نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة شوقي جلال

نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة

تمثل الترجمة نشاطا اجتماعيا في الاتجاه الصحيح، حين تكون وجها لاستراتيجية تنموية شاملة، ومن ثم دافعا قوميا، وحاجة فعلية وليدة نشاط اجتماعي إنتاجي، وبذا تكون بحق بعض النشاط المعبر عن الهوية الثقافية للمجتمع، وتسهم الترجمة إيجابيا في تعزيز وجودنا المستقل، ودعم الروابط المشتركة لأبناء المجتمعات العربية وتوحيد ثقافتهم وفكرهم المشترك من خلال نظام تعليمي علمي مشترك، ونشاط علمي موحد أو متناسق، حيث يصبح النشاط العلمي نشاطا مؤسسيا لمجتمع علمي موحد اللغة ومتكاملا مع المجتمع الواسع.

ومن التحديات التي تواجهنا في مجال الترجمة، علاوة على التحديات الحضارية، أننا لا نجد إجابة واضحة عن تساؤلات كثيرة:

لماذا نترجم؟ وماذا نترجم؟ ومن الذي يترجم؟ ولمن نترجم؟ ومن الناشر؟ وكيف نختار لكتب المستهدفة؟ وما مدى علمنا بالمنشور كله؟ ومدى علمنا بأهداف مجتمعنا، أي مدى تأصل هذه الأهداف - إن وجدت - في بنية الوعي والقيم الاجتماعية؟ ومن الذي يوجه حركة الترجمة في مجتمعنا الآن إن صح تسميتها حركة اجتماعية؟ وما هو دور مؤسسات النشر في تشجيع الحركة وانتمائها؟ والملاحظ أن نسبة كبيرة من المترجمات تدفع بها مؤسسات خارجية لها رؤيتها الخاصة المتمايزة. ثم أخيرا أين تصب جهود الترجمة في المجتمع؟ وهل من سبيل للتنسيق المثمر بين هذه الجهود من حيث الاختيار والإصدار والانتشار؟

وضاعف من خطر التحديات أن تضاعفت كلفة طبع ونشر الكتاب بعد ارتفاع أسعار الورق وما فرضته اتفاقيات دولية جديدة.

نحن مقبلون على حقبة تثاقف قسري مكثف، أو صراع ثقافي غير متكافئ. وهذه الحقبة أحد مظاهر التحدي الحضاري، سواء جرى التثاقف باسم المتوسطية أو الشرق أوسطية، أو العالمية. ونحن في جميع الأحوال عاطلون من أسباب المناعة الثقافية التي يمثل العلم والإنتاج العلمي ركيزتها مما يجعلنا فريسة محتملة، وبدلا من أن يكون التفاعل ثقافيا صحيا سوف يتراوح ما بين الارتماء على الآخر أو الانكفاء على الذات، ونغدو نماذج لتاريخ انقرض.

إنها تحديات توجب اتخاذ خطوات جديدة جريئة غير مألوفة بدلا من - أو قبل - أن نصبح بالحتم فريسة للأمية العلمية والضياع، حين نسير في الترجمة فرادى على غير هدى، أو يعز علينا الحصول على الكتاب لتجاوز كلفته حدود الطاقة. الخطر جماعي، ومن ثم يتعين أن تكون الاستجابة جماعية، أعني التزام نهج قائم على حشو الطاقات لا يلغي خصوصية النشر وإنما يجمع وينسق.

من هنا أدعو إلى قيام "مؤسسة عربية للترجمة". وأتجه بهذه الدعوة من منطلق الإيمان بأن الترجمة نشاط اجتماعي هادف له عائده المجتمعي الشامل، ومن مقتضى تضافر الجهود لتصب الروافد في مجرى رئيسي قادر على المواجهة وخلق الإمكانات والتقدم في ثقة واعية.

