النظم السياسية وتطور المعرفة

النظم السياسية وتطور المعرفة

أسوأ ما فينا هو أن نترك نفوسنا تتفتت، فنشعر بعقولنا ونفكر بعواطفنا، ونترك غرائزنا تعود بنا إلى أصولنا القديمة.

حقًا! يا له من شوط قطعه النوع الآدمي! ويا له من مشهد لو جئنا بإنسان وحشي، شخص من نوع طرزان الذي عاش مع الوحوش كواحد منها، ووضعناه بجوار رائد الفضاء الحديث، وقارنا أحدهما بالآخر. والعجيب في الأمر أنهما نفس الكائن، بكل مكوناته الجسمية والذهنية، إلا أن أحدهما عاش بمجرد الغريزة، والتي رأى أفلاطون أنها واحدة من الدوافع الآدمية الثلاثة والثاني تلقى تدريبًا يمثل كل ما توصلنا إليه من قمم المعرفة، والتي رأى أفلاطون أنها الدافع الثاني، المعرفة بعلوم الفلك وتكنولوجيا الصواريخ وقيادة سفن الفضاء ووسائل الاتصال والتحكم الإلكتروني، وفوق كل هذا لياقة بدنية تجعله قادرًا على أن يصرع «مون ووتشر» في لمح البصر، ثم شجاعة تجعله لا يكاد يعرف ما هو الخوف - وهو نوع من العواطف التي جعلها أفلاطون ثالثة الأثافي، وإن كان لايزال بالغ الروعة في عواطفه الحديثة الراقية، وعلى رأسها «الحب»، حب المعرفة وحب الناس وحب الكون والحياة تحت عنوان «ارتقاء الإنسان»، يقول آرثر كلارك مؤلف الخيال العلمي الأمريكي عن الانسان البدائي:

«كانت لديهم عدد وأدوات لا تزيد كثيرًا عما كان لدى أسلافهم، ولكنهم أصبحوا يستخدمونها بدرجة عالية من المهارة. وفي موضع من القرون الغامضة التي مضت كانوا قد توصلوا إلى أكثر هذه الأدوات نفعًا وفاعلية، وإن تكن شيئًا لا يُرى ولا يُلمس: تعلموا أن يتكلموا، وبهذا حازوا أعظم انتصار على الزمن، فبذلك أصبحت المعرفة التي يحوزها جيل منهم تنتقل إلى الجيل الذي يليه، بخلاف الحيوانات التي لا تدرك إلا الحاضر، أصبح الإنسان يمتلك الماضي، وبذلك صار قادرًا على أن يتطلع إلى المستقبل!».

نعم، نحن نتاج هذه الأشياء الثلاثة: الغريزة، كبقية الكائنات، ثم العواطف، ولديها أقدار متفاوتة منها، فهي قادرة على الإحساس بالغضب والغيرة والخوف بل وبشيء من الحب عند بعض أنواعها الراقية، ثم لديها هذه النعمة العظمى التي تظل تكبر وتتسع وترتقي: العقل المختزن المفكر المبدع. إلا أن أسوأ ما فينا هو أن نترك نفوسنا تتفكك، فنشعر بعقولنا، ونفكر بعواطفنا، أو نترك غرائزنا تعود بنا إلى أصولنا القديمة، كل شر نتج عنا كأفراد وجماعات، جاء من إغفالنا لواحد أو أكثر من هذه الدوافع، التي يجب أن تعمل في سيمفونية متسقة وعلى رأس هذه الشرور: الفاشية والشيوعية.

