من المعلومات التي يحكم بها على المجتمعات البشرية وسلوكيات الناس - قضية احترام
الوقت فإنك واجد هذا الأمر من الأمور الحاسمة التي تفرق بين المتقدمين
والمتخلفين.
الوقت عندهم هو
الحياة، والحياة غالية وقيمتها ثمينة وتحسب بالدقائق والثواني. والناس يعرفون ماذا
سيفعلون غدا وبعد غد وبعد شهر وعدة شهور، ويعرفون ذلك بالساعة والدقيقة ويرتبون
أمورهم مع أنفسهم ومع غيرهم. وعند المتخلفين ماذا يحدث؟! ما أكثر ما ينقض عليك أناس
كالقضاء المستعجل بغير موعد ولا اتصال فإذا أبديت ترددا في استقبالهم أو حاولت أن
تنبههم أنه كان عليهم أن يطلبوا موعدا ازوروا وغضبوا واعتبروا ذلك إهانة لهم. وقد
يقول لك أحدهم سأمر عليك الأسبوع القادم إن شاء الله. قارن هذا بقول الآخر سأمر
عليك بعد غد الساعة السادسة والنصف مساء (مثلا). هذه هي قيمة الوقت وهي أحد
المعايير الواضحة التي تفرق بين هؤلاء وهؤلاء.
النفور من
الفعل
ومن الأمور التي
لا تخطئها عين فاحصة غرام المتخلفين بالكلمات الرنانة والشعارات والقسم بالأيمان
المغلظة فيما لا مبرر له، كل ذلك مع نفورهم من "الفعل" واكتفائهم باللافتات
والشعارات. يتحدثون عن الأمجاد الغابرة وينسون هوان الحاضر، يتشدقون بالكرامة
وعندما يتصرفون، يتصرفون على عكس ذلك تماما. يقولون إن العمل شرف وهم لا ينفرون من
شيء قدر نفورهم من العمل. إنهم يريدون أن يتكلموا فقط ويريدون أن يعمل لهم غيرهم ما
يريدون عمله وما يحتاجون إليه ثم بعد ذلك يفاخرون العاملين. إن الإشباع عند
المتخلفين إشباع "كلامي" إشباع شعارات هم يكتفون "بالكلامولوجيا" وغيرهم لا يقنع
إلا "بالتكنولوجيا".
والأمارات كثيرة
والحديث لا ينتهي إذا أردنا أن نتتبعها في المجتمعات المتخلفة ولكني أحب أن أوضح
هنا عدة أمور:
أولا:
أنه لا يوجد مجتمع من المجتمعات يتكون "كله" من أفراد متحضرين متقدمين في
سلوكياتهم، ومجتمع آخر يتكون "كله" من متخلفين يتصرفون في كل تصرفاتهم على نحو ما
أسلفنا.
ثانيا:
أن التقدم والتخلف ليسا من الحقائق الخالدة الدائمة الثابتة التي لا تتغير. فكم من
شعوب كانت متقدمة أو كانت على طريق التقدم ثم انتكس خطوها.
لقد قاد الإغريق
التقدم البشري كله قرونا من الزمان ثم انتكسوا وتخلفوا مع المتخلفين، ولم تبدأ
مسيرتهم نحو التقدم من جديد إلا أخيرا.
وكانت أوربا تعيش
في ظلام دامس عندما كانت الأمة العربية في ظل الدولة الأموية والدولة العباسية تعيش
حضارة مزدهرة وسلوكا متقدما وانقلبت الأوضاع الآن وتغيرت الصورة تماما.
ثالثا:
أن لا شيء يحدث من تلقاء نفسه، وأن عصر المعجزات قد انتهى، وأن التخلف له أسبابه،
وأن التقدم له أسبابه، ولن يتحقق شيء دون أن تتحقق أسبابه.
وفقنا الله إلى
أسباب التقدم.