الأدب الكويتي وحوار الأجيال

الأدب الكويتي وحوار الأجيال

باعتزاز ومحبة تلتقي أجيال الأدب في الكويت، يدفع الكبار بالمواهب الجديدة إلى صدارة الحركة الأدبية، رسالة يسلمها كل جيل للذي يليه، وروح عذبة تتدفق من النفوس الكبار لتقدم تجربة جميلة في تمازج الأجيال.

محمد الفايز.. ثراء فى الإبداع

محمد الفايز مبدع متعدد الجوانب: في الشعر، والمسرح، والقصة. ويشعر المرء أن كل جانب عنده غنى بالمواقف والأدوات، وكلها جديرة بالبحث والدراسة.

أجدنى أقف عند واحد من هذه الجوانب فحسب، هو الشعر، لما يتمتع به من ثراء فى الإبداع، وخصوبة فى الأدوات الفنية، جعلا منه طائرا محلقاً فى مجال الفن والتميز.

لقد خلق تأمله علاقات متنوعة بالكون والحياة، فقد ألهمته المرأة، والبحر، والأرض، والوطن، والتاريخ، والطبيعة، والمجتمع، إلى جانب انسياحه فى تأملات وجدانية، تمتد بعلاقاته إلى الأبعد والأعمق، منطلقا إلى عوالم تستبطن أسرار الحياة المغلفة بالفن الجميل.

كان لديه نزوع فطرى نحو حب الأرض والبشر، لأنه - بوصفه فناناً- لايستطيع أن يحب الأرض وحدها، ولا البشر وحدهم، فهما نسيج متكامل، لا انفصال بينهما وبين إنسانهما، حبذا لو كان مثل شاعرنا، الذى تقمص شخصية بحار، لوَّنت إهابه أمواج الخليج، فكانت عالمه الذى تجلى فى باكورة أعماله الشعرية «حديث البحر»، والتى كانت مفتتحاً لمجموعاته الشعرية المتتالية، التى كانت تقفز به إلى ساحة الشعر العربي، فى طفرات نوعية ناجحة، تترجم شاعرا أصيلا، ذا موهبة فياضة.

لقد مثَّل البحر فى الخليج العربى مصدر الرزق الممتد المستمر، ولذا كان ملهما لأساليب العيش فى مرافئه المتعددة: الكويت، الإمارات، البحرين، قطر، عُمان، والسواحل الأخرى المطلة على المحيط والبحر الأحمر.

إذن.. لماذا كان البحر ملهما للشاعر «محمد الفايز»؟، هل ارتبط به فى بداية حياته بحارا، أو صيادا، فكان هذا الامتياح من عالمه؟، أم أنه كان على صلة وثيقة بعالم البحر - كمعظم الكويتيين والخليجيين - فكان هذا الزخم المتزاحم من الشعور والوجدان؟.

أعتقد أنه لا هذا ولا ذاك، فإن الصلة بالبحر لا تخلق فنانا أو شاعرا بالضرورة، ولكن شيئا غريبا هو الذى ربط بين الشاعر والبيئة والمجتمع، فكان هذا العشق المتنامى، الذى حمل هموم الآخرين، من خلال الشعور بالمسئولية الاجتماعية، نحو الناس الذين يعيش معهم، والذين تربطه بهم علاقات حميمة، كما نلمح ذلك فى أغلب أشعاره، التى كرسها - على الأغلب للحديث عن البحر، الذى هو الناس والحياة. وعن المرأة التى هى جزء من الناس، وكل الحياة كما يراها شاعرنا

أشعر يا سيدتى..
وأنا تحت هديل عقودك
تحت شعاعاتك
تحت هطول ضفائرك الشقراء
وملامحك البيضاء
تحت تدفق أنفاسك
ذات الرائحة المشتقة
من رائحة العنب الأسود
أشعر يا سيدتى..
أنى أملك كل كنوز العالم

وتر جديد

لقد كان الشاعر «محمد الفايز» وتراً جديداً، حمل آلام وطنه الكويت، وأمته العربية. صور بشعره كل ما كان يراه، وسجل الأحداث بحس صادق، فى شفافية واضحة، تترجم أعماقاً لاتهدأ، حبا للأرض والإنسان.

