الشعر الجاهلي وخلفيته الأدبية جابر عصفور
الشعر الجاهلي وخلفيته الأدبية
على هامش كتاب
(2) ظهر العدد الأول من المجلة الثقافية "السياسة الأسبوعية" في صباح السبت الثالث عشر من (مارس) 1926. وهي المجلة التي أصدرتها جريدة " السياسة" اليومية لسان حال حزب الأحرار الدستوريين التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل، وإلى جانبه صديقه وزميله في الحزب طه حسين مشرفا على القسم الأدبي من المجلة التي ظهرت بعد أربع سنوات تقريبا من ظهور الجريدة الأم في (أكتوبر) 1922. وكان العدد الأول من "السياسة الأسبوعية" يضم موضوعين لطه حسين المحرر الأدبي. الأول مقال نقدي عن كتاب لرئيس التحرير هيكل، صدر عن المطبعة العصرية سنة 1925 بعنوان "في أوقات الفراغ". والثاني مقتطف من كتاب جديد تحت الطبع للمحرر الأدبي تحت عنوان "الشعر والشك فيه". وتحت العنوان تعريف يقول: من كتاب تحت الطبع وضعه حضرة الدكتور طه حسين أستاذ الآداب العربية بالجامعة المصرية. وعنوان الكتاب في الشعر الجاهلي. وهذا العنوان واضح الدلالة على موضوع الكتاب. وسيظهر هذا الكتاب في أوائل الأسبوع المقبل مطبوعا طبعا متقنا في مطبعة دار الكتاب المصرية بالأميرية. وها نحن أولاء نقدم للقراء مقدمة الكتاب ومنهج البحث ".ولم يظهر كتاب"في الشعر الجاهلي" في أوائل الأسبوع المقبل كما أعلنت المجلة في عددها الأول. وإنما ظهر بعد صدور العدد بثلاثة أسابيع، تحديدا في صباح السبت الثالث من (أبريل) 1926م وقد أعلنت جريدة "السياسة" عنه لأول مرة في عددها الصادر صباح الأحد الرابع من (أبريل). في خبر يظهر المحتوى المحايد للكتاب دون إشارة إلى طبيعته الخلافية. وكانت هذه الطبيعة الخلافية متوقعة حتى من قبل ظهور الكتاب الذي ترصدته المجموعات الأدبية المحافظة. وترقبت صدوره في ريبة وسوء ظن، في سياق من النفور الذي أثارته دراسات طه حسين في تاريخ الآداب العربية ومنهجه التاريخي الجديد الذي انطوى على مبدأ الشك بوصفه سبيلا إلى الحقيقة العلمية. وهو المنهج الذي زعزع في غير رفق ثوابت المفاهيم الأدبية المتوارثة لهذه المجموعات. واستبدل بطرائقها النقلية طرائق الاستشراق العقلانية، وبتقاليد تقديس الماضي قواعد النقد التاريخي الذي ينظر إلى القدماء من حيث هم أناس، وتحليل أخلاقهم وعاداتهم وأفعالهم بما يلائم بينها وما اكتنفها من الظروف والأحوال. تباعد مع المحافظين وترجع البداية اللافتة لهذا السياق من النفور إلى أكثر من عشر سنوات سبقت صدور كتاب "في الشعر الجاهلي"، واستهلتها الاستجابة العدائية إلى رسالة طه حسين عن أبي العلاء المعري التي نال بها أول درجة للدكتوراة تمنحها الجامعة الأهلية (سنة 1914) والتي استثارت المجموعات الأدبية المحافظة، حتى من قبل صدورها كتابا في السنة اللاحقة (1915). وبلغ الهجوم عليها من هذه المجموعات، في موازاة مقالات الصحف المضادة. إلى درجة أن عضوا من أعضاء الجمعية التشريعية تقدم باقتراح إلى الجمعية، يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة، لأنها خرجت ملحدا هو صاحب رسالة ذكرى أبي العلاء. وكان سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية المنتخب رئيس لجنة الاقتراحات في ذلك الوقت. فلما عرض عليه الاقتراح دعا صاحبه للقائه، وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه، فلما أبى قال له سعد: إن أصررت على موقفك فإن اقتراحا آخر سيقدم، وسيطلب صاحبه إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر، لأن صاحب هذه الرسالة عن أبي العلاء تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة. واضطر الرجل إلى أن يسترد اقتراحه، وسلمت للجامعة معونتها. لكن بقي في نفوس المجموعات الأدبية المحافظة أول النفور من النهج الذي يقارن به طه حسين الآداب العربية. وتزايد هذا النفور بعد أشهر معدودة، تحديدا في السادس عشر من (فبراير) 1915 عندما كتب طه حسين في جريدة "الوطن" عن "درس الأدب العربي في الجامعة المصرية"، وكان في إجازة من بعثته إلى فرنسا. مهاجما المنهج القديم الذي كان يستخدمه أستاذه الشيخ محمد المهدي في تدريسه بالجامعة. وهو الهجوم الذي كاد يحول بين طه حسين وإكمال بعثته لولا تدخل أحمد لطفي السيد وعبدالخالق ثروت لإصلاح ما فسد بين التلميذ المحدث وشيخه القديم الذي كانت طريقته في التدريس نموذجا لطرائق المقلدين من أهل النقد. وتصاعدت حدة النفور بعد عودة طه حسين من فرنسا وتدريسه الآداب العربية من منظور منهجه التاريخي الجديد بعد أن قام بتدريس التاريخ اليوناني لفترة قصيرة. وازدادت الاستجابة السلبية لهذا المنهج عنفا من مواقع المجموعات الأدبية المحافظة، عندما استهل طه حسين مقالاته ومحاضراته في العشرينيات الأولى بالموضوع الإشكالي عن الصراع بين القدماء والمحدثين، ناظرا إلى الموروث الأدبي بعيني الحاضر، مؤكدا التجاوب بين الماضي المستعاد والحاضر المتحول، في الثورة الدائمة على عناصر الثبات، والتجدد المتصل لعناصر التغير، دعما للقيم المحدثة التي انحازت إليها الطليعة الأدبية التي تحلقت حول جريدة "السياسة". وتبناها حزب الأحرار الدستوريين ضمن نزوعه الليبرالي العام. ويكتب طه حسين في جريدة "السياسة"، في الرابع والعشرين من يناير 1923، متحدثا عن الذين ينكرون عليه وعلى "السياسة" ما يكتبه في "حديث الأربعاء"، معلنين إنكارهم في الصحف المعارضة. مطالبين"السياسة" أن تصلح هذا "الحديث"، وتعدل به عن الشر إلى الخير، زاعمين أن ما يتحدث عنه من خصومة بين قدماء ومحدثين في العصر العباسي إنما هو إفساد للشباب وتشويه للتاريخ وهدم لصورة الماضي الزاهر. ويعاود الكتابة في اليوم الأخير من الشهر نفسه، متحدثا عن اضطراره إلى استئذان رجال الأدب القديم من المعاصرين في أن يكون جريئا وحرا في دراسته للقرن الثاني للهجرة، راجيا ألا تغضبهم الجرأة وألا تسوءهم الحرية، لأنه مدفوع إليهما دفعا بأمانة الباحث وحرصه على التجرد من الأهواء والأوهام. ويرد في الشهر التالي، من العام نفسه، على أولئك الذي يسبغون على التاريخ الإسلامي من صفات الجلال والتقديس ما ليس فيه، مدفوعين إلى ذلك برغبة التعويض عن هوان الحاضر الذي يريدون أن يستبدلوا به ماضيا مثاليا نقيا من كل النقائص والشوائب. ويندفع في العام اللاحق إلى الشك في الوجود التاريخي لشعراء الغزل العذري، بعد أن أهاج المجموعات المحافظة بالشك في الصورة التي توارثوها عن العصر الذهبي الأدبي عن العرب. ويؤكد، فيما نشرته "السياسة" في الثالث من سبتمبر عام 1924، أنه لا يزال منذ بدأ أحاديث الأربعاء وهو يغضب طبقات من الناس، حتى أصبح لا يدري أي الطبقات يرضى عما يكتب ويطمئن إليه، طائفة غضبت لأنه وصف العصر العباسي بالمجون والشك، وأخرى غضبت لأنه قدم أبا نواس على بشار، وثالثة لا بد أن تغضب لأنه ينكر وجود طائفة من الشعراء الغزلين، أو يجحد شخصياتهم، زاعما أن هؤلاء الشعراء بين اثنتين: إما أن يكونوا أثرا من آثار