دعوة حارة لإنقاذ التنوير

دعوة حارة لإنقاذ التنوير د. سليمان إبراهيم العسكري

هناك غايات أو مسميات أو شعارات، هي في جوهرها نبيلة وحضارية وتمثل ضرورة من ضرورات النهوض العربي المأمول، لكن يحدث أحيانًا أن تتعرض المقاصد النبيلة للتشويه، وقضية «التنوير» من بين هذه المقاصد التي لا شك في نبل مساعيها، لكن هناك ممارسات ومعالجات عربية أضرت بشعار التنوير ومساعيه وأهدافه، ومن ثم صار التنبيه والتحذير نوعًا من الإنقاذ الضروري، مهما كانت قساوته.

  • يجب تخليص مفهوم التنوير من السموم التي دست فيه
  • حرية التعبير تعني أن نميز بين أفكار تخدم نهضتنا الفكرية وأخرى تعطلها
  • الاعتقاد الديني والإيمان بالغيبيات لايؤديان بالضرورة إلى موقف معادٍ للعلم
  • انهزام المنتصر لإحياء التراث خسارة حقيقية للثقافة العربية

هل يمكن أن تكون معحبًا بمفكر لا تتفق مع أفكاره، أو على الأقل لا توافقه على بعض أفكاره؟ الإجابة عن هذا السؤال عادة ما تقتضي مزيدًا من الأسئلة بغية التحديد والتدقيق، ومن ثم يلزمها بعض التريث، لكن عندما يتعلق السؤال بالدكتور جلال أمين، فإنني أسارع بالإجابة بنعم. فجلال أمين مفكر، لا ينبع الإعجاب به من الاتفاق الحماسي مع الأفكار التي يطرحها، ولكن الإعجاب به ينتج من علامات الاستفهام الغزيرة التي تثيرها داخلنا أفكاره، وتجعلنا نعيد التفكير في أمور استقرت رؤيتنا عليها، فإما أن نراجع هذه الرؤية، أو نعدل من شروط قبولنا بها.لقد فعل الدكتور جلال أمين هذا في مناقشته لقضية «التنمية» التي سبق أن أفردنا لها حديثا سابقا. وها هو يكرر ذلك في قضية أخرى هي قضية «التنوير» التي أصدر عنها كتابًا يشي بتوجهه ذلك العنوان الصادم الذي اختاره له، وهو «التنوير الزائف». وحتى نزيح غيوم الشك التي قد يثيرها العنوان لدى البعض، نستبق ترتيب صفحات الكتاب فنورد منه فقرة متأخرة، أرى أنها تفصح عن توجه المفكر الإشكالي فيما يود الذهاب إليه، يقول: «إن قصة التنوير في بلادنا تبدو قصة محزنة للغاية، إذ باسم شعارات نبيلة تم الإخضاع التدريجي لأمة نبيلة، وذلك عن طريق دس السم في العسل. وليس هناك في رأيي طريق للخلاص، إن كانت لاتزال ثمة فسحة من الوقت، إلا بتخليص مفهوم التنوير مما دس فيه، وإعطاءه المضامين التي تتفتق عنها أذهاننا نحن، لمواجهة المشكلات التي نقوم نحن بتشخيصها، وصولاً لأهداف نقوم نحن بتحديدها».

زاوية النظر وحدود الرؤية

إذن المسألة تتوقف على زاوية النظر التي يرى منها المفكر موضوع بحثه، وهي في حالتنا زاويتنا نحن، أي ننظر إلى القضايا التي تتعلق بوجودنا وطموحنا في ضوء خصوصيتنا، وبعيوننا نحن، لا بعيون الآخرين الذين يرون من وسط مختلف وبشروط مختلفة، وهي مقولة ليست جديدة، لكن الجديد فيها هنا هو القضايا موضوع التطبيق، وسنرى أن النتائج مدهشة تمامًا، ولننظر إلى عينة من ذلك:

نعم نحن فقراء، ولكن هذا لا يعني أننا متخلفون. هم متقدمون عنا في التكنولوجيا، أي في فن إنتاج السلع والخدمات، أو بالأحرى في فن إنتاج سلع وخدمات معينة دون غيرها. ولكن في الحياة أشياء أخرى غير إنتاج السلع والخدمات، بل إن هناك سلعًا وخدمات أخرى لا ينتجونها، أو لا يفضلونها وقد تكون أفضل لنا. لابد إذن أن نميز، بين الفقر والتخلف. نعم نريد التخلص من الفقر، وعلاجه زيادة أنواع معينة من السلع والخدمات (وليس أية سلعة، أو أية خدمة).