لقد أدرك الشاعر محمد الفايز العدوان العراقى الغاشم على دولة الكويت فى الثانى من أغسطس عام 1990، وظل مرابطاً بالكويت وهو يقول:

كويت يا حبنا السعيد يا ظلُّ، يا ماء، يا ورود
يحرسك الله يا بلاداً ترابها اللؤلؤ الفريد
وبارك الله فى رمال تجود بالخير ما تجود


إلى أن فاضت روحه الطاهرة فى مساء يوم الجمعة، الأول من مارس عام 1991، أحد أيام التحرير المجيدة، فاحتضنته الكويت، وضمته إلى رحابها، واحدًا ممن صاغتهم جنباتها شاعراً وطنياً صادقاً.

إن الوطن حكاية، وشخوص هذا الوطن أو ذاك حكايات جزئية داخل هذا الكل، الذى يتمثل فى تاريخ الوطن من خلال المعطيات الطبيعية، الأرض وجغرافيتها، وموقعها، وتضاريسها الطبيعة، وظروفها المناخية التى تشكل جزءاً كبيراً من تشكيل الإنسان، ملامح وسلوكاً.. ومن هنا يبدأ الإنسان الحكاية التى تختلف من شخص لآخر، حسب المكونات الشخصية الطبيعية، والمكونات المكتسبة، من ثقافة تلقائية، وخبرة حياتية، ومبادلات فكرية بين الأنا والآخر، اللذين لا يتمثلان فى الأشخاص فقط، بل يمتدان لتكون هذه المبادلة بين الإنسان والوطن.

وحكاية الأدب فى الكويت الوطن، ترتبط بعديد من شخوص أبنائها الذين دأبوا -من خلال ارتباطهم بالوطن الأم الكويت، والوطن العربى الكبير- على محاولة الخروج من طوق العزلة التى فرضتها الطبيعة والظروف.

كان مجتمع الكويت القبلى يعتمد فى اقتصاده على الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، وعلى الممارسات التجارية عن طريق البر والبحر.. وكانت هذه الحياة تمثل حكاية المعاناة التى واجهها الكويتيون، فالغوص من أكثر المهن صعوبة وخطورة، تتطلب من الإنسان كدحاً مضنياً، وصبراً طويلاً، وهو ما أثر فى سلوك الناس حيث كان لابد أن يتعاونوا ويترابطوا، وهو ما يشى بأنهم كانوا مرتبطين بأخلاق الإسلام التى تدعو إلى التعاون، والأمانة والثقة، والمحافظة على الجار، ورعايته وأهله فى حالات الفقر أو المرض أو الرحلة الطويلة من أجل الحياة.

مذكرات بحار

يأتى العمل الشعرى المتميز للشاعر «محمد الفايز» بعنوان «مذكرات بحار» ليكون جزءا من أطياف الحكاية التى يمثل الفايز طرفا فيها، بالرغم من وجود هذه الشخصية (البحَّار) فى تجارب شعرية خليجية, فإن مذكرات «الفايز» جاءت عملا فنيا يستحق التنويه والتناول، لأنها كانت تؤكد الانتماء للماضى، وتشير من طرف رامز إلى آرائه فى الحياة. إذ مثل «الفايز» فيها (امتدادا للتيار الواقعى الذى أخذ يغلب على الشعر لا فى منطقة الخليج العربى وحدها ولكن فى غيرها من مناطق العالم العربى الأخرى). وقد عمد إلى الرمز (إلى هذه المشكلات الاجتماعية) بحياة البحار الكويتى الذى عمد إلى تفصيل الحديث عنها فى جوانبها المختلفة ملحاً على ما كان يلاقيه من مشقة، وما كان يعانيه من فقر وظلم وتشرد.