بين الحق والقوة

من هوميروس إلى زهير بن أبي سلمى إلى علي محمود طه، طالما حلم الشعراء بعالم يسوده الجمال والرقة والعواطف النبيلة. تساءل صاحب الإلياذة: «متى تنتفي روح الصراع بين الناس والآلهة؟» وسخر منه الفيلسوف هرقليطس، الذي وصف بأنه «أبو الفاشية»، قائلا: «ألا يدري أنه يصلي من أجل دمار الحياة؟ الصراع هو الحق، والحرب أمنا جميعًا. جعلت البعض رجالاً والبعض أقزامًا، البعض أحرارًا والبعض عبيدًا» - حقًا، مادامت شريعة الحياة أن البقاء للأصلح، فلماذا لا يتولى الأقوياء تطهرها من الضعفاء؟ وكما قال المركيز دي صاد، الذي تنسب إليه «الصادية» - أو «السادية»: «ما الذي يخسره الكون عندما يختفي جسم يمشي على قدمين، ويعاد إنتاجه على هيئة مليون حشرة؟».

هذا بالضبط هو ما يحدث عندما نفكر بعقولنا متجاهلين عواطفنا. وإذا كان كوكب الأرض يضيق الآن بسكانه - وهو فعلاً كذلك - فلماذا لا نأتي لإفريقيا مثلاً ونبيد سكانها بإشعاع نووي ونطهرها من الفقر والجوع والإيدز؟ الذي يحدث هو أن القوى العالمية منشغلة بمعاونة الإفريقيين على مكافحة هذه الشرور الثلاثة، وأرجو أن يسامحني القارئ عندما أقول إنهم يقومون بعمل طيب، مدفوعين فيه بعاطفة التجاوب الإنساني، التي هي ثالثة القوى التي تؤثر علينا، وإنني لا أرى أن الإفريقيين يقابلون هذا الجهد بما يستحقه من الاستجابة.

نحن مخلوقون بحيث نتعاطف مع أبناء جنسنا، وهي ظاهرة في جميع الكائنات، إلا أنها عندنا ليست مجرد غريزة كما عند الطيور، إنها سلوك يجمع بين مكوناتنا الثلاثة التي تختل عندما نحاول أن نفصل بينها، وهذا هو ما كان يريده الإغريقي المذكور، وما ظل يتبعه الفاشيون لغاية أدولف هتلر الذي كان يرى أن العنصر الآري يجب أن يسود العالم وأن إفناء بقية العناصر سيكون هو الطريق إلى بناء إنسان قوي، وهو معذور في شيء واحد هو جهله إذ ذاك بما نعرفه نحن اليوم، وهو أنه - طبقًا للتطور الحديث في علوم الجينات - ليس هناك أدنى فرق في تكوين البشر، والإنسان من مون ووتشر إلى الدكتور فلويد، هو الكائن نفسه بخريطة الجينوم نفسها، وأن اللجوء إلى حروب الإبادة العرقية سيكون خليقًا أن يحط بهذا الكائن إلى أسفل سافلين، إذ إنه بتجريده من عواطفه سيتحول إلى وحش على قدمين، عاجز تمامًا عن الحب والتعاطف، بعبارة أخرى: مجرد غوريلا، أو«القرد الكثيف الشعر» الذي تخيله يوجين أونيل.

على الجانب الآخر، نجد الشيوعية - في صورة الماركسية اللينينية - تدعو إلى الإيمان بالمادية، فالوجود هو للمادة وليس العقل الذي يدرك وجودها، بل إن عقولنا ليست سوى قطع من المادة، وهي التي تحس وتفكر، وحقائق الكون - من حيث إنها لا تخرج عن علوم الفيزياء والكيمياء - كلها قابلة للمعرفة، وأحداث التاريخ حتمية الحدوث. مرة أخرى يرينا العلم الحديث مدى ما في هذا من خرافة وضلال، نظرية الكوانتم - «الكم» - ومعها «مبدأ عدم اليقين» كما يسمى - أن المادة شيء هلامي وأنه من داخله مليء بالفراغات ولا يختلف كثيرًا عن المجال المغناطيسي. وبالرغم من التقدم المتسارع في المعرفة فإننا حتى الآن نتداول هذه الأشياء ونحركها كما نشاء ولكننا لا نعرف «الكنه» الحقيقي لها. نحن لا نملك حتى تفسيرًا مقطوعًا به لظواهر مثل الجاذبية والمغناطيسية.