أما التخلف، فهو ليس إلا هذا الشعور بالعار. فأنت لست متخلفًا، إلا بقدر شعورك بالعار إزاء هؤلاء الذين يسمون أنفسهم «متقدمين».

وسوف تظل متخلفًا، مهما زاد متوسط دخلك، ومهما ارتفع معدل نموك، ومهما زاد ما في حوزتك من سلع وخدمات، مادامت تشعر بالعار لأنك لا تملك ما يملكونه.

هذا المنظور طبقه جلال أمين على مفهوم التنمية وما يتعلق بها من مصطلحات التقدم والتخلف، وأحدثت مداخلاته نوعًا من الإثارة الخلاقة والمراجعة الواجبة لدى أي مثقف مخلص لأمته وللحقيقة، وها هو المفكر الإشكالي يكرر مشاغباته المنعشة، فيدخل معتركًا جديدًا يعتبره البعض محور النهضة المأمولة، ألا وهو مفهوم التنوير، الذي يجترحه محتجًا على ما اعتبره تنويرًا زائفًا. ومنتصرًا لما أعتبره التنوير الحقيقي، الذي من شأنه، أي التنوير الحقيقي دون غيره، أن يؤدي إلى نهضة حقيقية. فشعار التنمية، مثل شعار التنوير لديه: اسم جميل يطلق على عمل قبيح. فكما أن ما يسمى تنويرًا عندنا هو في حقيقته مسخ لشخصية الأمة وعبث بتراثها، وتضحية بلا مقابل بأغلى وأعز ما فيها، فإن ما يسمى تنمية عندنا (وفي معظم بلاد ذلك الجزء التعس من العالم المسمى بالمتخلف) هو في الأساس «تغريب لأنماط الإنتاج وأنماط الاستهلاك، وتضحية بلا مقابل أيضًا بالرفاهية الإنسانية، التي هي أوسع بكثير من منتجات الغرب وأنماط استهلاكه وعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية».

إن تحديد زاوية النظر هذه قد تبدو للبعض اختيارًا من نوع الرفاهية الثقافية، أو الانتقاء بين بدائل متاحة، لكن الأمر ليس كذلك عند جلال أمين، فهو يرى أن هذا ضريبة عقلانية حيث إنه لاستمرار الانتماء إلى مجتمع معين لابد من دفع الثمن. هذا الثمن هو ألا يتجاوز الفرد في ممارسته حريته في السلوك والتعبير حدودًا معينة، إن لم يقيد بها نفسه، فرضها عليه المجتمع فرضًا. وهو في ذلك لا يحاول أن يقول إن من المستحيل أن يعتقد المرء اعتقادًا يخالف عقائد أمته وعشيرته، أو أن يعبّر عن آراء مخالفة لآرائها، فبديهي أن هذا ممكن، وكثيرًا ما يكون مفيدًا، وإنما يقول إن هناك دائمًا حدودًا لهذه الإمكانية.. هناك حدود لا يستطيع الفرد أن يتجاوزها في التعبير عما يعتقده مخالفًا لعقائد أمته، فإذا لم يمنع نفسه منعته أمته، وهناك حدود لما يستطيع الفرد أن يعتقده بخلاف عقائد أمته.