ويحفزني إلى هذه الدعوة إيمان بأن المجتمعات العربية لن تتمكن من تشكيل كيان مستقل متميز يسهم في إحياء الفكر الوطني والقومي الثقافي والحضاري في اتساق مع العصر دون نهضة تنموية شاملة تطول مناشط الحياة، ومن ثم تجد تعبيرها الصادق في اللغة التي تغدو لغة تعلم وتفكير وممارسة وإبداع .. أي لغة إنتاج حضاري علمي جديد، ولن يتأتى هذا بصورة متكاملة وهادفة ودامغة إلا بإنشاء مؤسسة تنسق بين دور للترجمة قادرة على خلق حركة ترجمة واسعة تستوعب جميع التيارات على اختلافها، وتستقطب الكفاءات، وتجعل لنشاط الترجمة دورا ومكانة في مجتمع يقدر إنتاجها، ويؤازر جهودها، ويتولى أمرها من يؤثرون العلم وصالح الوطن على المغانم الأنانية العاجلة.

شروط نجاح المشروع

وتحقيق هذا لا يتوقف على اعتبارات فنية فحسب، ولكنه يستلزم رؤية سياسية على جميع المستويات: الدولة، والمؤسسات، والهيئات، والأفراد في المجتمع، حيث تتضافر الجهود قوميا ووطنيا لمواجهة الصعوبات من أجل فرض:

1 - استراتيجية تنموية شاملة تتخذ العلم أساسا وهاديا لها وتحتل بؤرة الوعي العام، وتقوم على وعي علمي بالتحديات والأهداف.

2 - تحول النشاط العلمي إلى نشاط مؤسسي داخل في صلب هذه الاستراتيجية وداعم للمناخ العلمي المحيط بالوعي الاجتماعي.

3 - وضع تعليمي يضع نصب عينيه غرس التفكير العلمي منهجا ومبحثا ونظريات.

4 - وضع ثقافي عام تجسده وسائل الإعلام والممارسات الحياتية والانفتاح الفكري على الفكر العالمي بكل صوره المتعددة وبكل تناقضاته معنا.

5 - الحرية وحقوق الإنسان العام. ذلك لأن الترجمة في العالم العربي لا تزال جهد دولة مركزية يخضع لسلطانها، ولهذا تنزع إلى الترجمة الأدبية أو التقنية التي لا تتعارض مع بطش السلطة.. السلطة السياسية أو الثقافية الموروثة.. وغني عن البيان أن عصر العلم رهن الديمقراطية.. إذ إن ما قبل المجتمع الديمقراطي نشاط قبل علمي.. وكلما اتسع نطاق الليبرالية اتسع نطاق النشاط العلمي بمدلوله ومضمونه الاجتماعيين، وحيث لا توجد نهضة حداثية حقيقية يقل الاهتمام بالجانب العلمي، وتضيق مساحة التفكير العلمي المنهجي.

والإنجاز العلمي يوصف بحق بأنه إنجاز عصر العلم لمجتمع ديمقراطي، أي مجتمع الإنسان العام الذي أصبح صاحب حق في المشاركة في صنع القرار ورسم طريق الحياة بناء على فكر حر، وحرية الوصول أو الحصول على المعلومات ونقدها والتمرد العقلاني المنهجي عليها.. ولهذا فإن البعد السياسي والاقتصادي مكمل للبعد العلمي التعليمي الثقافي. ودون هذه الشروط تفقد الترجمة العلمية الدافع إليها والسوق الرائجة لها.

وأرى أن تكون المؤسسة العربية للترجمة أشبه بالمنظمات غير الحكومية بعيدا عن سلطة السياسة والساسة كجهاز دولة حاكم وإن ضمت عناصر منها بحكم دورهم في النشر أو الفكر، وبعيدا عن الفردية كنزعة تنأى عن المشاركة الإيجابية فيما هو اجتماعي.