ترى ماذا كان النظام «السوشيوبوليتيك» الذي كان يسود أيام «مون ووتشر»؟

كان نظامًا قبليًا بالتأكيد، كل جماعة تعيش معًا، وهو ما كان يسود في أيام امرئ القيس أيضًا، الذي كان ملكًا على «كندة». القبيلة في داخلها «كوميون» بدائي، الفرد يمنحها الطاعة والولاء، وهي تعطيه الأمن والغذاء، فهي شيوعية في داخلها لكنها فاشية في سياستها الخارجية. إذا اقتتل فرد أو جماعة من قبيلة مع فرد أو جماعة من أخرى، ونتج عن ذلك فقد للمال أو الحياة، فليس هناك قانون يحاسب المعتدين، وإذا لم تقم القبيلة بالثأر لضحاياها فلن يتحمل المعتدون أي مسئولية، ولكن النزعة الفاشية كانت عادة هي التي تغلب، وهذا هو ما جعل زهير بن أبي سلمى يأسى للحرب الضروس التي نشبت بين عبس وذبيان، في معلقته.

المبادئ الهدامة

كان هذا هو الاسم الذي أطلقته الصحافة المصرية والعربية على الأحزاب والجماعات التي كانت تنتمي لهذا وذاك، وإذا راعينا أن الفاشيين يميلون دائمًا إلى اتخاذ مظهر أو آخر يتميز به أتباعهم عن غيرهم، تمهيدًا لضم الناس إليهم بتخويفهم أو التخلص منهم بإبادة كل من لا يلبس الـ «يونيفورم» أو يتخذ الشكل المميز، رجالاً كانوا أم نساءً، فإننا يمكن بسهولة أن نضم تنظيما كالإخوان أو الطالبان إلى المعسكر الفاشي، وسواء إذ ذاك - أي منتصف القرن الماضي - أو في يومنا هذا، فهم يمارسون القتل بلا تمييز على الرغم مما يرفعونه من شعارات دين ينهى عن إيذاء النساء والأطفال. وكما هو معروف فإن ما يحدث الآن على مستوى العالم حدث في مصر مثلا على مستواها أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، قنابل في دور السينما والمحلات العامة ثم اغتيال كل من يعترض على ذلك.

كانت الحرب الأهلية التي دارت في إسبانيا في الثلاثينيات من القرن العشرين هي «البروفة» التي سبقت الحدث الهائل الذي جاء بعدها، كانت الفاشية والشيوعية ماثلتين في كلتا الحالتين، وكانت الفاشية قد بلغت قمتها في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، متمثلة في دول المحور، وكانت كل من ألمانيا واليابان تملك قوة عسكرية هائلة وعالية المستوى، ولولا تدخل الولايات المتحدة إلى هذا المعترك بمواردها المادية والبشرية الهائلة، وموقعها الجغرافي الحصين لما أمكن التغلب على هاتين القوتين الوحشيتين. وعندما خرج الاتحاد السوفييتي منتصرًا وأصبح إحدى القوتين العظميين المتواجهتين فيما يعرف باسم «الحرب الباردة»، تمثل الشر من جديد في هذا المعسكر الذي قال مؤسسه فلاديمير لينين إنه لا مانع لديه أن يفني ثلاثة أرباع البشر إذا كان الربع الباقي سيكون شيوعيًا! حقاً، إذا كانت أمخاخنا مجرد قطع من المادة الصماء فما قيمة الإنسان؟ ومرة أخرى، تصدت الولايات المتحدة لهذا الشر القبيح وأعلن رئيسها رونالد ريجان أنه ينادي جامعات أمريكا وعلماءها ويدعوهم لأن «يحيلوا هذه الترسانة النووية إلى كيان عقيم مشلول»، وأعلن بدء البرنامج الذي عرف بـ «حرب النجوم» وبدأ في الوقت ذاته يشجع حركات الانشقاق الفكري داخل الاتحاد السوفييتي بقيادة علمائه ومفكريه (القلة منهم التي كانت متبقية) وهكذا فإنها حقيقة لا تنكر أن القوة الحربية الأمريكية كانت هي التي أنقذتنا جميعًا من هذا الحضيض، وسوف نظل مدينين لهم بهذا مهما بلغ بنا التعصب الإثني أو الديني.