هذا الكشف الحاد عن شرط الموازنة بين الطموح والمتاح في التعبير عن رغبات التغيير وحدود الاختلاف، ليس ابتكارًا يضطر إلى استخدامه - طلبًا للمواءمة - مفكر من العالم الثالث، بل هو وارد أيضًا في العالم «المتقدم»، وهو ما يذكرنا به المفكر الإشكالي، نعوم تشومسكي (N. Chomsky) بمقال بديع عنوانه يدل على محتواه، وهو: «حدود الفكر الذي يمكن التفكير فيه» (The Boundaries of Thinkable Thought) نشره منذ نحو عشرين عامًا، وأراد فيه أن يبين كيف أن المناخ الثقافي العام في الولايات المتحدة والأثر الطاغي لوسائل الإعلام فيها، وخضوع هذه الوسائل، وهذا المناخ لسيطرة مصالح معينة تروج لنوع معين من الأفكار، كل هذا يجعل الفرد الأمريكي العادي خاضعًا لما يسميه تشومسكي (حدود الفكر الذي يمكن التفكير فيه). فالمسألة ليست فقط ما يستطيع أو ما لا يستطيع الفرد التعبير عنه، بل هي أيضًا مسألة ما يستطيع أو ما لا يستطيع أن يفكر فيه.

بلا إفراط، ولا تفريط

إن تأصيل زاوية النظر ومراعاة شروط الواقع، كما جاءت في أطروحة الكاتب - كما أكد وأوضح - ليست دعوة إلى تقييد حرية التعبير، وإنما هي تنبيه إلى خطر الإطلاق في هذا الأمر، وإلى ضرورة بحث كل حالة على حدة، وتقييم ما يعتبر مسموحًا به، أو غير مسموح به في ضوء ظروف كل حالة. يجب أن يكون بإمكاننا التمييز بين عمل فكري أو فني يخدم النهضة الفكرية فعلاً، وعمل آخر يعطلها، بين حق التعبير عن الرأي، وحق توجيه السب والقذف والتهكم على قيم الأمة الأخلاقية والروحية والمجتمعية أيضًا. فإذا قيل: ومن الذي سيحكم؟ تكون الإجابة: إن هذا بالضبط من صميم مسئولية المثقف العربي، الذي إذا فقد القدرة على التمييز بين هذا وذاك، لم يعد يستحق أن يوصف بالمثقف. وهذا الموقف المتوازن بين مقتضيات الحرية وواجبات الالتزام، هو ما يمكن التعبير عنه بالمقولة المختصرة، لا تفريط ولا إفراط. لا تفريط في شرط الحرية اللازمة لكل نهوض، ولا إفراط في إراقة هذه الحرية لحد الصدام مع روح هذا المجتمع وتقاليده، خاصة عندما يكون الصدام مجانيًا، ويغدو الهدم غاية بلا أفق للبناء.

هذا التمهيد النظري يلحقه الكاتب بنماذج تطبيقية فيذكر بعض الدعاوى التي تزعم غاية التنوير فتمضي في ركاب القائلين - من خارج تراثنا الثقافي - بأن الإيمان بالغيب والعقيدة الدينية بوجه عام يؤديان بالضرورة إلى التعصب والتطرف، وأنه لابد في النهاية أن ينتج عنهما فظائع ومآس، ويتطلب العمل على منع هذه الفظائع والمآسي استئصال العقيدة الدينية بوجه عام ما يؤدي بالضرورة إلى إفساد العلم ويدفع المرء دفعًا إلى الخروج على قواعد التفكير المنطقي والمنهج العلمي. وهو يرى في ذلك، ونرى معه، أن هذا خطأ كبير، فرفض الموقف الديني لا هو بالشرط الضروري، ولا بالشرط الكافي للتخلص من التعصب الذميم المؤدي إلى أعمال العنف، أو لانتصار العلم والموضوعية، فمن الممكن أن تكون متدينًا وعالمًا ومتسامحًا مع الآخرين، ورافضًا لأي صورة من صور الاعتداء عليهم، ومن الممكن أن تكون غير متدين ومعاديًا للعلم، وقاسيًا كل القسوة في التعامل مع آراء ومواقف المخالفين لك في الرأي.

إن التعصب الذميم المفجر لكل أنواع الفظائع والمآسي له أمثلة في التاريخ العلماني، لاتقل عددًا ولا قسوة عمّا نجد له من أمثلة في التاريخ الديني. ويكفي أن نذكر القارئ بأمثلة التعصب والقسوة، التي ارتبطت بتاريخ الثورة الفرنسية، المدينة بأفكارها لحركة التنوير نفسها، وتاريخ الحركات الاشتراكية والماركسية، وتاريخ الحركات القومية، وما فعله الأوربيون في مستعمراتهم باسم المدنيّة.