الدور المنتظر للمؤسسة

نتوقع أن يكون للمؤسسة العربية في ظل هذا المناخ وفي مواجهة التحديات الحضارية دورها الذي يفي بحاجة أمة تعي عبء مسئولية النهضة وشروطها، وحقيقة التكتلات الإقليمية وتدرك أسس التكافل والتضامن على الصعيد الاجتماعي الوطني والقومي. ومن هنا يتمثل الدور المنتظر في:

1 - جمع وتوحيد وتنسيق جهود الترجمة والنشر، والتكافل في التكاليف من أجل إصدار الموسوعات وعيون المراجع والمعاجم التي تشكل حجر الأساس لأي نهضة علمية.

2 - خلق حركة ترجمة تتسع لجميع التيارات في تفاعلها وتداخلها وتعارضها في آن واحد بحيث تكون الترجمة آلية ضرورية تلبي حاجة ملحة وواسعة النطاق مما يدعم كلا من التوجه الفكري وحاجة السوق.

3 - تجنب الأثر السلبي لطابع التربح التجاري والاختيار الفردي أو العشوائي الارتجالي في مجال الترجمة سواء للكبار أم للأطفال.

- خلق صلة إيجابية فاعلة مع المجامع العلمية بغية توحيد المصطلحات وإصدارها ضمن المنشورات لتكون مرجعا.

5 - التعاون بين الناشرين لإصدار ثبت ببليوجرافي سنوي بالمنشورات المترجمة وعرض خطط المستقبل لتكون موضوع حوار، فضلا عن ندوة ليكون الحوار والندوة بمنزلة تغذية مرتدة تراجع وتضيف وتصحح وتحفز المناخ العام.

6 - خلق غرفة اتصال للتنسيق وتبادل المعلومات بشأن الموضوعات والمصطلحات.

7 - تحقيق تكامل اقتصادي في مجال النشر وتكافل في التوزيع، وتعاون في إقامة معارض مشتركة متنقلة في الأقطار العربية.

8 - يمكن للمؤسسة الاتفاق باسم أطرافها مع الناشرين الأجانب، ومخاطبة دور النشر العالمية لعقد اتفاقات نشر مشترك أو للحصول على قوائم بالمنشورات تحت الطبع لاختيارات المستقبل.

9 - تحديد وسيلة، دون فرض رقابة، لضمان غلبة الجيد في السوق، بمعنى المتفق مع خطة البلاد التنموية في خطوطها العريضة على المستوى القومي.

10 - يمكن للمؤسسة أن تكون لسان حال اتحاد الناشرين العرب في الاتفاق مع الوزارات والهيئات الحكومية العربية لتزويد المكتبات العامة ومكتبات المدارس والهيئات بإصداراتها مما يساعد على رواج الكتب.

11 - يمكن للمؤسسة أن تجري اتفاقات مع المجالس القومية والأجهزة الثقافية في البلدان العربية، ومع منظمات الجامعة العربية وكذا مع المنظمات والبعثات والمراكز الثقافية الدولية (اليونسكو - البعثة الفرنسية - الاتحاد الأوربي - فرانكلين .. إلخ) ومع الحكومات والمجامع العلمية والاتحادات والنقابات لإصدار الكتب والمجلات العلمية والإفادة بامتيازات هذه الجهات في حدود التوجه القومي.

ولعلنا نفيد في هذا الصدد من التجربة اللبنانية حيث تتعاون دور النشر اللبنانية بفضل علاقاتها الوثيقة مع عدد من المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة أو للجامعة العربية في نشر إصدارات هذه المنظمات.

والجدير بالذكر هنا أن منظمة اليونسكو العالمية اقترحت في عام 1992 مشروع "الكتاب - الجريدة" لتطبيقه في عدد من البلدان ومنها البلدان العربية، ومن المتوقع أن يشهد آخر عام 1996 ولادة شبكة صحف يومية صادرة باللغة العربية برعاية منظمة اليونسكو من أجل إصدار دوري لملحقات أدبية مجانية.

والهدف من المشروع إصدار عمل أدبي معاصر شهريا في صورة ملحق صغير مترجم تزينه صور ورسوم فنانين معاصرين، مع تعريف بكاتب النص. وتشمل الترجمة: روايات - مجموعات قصصية - مختارات شعرية. وتقرر أن يكون مركز هذه الشبكة العربية في بيروت. وسوف تحوز الشبكة على دعم تنظيمي ومادي من منظمة اليونسكو.