وكان الشاعر يقيم تقابلاً بين واقع الحياة الحديثة فى هذه المنطقة، وواقع الحياة القديمة التى يحياها هذا البحار، لا نشك فى أن الشاعر كان يشكو منه ويتألم له. ولذلك فإننا نستطيع أن نرى فيه وجهين، الأول إنسانى عام.. والثانى ذاتى خاص. وهذه المذكرات كانت تدور جميعا حول ثلاثة محاور أساسية يتكامل بعضها مع بعض ليؤلف هذه المذكرة أو تلك من خلالها.

المحور الأول هو تصوير معاناة البحار من الفقر والمرض ومشقة العمل فى صيد اللؤلؤ والظلم الواقع عليه من ربان السفينة. والمحور الثانى، هو الحب،.. أما المحور الثالث. فهو المدينة التى يحن إليها وإلى العودة إليها، ويحس بالغربة والضياع فى بعده عنها..

لقد كانت مذكرات «الفايز» لقطات من الحياة، لم يلجأ فيها إلى التسلسل التاريخى، بل عمد فيها إلى الاستدعاءات الطبيعية، بدءا من المذكرة الأولى التى استوت فيها سفينته على الجودى، حتى عودته إلى اليابسة فى المذكرة العشرين. وبينهما كان الحديث عن بيئتى الغوص والسفر، وذكريات البيئة القديمة التى عاشها البحَّار، كغيره من المواطنين، حيث كانت شريطا زاخرا مليئا بالإشارات التى تثير ذكريات، وترسم ملامح لهذه البيئة القديمة، التى لم تمحها آثار المدينة الحضرية الجديدة.

إنه بهذا يصنع أو يقيم متحفا لوطنه، تضمه ذاكرته، قبل أن يكون للكويت متحفها الوطنى، الذى يجسد ملامح هذه البيئة القديمة، التى كان البحر فيها يحمل رزقه ورزق أسرته يقول:

أحنى من الأرض التى محلت. فلا عطر يضوعْ فيها ولا نبتت كروم
مهما تلبدت الغيوم، وأمطرت كلُّ السماء
تبقى ككفٍّ بخيلة تأبى العطاء
أواه يا أرض الحرائق والسموم
البحر أحنى من ضفافك، والشراع
أذرى إلىّ من الصنوبر، يا بحار
الملح فيك ألذ من عنب الدوالى فى المدينة
فخذى شراعى يا رياح خذى السفينه
سأعيد للدنيا حديث «السندباد»

ويظل دور «الفايز» فى الحكاية متحدثا عن روحه المفعمة بالإصرار على الكفاح، والمغامرة، على الرغم من شعوره الحزين للواقع التعيس الذى يعيشه، فإنه يتطلع إلى التغيير، من خلال الحلم الأمل، الذى يساعد الإنسان على مواصلة الحياة، متطلعا إلى حياة ستجلب معها السعادة على الرغم من الظروف الاجتماعية القاسية. إنه يرتبط «بطيبة» الأرض والوطن فيقول:

ما زلت أذكر كل شئ عنك يا «طيبه» الجميلة
من يشترى كل المحار؟
من يشترى كل البحار؟
بعيون «طيبة» يا نهار
عيناك تحت الأرض تبرق لى كفانوس بعيد
يا قرطها الذهبى، يا كحل العيون
عطر البنفسج تحت نهديها، وفى فمها الورود

لقد استطاع «محمد الفايز» أن يبرز نفسه كواحد من شخوص أطياف الحكاية الخليجية، أو الكويتية على وجه الخصوص، لأن مذكراته عن البحار لفتت إليه الأنظار، ومنحته الشهرة، وجعلت النقاد ينتظرون منه الكثير، الذى كان زادا جديدا، واكب به ثورة الشعر الحديث، وجعل للشعر الكويتى مكانا فى هذه الثورة، لأنه كان واحدا من أفراد حكاية التجديد التى تتابعت منذ الستينيات.