وأما أن الاعتقاد الديني والإيمان بالغيبيات الدينية لا يؤديان بالضرورة إلى موقف معاد للعلم، فالأمثلة عليه كثيرة أيضًا. إن الاعتقاد الديني لا يحول العالِم إلى جاهل، كما أن رفض الدين لا يجعل من الجاهل عالمًا. كان نيوتن صاحب إيمان قوي بالله، ولم يجعله هذا يلجأ في إثبات نظرياته العلمية إلى أساليب تتعارض مع العلم، ولكن ستالين غير المؤمن كان يسمح لنفسه بتزييف التاريخ لإعلاء شأن نظريته، التي كان يعتقد أنها علمية، إضافة لعدائه الدموي تجاه مخالفيه في الرأي.

للتنوير منابع عدة

يلاحظ الدكتور جلال أمين، ونتفق معه، في أن الأديان السماوية كانت كلها عند ظهورها حركات تنويرية من الطراز الأول، بل هي في جوهرها المستمر منذ ظهورها وحتى ديمومتها نماذج عليا للتنوير الديني والدنيوي على السواء.

لقد كانت قضية التنويريين العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر، هي اللحاق بالغرب، بينما كانت قضية التنويريين في أوربا قبل ذلك بقرن، تحرير البرجوازية من أغلال الإقطاع، وإذ رأى جيل الرواد من التنويريين العرب أن النهضة التكنولوجية والصناعية في أوربا قد اقترنت برفع شعارات التنوير وحمل لواء الحرية والتسامح والعلم والعقلانية. فقد اعتقدوا أن لحاق العرب، أو المسلمين بالغرب يتطلب اعتناق الأفكار نفسها. وكما أن الدعوة إلى هذه الأفكار في أوربا كانت تجري بلا قيد أو شرط، فالمطلوب هو مثل هذا عندنا أيضًا. وهنا مكمن الخلل الذي تفرعت عنه إساءات بالغة لقضية التنوير نفسها. فبادئ ذي بدء صار نموذج التنوير الغربي هو المثال، بل صار التحيز للغرب سمة لمداخلات التنويريين العرب الأوائل، وأدت عملية النقل دون مراعاة تراث وتقاليد الواقع العربي إلى نوع من الصدام مع هذا الواقع، والصدمة لكثير من أبنائه، فالتنويريون العرب الروّاد - معظمهم عادوا ما عاداه التنويريون البرجوازيون في الغرب، وصادقوا ما صادقوه. عادوا الدين أو استهانوا به، بينما لم يكن هذا ضروريًا بالمرة لتنويرنا نحن، وتقدمنا السياسي أو التكنولوجي أو العلمي. كما تبنوا مبادئ الفردية الغربية كمعيار لقياس الرفاهية». بينما لم يكن هذا بدوره كامل الملاءمة للواقع العربي المتجذّرة فيه قيم العائلة والقبيلة.وفي هذا السياق، يتساءل الدكتور جلال أمين: «هل كان طه حسين محتاجًا - مثلاً - من أجل إحداث تنوير حقيقي إلى الدعوة إلى تدريس اللغتين اليونانية واللاتينية كشرط ضروري من شروط تجديد الأدب العربي، لمجرد أنه رأى هاتين اللغتين، يعنى بهما عناية كبيرة في فرنسا، وأن يرى من دواعي اللوم والتوبيخ الشديد لشيوخ الأدب في مصر، أنهم لا يفهمون هاتين اللغتين؟ أو أن يقول في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»: إننا في هذا العصر الحديث، نريد أن نتصل بأوربا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءًا منها». والإجابة المنطقية - الآن وبعد ما رأيناه ونراه من تعقيد شديد في معادلة العرب والغرب - تقطع بأن ما ذهب إليه طه حسين كان حسن الظن بالتوجه نحو الغرب أكثر مما ينبغي، وبه من الملاءمة لنا أقل كثيرًا مما ينبغي.

حماس زائد وملاءمة منقوصة

يقول جلال أمين: «التاريخ الإنساني، كما يبدو من قراءة الغرب لتاريخه، هو تاريخ التقدم نحو مزيد من الحرية، مزيد من المساواة، مزيد من التسامح، مزيد من المعرفة، ومزيد من الرخاء، ومسئولية الرجل الأبيض هي أن ينشر كل هذا في بقية أنحاء الأرض، كما نشره في أرضه. في ذلك العصر سافر رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا وعاد ليدعو إلى التنوير، وقرأ لطفي السيد الترجمات الفرنسية لأرسطو، وشرع في ترجمتها إلى العربية، وسافر طه حسين إلى فرنسا أيضًا، وقرأ عن ديكارت وعاد يدعو للشك في كل شيء، حتى كادت مغامرة الشك المنقول هذه أن تودي بكل ما أنجزه مستنير حقيقي مثل طه حسين، وعلى النحو نفسه، بهر شبلي شميل وسلامة موسى بالدارونية، وراحا يشرحانها بحماس شديد لأهل بلدهما، وأخذ الجميع يتهكمون على المتمسكين بالقيم. وكان انهزام فريق المثقفين المنتصرين للتراث ضد دعوات التنوير على النمط الغربي، خسارة حقيقية للثقافة العربية، إذ إن الذي حدث في الفكر والثقافة العربية نتيجة لذلك، كالذي حدث في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لم يكن تنويرًا محضًا، بل كان تنويرًا ممعنًا في «استغرابه»، أي كان تنويرًا فيه من التغريب أكثر مما كان لازمًا لتحقيق النهضة المنشودة. هذه الرؤية قد تبدو ظالمة ومحاولة لشطب كل جهود روّاد التنوير العرب الذين نكن لهم كل التقدير، لكن النظر إلى منجزهم منذ لحظات انطلاقه، وحتى ما آل إليه في لحظتنا الراهنة، يبقي لهم شرف المحاولة دون أن يحرمنا من حق المراجعة، وليس أدل على جدارة هذا الحق مما حدث من مراجعة في الغرب نفسه، فنظرية داروين لم يعد يُنظر إليها بعين التقدير العلمي كما كانت، وشك ديكارت أصبح من عتيق الفلسفة. وكان أجدى بتنويريينا الروّاد أن يمزجوا حماسهم للتنوير الغربي بشيء من مراعاة الملاءمة لتنوير منبثق من واقعنا الروحي والمادي. فقد كان ذلك خليقًا بإبداع تنوير قادر على التواصل والتراكم والوصول بنا إلى شيء آخر غير ما يبدو أنه انقلاب مضاد للتنوير في عالمنا العربي، ولاشك أن بعض دعاة التنوير أنفسهم مسئولون عن حدوثه.

دعوة للانتباه

بالرغم من كل الإيضاحات التي قدمها جلال أمين لكونه طالبًا للتنوير الصحيح، ونابذًا للتنوير الزائف، فإنه لن يعدم، ولن نعدم معه، من يرمونه برفض شعار التنوير وغاياته جميعًا، وقد تكون لديهم براهين ودفوع، وقد ينجحون في رمي المفكر الإشكالي بالرجعي، أو بالسلفية الثقافية، لكن المؤكد أن الانتباه إلى هذه الأطروحة الجريئة، سيجعل التنويريين العرب الحقيقيين، ينتبهون إلى الجرائم التي يرتكبها البعض باسم التنوير في حق التنوير، حيث تتحول دعاوى الحرية إلى دعايات للانفلات، وتتشوه نداءات المساواة بالتعميمات المخلة التي تطيح بحقيقة وطبيعة الاختلافات والتمايزات، التي هي من نسيج الحياة، وتلتوي رايات التحديث، فتتحول إلى إشارات طريق نحو الغريب وغير الملائم لواقعنا وجوهر طموحنا النهضوي. باختصار، هذه المشاغبة الثقافية من هذا المفكر الإشكالي، ماهي إلا دعوة مخلصة، وإن بدت خشنة، لإنقاذ التنوير... التنوير الحقيقي الخلاق، وليس التنوير الزاعق الزائف الراكض وراء المظاهر والمهمل للفكر الإنساني ومخرجاته الحضارية.

 

سليمان إبراهيم العسكري