الخيال قد اخترعهم اختراعا، وإما ألا تكون لهم شخصية بارزة ولا خطر عظيم، وإنما عظم الخيال أمرهم وأضاف إليهم ما لم يقولوا وما لم يعملوا، واخترع حولهم من القصص ألوانا وأشكالا جعلت لهم في الأدب العربي هذا الشأن العظيم الذي لا يكاد يقوم على شيء. ومن الدال أن يكتب طه حسين في هذا "الحديث" الأخير بعض ما سوف يكتبه عن الشعر الجاهلي بعد أقل من عامين. متوسعا فيما بدأه من إنكار طائفة من الشعراء. ومكررا ما سبق أن أعلنه من أن فريقا غير قليل من الذين يعنون بالأدب لا يحبون هذا النحو من البحث الذي ينتهي إلى الإنكار أو إلى الشك، وإنما يريدون أن يكون البحث كله إثباتا ويقينا، وأن ينتهي البحث كله إلى إثبات ويقين. وإن أردت أن ترضي هذا الفريق من الناس، فيما يقول، فتملق حبهم للعرب وإسرافهم في هذا الحب، وأضف إلى العرب ما قالوا وما لم يقولوا. واجعل أمتهم أشرف الأمم، ولغتهم أشرف اللغات، وأدبهم أرقى الآداب، لا تحسب في ذلك حسابا، ولا تنتهي فيه إلى مقدار. ولا تعترف للأمم الحديثة بشيء إلا أن تكون قد ورثته عن العرب ونقلته عنها نقلا. واسلك في الأدب لترضي هؤلاء الناس مسلك قوم في السياسة، فيما يؤكد، واتخذ الحقائق الأدبية موضوعا للتضليل كما يتخذون المنافع السياسية، تفز بما شئت من تصفيق وإعجاب، وبما أحببت من حمد وثناء. ولكنك تسيء إلى العلم وتعتدي عليه، فاختر بين رضا العلم ورضا الجماهير. صراع الطليعة والجماهير ولا شك أن هذا النوع من "حديث" طه حسين الذي لا ينسى السياسة حين يتناول الأدب، ولا ينسى الصدع القائم بين الطليعة والجماهير، ولا يكبح جماح انفعاله الساخط على ما يلاقيه من استجابة سالبة إلى ما يكتب، إنما هو إشارة غير مباشرة في ازدواجها الذي يشير إلى بعض أجواء الصراع بين الأقلية الليبرالية التي تنتمي إلى الأحرار الدستوريين والأغلبية الشعبية التي تنتمي إلى الوفد، كما يشير إلى ما يعانيه الوعي الأدبي المحدث من هامشية تناوشها اتهامات المجموعات التقليدية بوجه عام. وتلك أجواء دفعت طه حسين إلى أن يعلن إيثاره "رضا العلم والضمير" على " رضا الناس وإعجابهم وتصفيقهم". ويتقدم إلى قرائه في " السياسة " (مع مطالع سبتمبر 1924) بالصدمة الأولى من نظريته التي قامت على الشك في غير تلطف ولا احتيال. ويزعم أن طائفة الشعراء الذين أسماهم " الغزلين " من أمثال قيس بن الملوح و ووضاح اليمن وغيرهما، لم يكن لهم من الشأن في تاريخ الأدب العربي ما يظنه الناس، وأنه يشك الشك كله في وجودهم. والواقع أن نظرية " الشك " ملكت على طه حسين عقله منذ أن حضر في 1923 مؤتمرا للعلوم التاريخية في بلجيكا، تعرف فيه على أحدث طرائق الشك المنهجي وأساليبه في البحوث التاريخية. وقد عرض ذلك في تقرير عن المؤتمر نشره على حلقات في جريدة " السياسة " منذ أواخر أبريل 1923. وأفاد من هذه النتائج فيما كتبه عن الغزلين ( منذ الثالث من سبتمبر 1924 ) واصفا قيس بن الملوح بالصفات نفسها التي وصف بها الأستاذ " دوبريل " شخصية سقراط التي شك في وجودها التاريخي، منتهيا إلى أن قيس بن الملوح إنما هو شخص من هؤلاء الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، أو نحو خاص من أنحاء الحياة. كما فعل اليونان عندما اخترعوا شخصية هوميروس، وأبدعوا من الأناشيد المختلفة ما نسبوه إلى شخص هوميروس الخيالي. وأكد طه حسين ذلك في حديثه عن " هوميروس " نفسه، الحديث الذي استهل به ما كتبه عن "قادة الفكر" في مجلة "الهلال" (أول