تقدم المعرفة

بينما كان سكان أوربا يعيشون في الكهوف ويفترس بعضهم بعضا كانت مصر القديمة حضارة بالغة الرقي بمقياس زمانها، ونحن هنا لا نشير إلى معابدهم وهياكلهم وقصورهم بقدر ما نشير إلى ما يدل عليه هذا من المعرفة بالرياضيات وخواص المادة وإلى إتقان فنون البناء والمساحة وإلى رصدهم النجوم والكواكب، وفي كتاب للدكتور الطبيب العالم محمد كامل حسين فصل بعنوان «أول رسالة علمية - بردي أدوين سميث في الجراحة»، وقد زار أفلاطون مصر في أواخر أيامه وانبهر بنظم التعليم وعاد إلى بلاده لينصح أبناء بلده بمحاكاتها - ولم تكن مصر إذ ذاك في أفضل مراحل تطورها.

وعندما غرقت أوربا في عصور الظلام قدمنا للبشرية رجالاً علماء، مثل الجاحظ وابن خلدون والخوارزمي وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم، وكان كتاب ابن سينا «القانون» هو المرجع العالمي الوحيد في الطب زهاء ستة قرون، وكانت كتابات ابن رشد وعلي بن حزم وغيرهما أساسًا بنى عليه الأوربيون عصر النهضة وما تلاه من تقدم، وهم يقرون بما قدمناه للبشرية ولا يجدون فيه عيبًا، ولايزالون ينفقون الكثير على مثل ما قام به أدوين سميث وغيره من الباحثين في حضارة البشر دون تمييز ديني أو عنصري، فكل جديد في المعرفة يصبح ملكًا للبشرية كلها ولا أظن أننا نستطيع أن ننكر فضل أبطال المعرفة واستكشاف آفاقها، ونحن نجني ثمارها في كل نَفَسْ نستنشقه وكل قطرة ماء نحتسيها. وهكذا فإنه بدءًا من القرن السابع عشر مضى الغربيون يقفزون خطوات هائلة في دنيا المعرفة، أعطاهم هذا قوة كبرى بطبيعة الحال، وأخذوا يجوبون آفاق المعمورة مقتحمين أرجاءها، باحثين عن الخامات المعدنية والبشرية أيضًا، أي اختطاف الشباب لاستغلال عضلاتهم، ثم هابطين على أراضي آسيا وإفريقيا ليتخذوا موقف السيد المستعمر. كان رد فعل الشعوب متفاوتًا - بالطبع - فهم ينتمون لعقائد وديانات ومواثيق خلقية متباينة. من أكثر هذه الحالات استحقاقًا للاهتمام مثال اليابان. بالرغم من أن جزر اليابان تتخذ موقعًا فريدًا على سطح الكوكب، يجعلها تخرج عن طريق الملاحة المألوفة، فإن تقدم الملاحة واستخدام المحركات البخارية أديا إلى تعرضها للكثير من أحداث الهبوط على سواحلها، سواء نتيجة لجنوح باخرة بالصدفة المحضة أو لمجيء المبشرين من بلاد مثل البرتغال. وكان التعصب العرقي والديني في تلك العصور عنيفًا وفظيعا. وحدث سنة 1612 أن ثار السخط على ما يبشر به القساوسة بوصفه تضليلاً ونشرًا للفساد. ونتج عن ذلك طردهم وتدمير أماكن العبادة، التي شيدوها، وتحريم خروج أي ياباني خارج بلاده ومعاقبته بالموت إذا فعل وحدث أن عاد إليها. ودخلت اليابان في عزلة امتدت إلى وسط القرن التاسع عشر عندما وقع أخطر حادث في تاريخها، وهو مجيء القبطان الأمريكي بيري، طالبًا السماح للسفن الأمريكية المشتغلة بالتجارة وصيد الحيتان، بأن تأخذ احتياجاتها من الطعام والوقود، وأن يحسن اليابانيون معاملة البحارة اللاجئين بسبب الكوارث البحرية. ومما يشوق أن تقرأ وصفًا لأسطول هذا القائد البحري، وما أصاب اليابانيين من الذعر لرؤية بواخر يتصاعد منها الدخان! كان مستواهم المعرفي مذهلاً من حيث الجهل والتخلف من جراء العزلة، وكان نظام الحكم إقطاعيًا بغيضًا وفرسان «السامواري» يعيثون في الناس على طريقة نظرائهم في تاريخنا، المماليك! وانقسموا فريقين، أحدهما يدعو إلى بذل كل جهد ومال ودم في سبيل طرد الغزاة.والثاني ينصح بدرجة من التفاهم، وهو ما اتخذ شكل معاهدة وقعت في يوكوهاما - وكانت إذ ذاك مجرد قرية للصيادين سنة 1854، وكانت روسيا هي أيضًا تمضي في الاتجاه نفسه. وكان يتردد على سواحل اليابان أدميرال يدعى بوتياتين، وعندما وقع زلزال أغرق سفينة بوتياتين شاع في اليابان اعتقاد بأن الآلهة تعاقبهم على انصياعهم لتهديدات الأمريكي بيري! وصدر إعلان من الحكومة يعترف بأن اليابان لن تقدر على الدفاع عن سواحلها في مواجهة مثل هذه القوى البحرية «الحديثة»، وسرعان ما انتصر رأي العقلاء على نزعة الفتوات، شهد العالم أضخم وأسرع حركة تنوير في تاريخه، وبدأت إعادة السلطات إلى الإمبراطور، وكان إذ ذاك شابًا يافعًا، واستمر حكمه أربعة وأربعين عامًا بدأها في أبريل 1867 بإعلانه الشهير:

«سوف يكون ميثاقنا هو أن نطلب المعرفة من كل مكان في هذا العالم، وسوف تكون هذه المعرفة هي دعامة النظام السياسي الإمبراطوري ومصدر قوته».

إلى الفاشية ثم الديمقراطية

وجمعوا المعرفة فعلاً من كل مكان في العالم، وأمسكوا بها من جميع أطرافها، وانتقل الياباني من «فون ووتشر» إلى... ما لا يقل سوءًا في الواقع، إلى الجنرال طوجو والأدميرال ياماموتو، نفس نزعة الغرور، التي أصابت الأوربيين والأمريكيين، وعندما انتصر أسطولهم على البحرية الروسية في حرب بحر اليابان (1904 - 1905) أسكرهم النصر ومضوا يرتكبون الفظائع.وذلك لأن المعرفة وإن كانت هي طريق الإنسان إلى الارتقاء والتقدم، فإنه لابد أن يصحبها أيضًا الإقلاع عن الخرافات ووحشية العصور القديمة. عملية اكتساب المعرفة دائمًا تسبق السمو الفكري والأخلاقي، لأن المعرفة سهلة التوارث،خصوصًا عندما عرفنا كيف نسجلها ونجعلها تنتقل من جيل إلى جيل، أما قيم العدالة واحترام حقوق الإنسان، فهي لا تنتقل بسهولة، غالبًا يحتاج الأمر إلى انقضاء الجيل القديم ومجيء إنسان يتربى عليها ويكون نتاجًا للرخاء والحرية. كانت هزيمة الفاشية في منتصف القرن العشرين هي هذا بالنسبة لليابان، مضى جيل طوجو وياماموتو، وجاء جيل تويودا وهوندا، رجال الأعمال الشجعان الأذكياء الذين يعرفون كيف يتحقق الرخاء وترسخ الحرية.