لقد توالت إبداعات «محمد الفايز»، على مدى خمسة وثلاثين عاماً من الشعر... وهي:

النور من الداخل/ الطين والشمس / رسوم النغم المفكر / بقايا الألواح/ ذاكرة الآفاق / لبنان والنواحى الأخرى / حداء الهودج / خلاخيل الفيروز، وأخيرا وبعد رحيله ديوانه: خرائط البرق.. الجزء الأول، وشعره المخطوط فى الجزء الثانى من ديوانه خرائط البرق الذى سوف يصدر لاحقا.

ومن الطرافة أن نذكر أنه بدأ «مذكرات بحار» كمطولة شعرية، وختم نشاطه الشعرى بمطولة أخرى هى «خلاخيل الفيروز»، وبين هذه وتلك كانت مطولة ثالثة هى التى استوعبت صفحات ديوانه «رسوم النغم المفكر».

إن رحلة البحر عند الشاعر كانت تمثل الخلاص المتجدد، فهو فى رحلة الغوص يرى الخلاص فى المدينة التى يحن إليها، وفى المدينة يرى الخلاص فى العودة إلى رحلة البحر، فهو فى رحلة دائمة ترتبط بوجدانه ارتباطا وثيقا.

وإذا كان «الفايز» شاعر الرحلة الدائمة وسندبادها، فقد ظل مدار حكاية تلازمه، ولأنه كان صوتا متميزا، وصيادا ماهرا فى اقتناص الصور اللافتة، فقد «أعجب النقاد وأحنق شعراء الكويت».... وقد حمل الجنسية الكويتية، ولكن عوامل القلق فى نفسه، وربما شاركت فيها النظرة الاجتماعية التقليدية إلى من ينحدرون عن أصول ليست كويتية ساهمت فى أشعاره بالغربة التى انعكست على بعض قصائده فى ومضات متقطعة، تدل على اضطراب روحه وغياب الطمأنينة عن حياته الخاصة.

إن بؤرة شعور الفايز كانت بالكويت، ولهذا سرعان ما تتم المصالحة بينه وبين مجتمعه، فيصدر من أشعاره ما لايحمل ملامح الجفوة مع الحياة والناس، ليبرر أن شعوره بالاغتراب كان مرحلة فكرية فى مسيرته، لأنه كان اغترابا عابرا، سرعان ما يغطيه شعوره بحب الكويت، الأرض والإنسان والحياة. يقول فى «النغم الحادى والستون» من «رسوم النغم المفكر».

تأنق الرمل حتى صار أضواء وفجّر الصخر ألوانًا كما شاء
واستوقف البدوى الحر ناقته على السواحل ملاَّحا وحدَّاء
قد كانت البيد أشواطاً لموكبه مستلهمًا أفقها وحياً وآراء
واليوم يهبط فى الشاطى تعانقه أمواجه الزرق أنساماً وأنداء


لقد تحول الرمل فى الخليج إلى ضياء، صوَّره شعر «الفايز»، «ومع هذا فى ثنايا دواوين الفايز تلك الومضات القلقة التى تضاء، هذا الشعور الراسخ بالوطن، والفخر به. قد تكون البداية مشاحنة أو صداما مع شخص أو مع شاعر آخر، وهذا أمر واقع.....، ولكن تخطى الهجاء الشخصى إلى نوع من الهجاء العام هو الذى يدل على وجود هذا القلق الداخلى فى قرارة نفس الفايز».

لقد كان قلقه سببا فى انقطاعه عن العمل فى السنوات الأخيرة من حياته، حتى كانت حكاية الغزو المقيتة، فتدهورت حالته، وكانت نهايته. إنها نهاية شاعر تغنى بالخليج وأهله، وهجاهم، ولكن المودة ظلت قائمة فى الحالتين.

 

نورية الرومي