أكتوبر 1924 ) بعد شهر واحد من الشك في الغزلين. ولم يتوقف طه حسين عند هذا الحد. بل مضى في الشك خطوة أبعد من الخطوة التي خطاها في مقالات "حديث الأربعاء" التي استعدت المجموعات الأدبية المحافظة من قبل أن تصدر كتابا بالعنوان نفسه سنة 1925، وتوسع في الشك عندما عاد إلى الوراء في الزمن التاريخي للأدب العربي، فشمل بشكه الأدب الجاهلي كله، معلنا في جريدة " السياسة " ( في العاشر من سبتمبر 1924 ) أنه يفهم الأدب العربي ويحكم على ظواهره كما يفهم الأوربيون أدب اليونان والرومان ويحكمون على ظواهره. وكما تشكك الأوربيون في الوجود التاريخي لناظم " الإلياذة " تشكك طه حسين فيما يقابل ذلك في الآداب العربية، حيث الشعر الجاهلي الذي تواتر الجميع على تصديقه بوصفه الأصل الإبداعي الأمثل للهوية التي صيغت ملامحها في مراحل متأخرة. الدوي يتسع وقد انشغل طه حسين بالشك في الشعر الجاهلي، وشغل طوائف المثقفين به قبل صدور كتابه بأشهر. إذ قدم مادة الكتاب في دروسه الجامعية التي دفعت المتأدبين الذين استمعوا إليها إلى التعليق عليها في الصحف السيارة، وألقى المادة نفسها في محاضرات عامة على خشبة مسرح دار التمثيل العربي بحديقة الأزبكية، فاستثارت المحاضرات من عقبوا عليها في الصحف نفسها. واستمر ذلك طوال الأشهر الثلاثة السابقة على ظهور الكتاب الذي أذاع طه حسين أفكاره ثلاث مرات. الأولى بين الطلاب، والثانية بين جمهور أوسع من المثقفين، والثالثة في كتاب مطبوع، جذب إليه الأنظار، وترقبته مجموعات قرائية مستريبة متربصة، مترصدة. قبل الفراغ من طبعه. وقد شهد شهر يناير من ذلك العام بداية الدوامة التي سرعان ما اتسعت دوائرها شهرا وراء شهر إلى أن صدر الكتاب في الثالث من أبريل 1926. وكانت جريدة السياسة نفسها هي المنبر الأول الذي شهد بداية الاختلاف الموضوعي مع شك طه حسين في الوجود التاريخي للشعر الجاهلي في دروسه الجامعية. فقد نشرت الجريدة في عددها الصادر صباح الأربعاء الثالث عشر من يناير مقالا في صدر صفحتها الأولى. بعنوان " الجامعة المصرية ودراسة آداب اللغة العربية " بقلم عباس فضلي القاضي بالمحاكم الأهلية، يرد على ما استمع إليه في محاضرة حضرها لطه حسين في الجامعة، تحدث فيها عن تأثير الوثنية واليهودية والنصرانية في الشعر الجاهلي منتهيا إلى أن ما وجد من الشعر مشتملا على مبادئ هذه الديانات إنما هو مدسوس على من نسب إليهم وإنه لم يكن موجودا في عصرهم ، فقد محا العرب بعد الإسلام جميع الأشعار التي تشتمل على مبادئ هذه الديانات. وكان القاضي عباس فضلي مهذبا في اختلافه الموضوعي الذي أنهاه بتطلعه إلى تبين حجة طه حسين، وتوقعه الرد المقنع في ملاينة ورفق يتفقان مع حرية البحث وجلال العلم. ولم يقم طه حسين بالرد على القاضي الذي تشكك في شكه في الشعر الجاهلي وترك المهمة لتلميذه زكي مبارك المعيد بالجامعة المصرية، ليقوم بها بعد أكثر من شهر وذلك في مقال نشرته "السياسة" في السادس عشر من فبراير (1926) يشير فيه إلى أن أستاذه رد على نقد حضرة الأستاذ عباس فضلي وفنده في محاضرته الماضية في الجامعة. ويمضي ساردا آراء طه حسين ويدعمها بما لا يغلق باب النقاش في قضية انتحال الشعر الجاهلي والشك فيه، وإنما بما يفتحها للمزيد من الآراء التي سرعان ما تتابعت، فأرسل الأمير شكيب أرسلان من محل إقامته في روما بمقاله " التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم" لتنشره صحيفة " كوكب الشرق " الوفدية