وسواء كانت الترجمة هنا من العربية أم إليها فإنها تستهدف الربح فضلا عن أن الاختيارات لا تخضع لخطة ضمن استراتيجية تنموية شاملة، ناهيك عن تفرد الجانب الأدبي دون العلمي. ولكن إذا ما تحقق حلم إنشاء مؤسسة عربية للترجمة فسوف يتغير الموقف.

12 - تسهم المؤسسة في التعريف بالمترجمين وتنظيم رابطة لهم ودعم اتحاد الناشرين العرب حيث تعتبر المؤسسة الوجه التنفيذي التنسيقي العربي للاتحاد.

13 - خلق رابطة عمل بأجهزة الإعلام والصحافة لخدمة نشاط النشر.

14 - تتفق المؤسسة مع عدد من المؤسسات والشركات والاتحادات في البلدان العربية (التي تقبل طوعيا الإسهام بنسبة من صافي الأرباح السنوية، وقد تكون نصفا في المائة، فضلا عن الهبات من الأفراد والهيئات العامة والخاصة). وليس هذا بدعا فقد اعتاد أهل السياسة والجاه والمال ورجال الأعمال الإسهام في تنشيط حركة الترجمة والتأليف لما أدركوه من تفاعل بين مجالات اهتماماتهم واهتمامات عدد من العلوم. ويشهد مجال النشر العديد من أمثلة التمويل الطوعي لهذا الهدف وإن كانت المشكلة هنا ضمان براءة التمويل والتبرع دون الحاجة إلى زج أو فرض اتجاهات أيديولوجية وحجب أخرى على حساب استراتيجية قومية. ومن حسن الحظ أن دولة الإمارات العربية قد تبنت هذا المشروع وشرعت في الخطوات الأولى لتنفيذه.

الفكرة والتاريخ ودور الكويت

والدعوة إلى "مؤسسة عربية للترجمة" ليست وليدة اللحظة. إذ سبق أن دعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في عام 1973 إلى عقد "حلقة الترجمة في الوطن العربي". وانعقدت الحلقة في الكويت في 31/12/1973. وبحثت في: "تنسيق حركة الترجمة في البلاد العربية، وإقامة جهاز تنسيق على صعيد العالم العربي يتولى وضع خطة قومية للترجمة بالاشتراك مع الأجهزة الوطنية وبالتنسيق مع المنظمات الدولية والمؤسسات العلمية الأجنبية المعنية بالثقافة العربية".

وفي الفترة من 8 إلى 11 نوفمبر 1982 عقدت أمانة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت الندوة الثانية بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والعلوم واتحاد الناشرين العرب. أصدرت الندوة توصيات من بينها:

- إنشاء مؤسسة عربية للتعريب والترجمة والتأليف والنشر تكمل عمل المؤسسات القائمة.

- تنفيذ الخطة القومية للترجمة التي وضعتها المنظمة العربية.

وتوالت اللقاءات بعد ذلك ولم ينجح شيء. بيد أن هذا لا يحول دون إحياء الذكرى أو الإلحاح في الطلب ما دام أنه حق.. وإن كانت دونه مخاطر ليس أقلها شيوع الفردية في العمل وفي التفكير بين الدول والهيئات، وغياب استراتيجية تنموية قومية ملزمة ودافعة، بل غياب الوعي بالتحديات وفقدان العزيمة المشتركة لمواجهتها، ثم الافتقار إلى قيم عمل الفريق .. ولكن ربما ننجح في الاستهلال بالخطوة الأولى التي دونها لا تبدأ مسيرة الألف ميل.

وسوف تظل هناك تساؤلات كثيرة معلقة دون ريب، ربما تجيب عنها ندوة، أو خطوة جريئة بين دارين أو ثلاث من دور النشر تمثل النواة والطليعة وتكون شهادة جدوى.

 

شوقي جلال

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات