لم يكن ما جرى من أحداث الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية في إساءتها إلى مقام رسولنا العظيم، أو زلاّت لسان البابا بنديكت السادس حول مقولته إنه لا عقلانية في الإسلام، وفي لجوئه إلى السيف والحرب لنشر دعوته أمورًا عابرة.

ومن قبلها لم تكن زلة لسان الرئيس بوش بإعلان حرب صليبية ضد الإرهاب الإسلامي وصكه لمصطلح الإسلام الفاشي أحداثًا منفصلة جزئية أو فردية منعزلة عن السياقات العولمية للرأسمالية المتوحشة وثقافتها. كذلك، لم تكن آراء صحيفة «الفيجارو» الفرنسية وبعض الصحف الألمانية في الأشهر الماضية إلا مزيدًا من ضغث على إبالة في هذا التوجه المتقد تعصبًا وعنصرية إزاء الإسلام والمسلمين.

إنها من نواتج النظام العالمي الجديد الذي تسعى الولايات المتحدة باعتبارها قطب العالم الأوحد إلى تولي مسئولية «أمن العالم» وضبط حركته. وهي تعين نفسها مستعدة للقيام بدور «القوة المرتزقة المتطوعة» - كما يرى تشومسكي - نيابة عن العالم بالتدخل المسلح سافرًا أو بالتهديد خفيًا في إخماد الحركات الوطنية، أو في دعم الموالين للمصالح الأمريكية على ظهر هذا الكوكب. وهي كذلك مستعدة لاستخدام أسلحتها وإسرائيلها وخبرائها ومخابراتها، بما تمور به عوامل الاضطراب في ساحات الشرق الأوسط القديم أو الكبير أو الجديد!!

هذا بالإضافة إلى ما جرى ويجري في دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأقصى. ولم تعد أمريكا في حاجة إلى أن تلجأ أحيانًا إلى دولار المعز في تعاملها مع العالم الثالث، كما كان الحال خلال الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي سبيل ضمان «أمن العالم» وهي سيدة قراره، وضمان استقراره، تعلن مسئولياتها في «القضاء على الإرهاب» مهما كلفها ذلك. ولم تعد تعدم التبرير من خلال ضغوط ديمقراطية السوق والمناخ اللازم لحرية التجارة، لغزوها أسواق العالم وتشكيلها لأمركة نظم مجتمعاته وثقافاته. وبلغ مدى الهيمنة وتبرير شرعيتها إلى نسبتها لمنطلقات دينية ودوافع «رسولية» من التاريخ وميتافيزيقيا القدر الذي يُحمّلها تلك الرسالة.

العولمة. وجه قديم

ولعلنا نتساءل عما إذا كانت العولمة وجهًا جديدًا، أم أنها ضرب قديم تنامى واستقوى من تراكم إفرازات الرأسمالية الغربية في التسلط على العالم النامي؟ لقد تشكل هذا الوجه الجديد كما يفعل فيروس الإنفلونزا، حين يعيد تشكيل سلالاته من جيل إلى جيل لتزداد قدرته على امتهان حرمة الأبدان وإضعاف طاقاتها على المقاومة. وهل نحن لانزال مع غزوات الرأسمالية، وقد توحشت، لتحضير الشعوب المتخلفة من خلال التبشير بالإنجيل في يدها اليمنى، واغتصاب الأرض والثروات بيدها اليسرى؟ وهل نحن مع تقسيم البشر إلى (أمم شر) مارقة وأمم (خير) ذات رسالة إلهية بطبيعتها، ولابد من ترويض النوع الأول؟ وهل نحن مع إحياء أجواء الحروب الصليبية في صراع على الأرض باسم الدين في القرون الثاني والثالث والرابع عشر الميلادية؟ وهل الهيمنة الرأسمالية تمتد إلى صراع ديني بين الحضارات كما يؤكد فيلسوفها هنتنجتون في كتاباته؟

وفي صحائف تاريخنا العربي الإسلامي، لم نطلق حتى على ما يسميه الغرب بالحروب الصليبية صفة (الصليبية) بل كان مؤرخو تلك الحقبة من أمثال المقريزي، وأبو المحاسن بن تغري، بردي والقلقشندي، وابن بطوطة، والسخاوي وغيرهم يشيرون إلى أنها حروب مع الفرنجة (الإفرنج) أو مع الفرنسيس، أو مع الأنكتار (الإنجليز) أو مع فرسان الإسبتارية والداوية من الجماعات التبشيرية.

لقد كان صلاح الدين والكامل وقطز وبيبرس من سلاطين الأيوبيين والمماليك يدافعون عن أرضهم ومقدساتهم التي اغتصبها الأوربيون، لا ضد المسيحية أو الصليب. وقصص التعامل الإنساني بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد ملك الإنكتار، إضاءات في التعامل الفروسي حين أرسل الأول طبيبه إلى الثاني أثناء مرضه. كما تشير المراجع إلى أنه منذ استيلائه على بيت المقدس سنة 1187م تعهد بألا يستدفع الحجاج المسيحيين جزية مقابل زيارتهم للأماكن المقدسة. كذلك كانت حكايات تعامل السلطان الكامل مع أسيره لويس التاسع في دار ابن لقمان بالمنصورة مثالاً مشرقًا للتعامل مع الأسرى.

ثم أين هذا السلوك الإنساني من أفاعيل طلائع الاستعمار الغربي عندما كانت البرتغال تحاول الوصول بأساطيلها إلى الشرق الأقصى. ويجيء (فاسكو داجاما) ليمخر عباب المحيط الهندي شرقًا مستعينًا بفارس البحار العربي العماني أحمد بن ماجد. لقد كانت مكافأته القتل على خدماته. كذلك لقيت الأقطار العربية مكافأة سنمار على وقوفها مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. وكان الجزاء تقسيمها على أساس معاهدة سايكس - بيكو، ووعد بلفور بإقامة وطن لليهود في فلسطين.

***

ثم إن مزاعم الغرب بأن المصريين أو الفلسطينيين أو الأفغان أو العراقيين أو اللبنانيين هم دائمًا البادئون بالعدوان أو بالتهديد، إن هي إلا من التبريرات لشن الحروب عليهم. وهي تجسيد دموي للقصة المشهورة لما قدمه الذئب من تبرير في التهامه للحمل بصرف النظر عما إذا كان هو قد عكَّر عليه الماء أم كان أجداده.

وحتى في تاريخ العصور الوسطى كانت العلاقة مستقرة إلى حد كبير في مصر بين الأقباط والمسلمين في الداخل، وفي العلاقة بين ملك الحبشة (الحطي كما تطلق عليه المراجع) وبين سلاطين المماليك في مصر ومع الكنيسة القبطية في الحبشة. لقد ظل بطرك الكرازة المرقسية بالإسكندرية يرسم المطارنة من الرهبان المصريين لتولي شئون كنيسة الحبشة، وظل هؤلاء قوامين على أمور الكنيسة والدين، على أكمل وجه.

ولم تكن العلاقة لتضطرب بين المسلمين والأقباط في الداخل أو بين الكنيسة الأم في الإسكندرية وبين ملوك الحبشة ومطرانيتهم القبطية، إلا عند تدخل بعض ملوك أوربا من الفرنسيس والبرتغال في محاولة لنشر المذهب الكاثوليكي، وتحريض ملوك الحبشة على الاشتراك معهم في غزوات صليبية ضد مصر. وقد كانت أفكار تلك الحروب الصليبية مشروعات يكمن جوهرها في أهداف اقتصادية لتدمير التجارة المملوكية وإغلاق البحر الأحمر. وقد أشار بعض المؤرخين الفرنسيين المحدثين إلى أنه إذا امتنع الأوربيون عن شراء البُهار من المصريين مدة ستة أشهر، فإن ذلك كان سيحدث نكبة اقتصادية كبرى لدولة المماليك.

بذور العلاقة المتأزمة

خلاصة هذا التجوال، بين الحاضر والماضي، هي محاولة لاكتشاف البذور والجذور في هذه العلاقة المتأزمة بين الغرب وذروة تجلياته في هيمنة العولمة، امتدادًا من الاستعمار بجيوشه إلى مزاوجته بينها وبين الاختراق الاقتصادي والثقافي، والدين في قلب كل من هذين الاختراقين. وتلكم هي شنشنة الرأسمالية في قمة صعودها واستغلالها. لقد أدركت أن الثقافة بمكوناتها ورموزها التراثية والدينية والتاريخية تمثل بعدًا مهمًا ينبغي النفاد إليه وتفكيكه للعلاقات والمؤسسات الاجتماعية، وتوهين ثوابته الدينية والعقائدية. وهي بذلك تجهد في النفاد إلى عقول المواطنين وتبديل أفضلياتهم الحياتية، موظفة انفتاح أسواقه التي لم تعد تنافسية، بل احتكارية بفعل مؤسساته العملاقة المتعددة الجنسيات، وسدنتها من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغيرهما من المؤسسات العالمية.

ويستعين الغرب في هذه السياسة كذلك ببث رسائله الإعلامية والإعلانية وقيمها المعنوية ورموزها الاجتماعية، وتأكيد استعلائه المطلق لأساليب حياته وتجلياتها المادية، والثقافية، باعتبارها أسمى ما وصل إليه التطور الحضاري التاريخي، ليفتح شهية الاستهلاك لسلعه وخدماته. ومن خلال ذلك كله يطرح - ثم يفرض - على الدول النامية التطبع بالأمركة أو التغريب على النموذج العولمي للشخصية، منفصلة عن جذورها، وعن تمكين مشاركتها في هموم وطنها، وفي تنمية موارده تنمية ذاتية في المقام الأول.

إفرازات العولمة

وكما بدأت فإن تلك التصريحات والكتابات، أيًا كان مصدرها من الساسة أو المؤرخين أو الكتّاب أو رجال الدين أو الصحافة في الغرب، إنما هي في التحليل الأخير إفرازات للنظام العولمي المتجدد برأسماليته المتوحشة، ومحاولاته السيطرة على موارد الضعفاء بكل ما لديه من آيات القوة والسلطان والجبروت، إنها رأسمالية احتكارية قد لا يتعرف عليها بل قد ينكرها الآن مُنظِّر الرأسمالية الأكبر (آدم سمث).

أما وقد فشلت كل جهودنا فيما يسمى بحوار الحضارات، وبالمواثيق والإعلانات العالمية، وكتابات الغيورين على دينهم وثقافتهم من المسلمين، أو من الكتّاب المنصفين في الغرب، فإنه لم يعد ثمة إضاعة للجهد والوقت، ولا نجد أمامنا إلا خيار الحل الأخير: لا حوار، ولا شقشقات حول تفسير للصراع، ولا دفاعًا لفظيًا عن المقدسات، ولا مجاملات واسترضاءات دبلوماسية. إنما السبيل الناجع الوحيد اليوم هو المواجهة والمقاومة، بما لدينا من وسائل المقاومة المتاحة والممكنة وهي ليست بالقليل. لقد أدت مواجهاتنا السابقة تسطيحًا وتمييعًا لما كان ينبغي أن نتخذ من مواقف حازمة. وإذا صح العزم واتسقت وتوحدت الجهود فسوف تفرض أمتنا مكانها اللائق بها، وبفترات حضارتها العربية الإسلامية وثقافتها التي علّمت أوربا واقتبست واهتدت بفلاسفتها وعلمائها من قبل.

***

قد يكون ما انتهيت إليه رأيًا انفعاليًا محبطًا، لم أتمالك إلا أن أعرضه واثقًا من أن كثيرين قد بلغوا تلك الرؤية والقناعة. لقد تفجّر هذا الإحساس بفعل ما عايشت وعانيت كغيري من أبناء هذه الأمة من أحداث التعامل مع الغرب. لقد شعرت شخصيًا بمرارة العلقم حين اختطف العسكري البريطاني المخمور (طربوشي) من فوق رأسي وأنا أتمشى في إحدى الأمسيات بشارع فؤاد (26 يوليو). ومنذ ذلك الحدث عام 1939 أخذ يتبلور لدى ذلك الشعور، لأدرك كيف يختطف الغرب الموارد والأوطان. لقد عايشت حروبًا متعددة من عدوان الغرب علينا منذ فتح ومهّد الطريق لإنشاء «دولة إسرائيل»، مدعمًا ومناصرًا لها في كل جرائمها، ولم يكن حريق المسجد الأقصى أو الإغارة على المسجد الإبراهيمي في فلسطين، والمصلون رُكَّعُ سُجَّدُ إلا مظهرًا من مظاهره الوحشية. لقد كان ذلك شأن الفرنسيس حين اقتحم جيشهم الجامع الأزهر ليدك ساحته بخيوله لترويع المصلين. والقارئ ليس في حاجة إلى التذكير بالعدوان على مصر، أو أفغانستان أو العراق أو بتهديد السودان وإيران. ولقد كانت الحرب الأخيرة على لبنان العام الماضي بالنسبة لي، آخر مسمار يدقه الغرب في نعش ما نلوكه من قضايا المفاوضات واللقاءات والاتفاقيات والاجتماعات والحوارات وغيرها من صور مماطلة الغرب وتمييعه ومخادعته لاسترداد حقوق أمتنا، وفي إرساء سلام عادل ودائم للعيش المشترك.

لقد بلغ شعورنا بالهوان إلى درجة الاحتقان والانفجار من مواقف الغرب نحونا، ومن استهانة بأقدارنا، وظللنا نسلك معه الأسلوب نفسه في الشجب والإدانة ومحاولات الفهم والإفهام والاستكانة، «ومن يهن يسهل الهوان عليه» كما قال الشاعر الحكيم. ولم - ولن - ينفعنا أن نستجير بالأمم المتحدة، ففي ذلك إضاعة للوقت وتخلص من مسئولية المواجهة الحازمة، تحت ستار السلام. ومعذرة لأصحاب النوايا الحسنة في غموض تحديد جوهر مفاهيم السلام والتسامح، حين تنعدم شروطها الأولية.

ترسيخ التعصب

وقد وقعت في نفسي تلك الأقصوصة التي حكاها لي أخيرًا أحد أبنائنا المغتربين في الولايات المتحدة والتي انتشرت فيما بينهم وجاءت برهانًا واقعيًا على ترسخ التعصب والكراهية العميقة نحو شعوبنا لدى معظم الشعب الأمريكي حاليًا.

تقول الحكاية المسمومة:

كان صحفي يتجول بالحديقة المركزية (سنترال بارك) في نيويورك، ورأى رجلاً يحاول إنقاذ فتاة من هجوم كلب شرس عليها. وفجأة ظهر شرطي في الموقع فوجد الكلب مقتولاً وقد أنقذ الرجل حياة الفتاة. وعندئذ تقدم الصحفي إلى موقع المعركة، فأثنى على الرجل قائلاً:

- غدًا سوف تنشر الصحف اسم رجل شجاع من نيويورك أنقذ الفتاة من هجوم كلب شرس.

- رد الرجل قائلاً: إنني لست من أهل نيويورك.

- أردف الصحفي معدلاً: إذن سوف تذكر الصحافة اسم رجل أمريكي شجاع أنقذ الفتاة.

- رد الرجل: أنا لست أمريكيًا.

- رد الصحفي متسائلا: من أين أنت إذن؟

- وكانت إجابة الرجل الشجاع: أنا لست أمريكيًا، إنني عربي.

وفي صبيحة اليوم التالي تنشر الصحف الخبر «إن إسلاميًا متطرفًا قتل كلبًا صغيرًا بريئًا في الحديقة المركزية».

تلك القصة الرمزية لا تحتاج إلى تعليق سوى ما تجسده من عمق الإدراك، بوعي أو بغير وعي، لما ترسخ في الذهن والوجدان الغربي من تعصب وعنصرية عمياء، واستهانة بالغة بأقدار أمتنا.

وأتساءل مرة أخرى: ألا يحق لي أن أقتنع بأنه (مع العولمة ورأسماليتها الغربية وسدنتها، لا حوار ولا شجب وإدانة بل مواجهة ومقاومة صراح).

والقضية بالنسبة للغرب ليست صراع حضارات ولا تطاحن ديانات، وإنما هي تفكيك وتحطيم من خلال فرض هيمنة ثقافية شاملة عارمة، بغية استغلال موارد الشعوب واستنزاف ثرواتها.

إنها مواجهة ومقاومة على جبهتين، خارجية وداخلية، لما يحدثه الخارج في الداخل، ولما ينداح من تأثير الأول في توجهات الداخل، وفرز ما ترسب وتراكم من تراث الماضي ومؤسسات الحاضر في أشكاله ومضامينه وآلياته، وثقافته، مما يعيق الحركة والنماء الذاتي، ومتخلصًا مما أدت إليه من صور التبعية.

وفي غياب الحريات تتعذر المواجهة والمقاومة لتحقيق إمكانات المجتمع على الجهتين. مسئوليتنا وحدنا أن نقبض على مقومات نظمنا وثقافتنا كما قال (البيركامو)، (حتى يمكننا خدمة المستقبل واستيعاب الماضي وامتلاك التاريخ)، أو كما قال الشيخ رفاعة الطهطاوي من رواد حركة النهضة (نريد أمة عربية نبنيها نحن بالحرية والعلم والمصنع).

والله من وراء القصد,
ومن أمامه ومن خلفه.