المعادية لصحيفة " السياسة ". ويتصاعد الحوار حول الشك في الشعر الجاهلي، تدريجيا، طوال شهري فبراير ومارس. ويتجه إلى العنف شيئا فشيئا. ولكن على نحو يخلط بين السياسي والثقافي وبين الخصومة الحزبية والخصومة الأدبية. خطاب مفتوح وتتزايد الأصداء العدائية التي خلفتها محاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي، فتنشر مجلة " الأمل " ( عدد السبت السابع والعشرين من مارس ) خطابا مفتوحا إلى الدكتور طه حسين من السعيد حبيب الذي يصف نفسه بأنه " حقوقي ". والخطاب محاكمة علنية لطه حسين على شكه في الشعر الجاهلي. ويمتلئ بعبارات انفعالية حادة، مبعثها الفزع من الشك الذي يهدم عصرا كاملا بآدابه، كي يقف طه حسين على الخرائب. مسمعا الناس صوت كبريائه الشاك المناقض للعقيدة. وينتهي الخطاب بكلمات مباشرة يقول صاحبها لطه حسين: هل أطمع في أنك ستعترف بأن مثل هذا النوع من التدريس يدخل تحت باب الغش والتدليس، لأنك تحاول أن تغصب من بين صفوف الأمة بعض ذوي العقول الرطبة لتحولها عندك، وتحت إشرافك، وإشراف مساعديك، إلى عقول حائرة عابثة تقول ما لا تعتقد وتشك وتشكك فيما لن يتطرق إليه شك. وتصل هذه الأصداء إلى ما يقترب بها من الذروة مع دخول مصطفى صادق الرافعي إلى حلبة الهجوم، وهو خصم طه حسين العتيد وزعيم مدرسة القدماء في الأدب، فيمتشق قلمه في عنف ينطوي على معنى الثأر، ويبدأ سلسلة من المقالات النارية، قصدت إلى أن تشوي طه حسين وأفكاره " على السفود ". مستخدمة آليات خطاب قمعي، دفع الحركة بين القديم والجديد في الأدب إلى مناطق خطرة، استبدلت بالحوار الأدبي الإرهاب الاعتقادي الذي يبرر نفسه بأنه ينطلق من " تحت راية القرآن ". وتحتفي " كوكب الشرق " جريدة الوفد المعادية للأحرار الدستوريين الاحتفاء كله بمقالات الرافعي التي بدأت في الظهور مع صباح الثالث والعشرين من مارس. قبل صدور كتاب في " الشعر الجاهلي " بأكثر من أسبوع. وكان مقاله الأول موجها " إلى الجامعة المصرية " التي يطرح عليها الأسئلة التالية لإحراجها أمام الرأي العام: 1 - هل قرر أستاذها أن المسلمين محوا شعر النصارى واليهود ومنعوا روايته خوفا على الإسلام، فمن أجل ذلك لم ينته إلينا من شعرهم شيء؟ 2 - وهل صحيح أنه لا يوجد شعر جاهلي بل هو مصنوع بعد الإسلام، وأن هذا الشعر الجاهلي لا يستشهد به على القرآن بل القرآن هو الذي يحتج به للشعر؟ 3 - وهل العصر الجاهلي الذي ضاع شعره قد حفظ لأن القرآن الكريم يمثله ؟ 4 - وهل الغزل المروي لامرئ القيس هو لعمر بن أبي ربيعة؟ ولا يكتفي الرافعي بهذه الأسئلة الأربعة التي تصور أنها تدين طه حسين اعتقاديا، وتزعزع مكانته أدبيا، وتهدد وضعه وظيفيا، فيطرح على إدارة الجامعة السؤال عما إذا كان أستاذها قرر ذلك في دروسه التي تأجره عليها من مال الأمة؟ وما أدلته؟ ويختتم بتشطيره لبيت المتنبي الشهير، سخرية من الجامعة ومن طه حسين على السواء، قائلا:
وكان ذلك كله قبل صدور كتاب " في الشعر الجاهلي " الذي لم تكن أفكاره مفاجئة للمجموعات القرائية المتربصة بالكتاب، كما يبدو لأول وهلة، أو كما شاع بين الدارسين، لأن هذه الأفكار كانت مطروحة للنقاش والحوار، على نحو يؤكد أن معركة الشعر الجاهلي على وجه الخصوص بدأت قبل صدور الكتاب بأشهر، ومعركة المنهج الأدبي نفسه بدأت قبل الكتاب بسنوات، وظلت تتزايد إلى أن وصلت إلى ذروتها بتفاعل العوامل السياسية والفكرية التي انتهت إلى ما يشبه الإعصار.
![]() |
|