ولكن المعرفة تظل هي «المتغير المستقل» كما يقول الرياضيون، فهي تحث على نبذ الخرافات والعصبيات المقيتة التي تنتج عن الاستغراق فيها، وهي تمكن من تحسين وسائل العمل من أجل تحسين الإنتاجية ونوعية الحياة. ومع تطور الفلسفات تأتي مبادئ الإخاء و«قبول الآخر» كما يسمونه. صحيح أن تاريخ العالم مليء بالشرور والفظاعات، إلا أن مرد ذلك هو جشع الحكام وافتقارهم إلى الإدراك السليم لحقائق الحياة الإنسانية ومعطياتها. وقد أسهم تطور نظم الإدارة، وتوافر وسائل المشاركة، لا في اتخاذ القرار فحسب، بل أيضًا في ملكية رأس المال، مما أسهم في تقليم شرور الرأسمالية، كما درجنا على رؤيتها. الواقع أنه حتى وجود أناس مفرطين في الثراء، فإن مجرد وجود هذه القوة - قوة المال - سيكون كفيلاً بكبح جماح السلطة الحاكمة. إن أسوأ ما يصيب المجتمع هو أن تجمع الحكومة بين السلطة والمال، وأن يعاني الناس مرارة الفقر، ويصبحوا عبيدًا لها. ومهما كانت مواقفنا من القوى العالمية، فإن علينا أن نحد من مشاعر النقمة القائمة على التعصب، أن نقر بأننا رأيناهم يتصدون للصرب، ويوقفون فظائعهم ضد شعوب البوسنة وكوسوفو، ويقبضون على ميلوسوفتش ويحاكمونه ويبحثون عن زملائه في الجريمة، ويسنون قانونًا عالميًا للمعاقبة على ما أسموه «جرائم ضد الإنسانية»، وهي سوابق ستكون عظيمة الأثر في كبح الحكام الذين لن أسميهم، ولكننا نعرفهم جيدًا، وذلك بشرط واحد، وهو أن تتعاون معهم شعوب العالم، وأن تعرف هذه الشعوب أن الجنة جنة، والجحيم جحيم، من حيثما يأتي هذا أو ذاك.

ليلة عيد الميلاد

عنوان قصيدة للشاعر الراحل علي محمود طه «ليلة الميلاد والدنيا دموع ودماء»، نعم، كانت الحرب العالمية الثانية أقوم من ساق على قدم، كما يقول المتنبي، وكان موقف مصر - مثلاً - أن هذه «حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل»، بالرغم من أن واحدة من أكبر معاركها الفاصلة دارت على أرضها. بل إن بعض السياسيين مثل علي ماهر في مصر، ورشيد عالي الكيلاني في العراق، وأعدادًا من المثقفين، كانوا سعداء بالمحنة التي يعيشها الإنجليز «الوحشين» الذين يحكموننا ويريدون التعاون مع الألمان! سذاجة مصطفى كامل نفسها.

ولما اقتحم السفير البريطاني قصر عابدين، وأنذر الملك بتعيين وزارة وفدية، غضب شباب الجامعة، وتظاهروا وهم ينادون «تقدم يا روميل»، هذا بينما الفاشية النازية تقسم البشر إلى آريين هم الآدميون وساميين هم القرود، وحاميين حشرات وهكذا. ومعروف أن الألمان واليابانيين استخدموا البشر كحيوانات تجارب في البلاد، التي احتاجوا إليها. كان الإنجليز على أسوأ الفروض يروننا شعوبًا متخلفة، وكانت بلادنا تستعين بخبرائهم وأساتذتهم وأطبائهم وممرضاتهم (وقد بدأنا بطرد هؤلاء). أمتعتني هذه القصيدة، وأسعدني أن أجد شاعرًا من بلدي يأسى لفناء شباب أوربا، التي عشق فنونها وجمالها، وأن أجده - مثلي - ينتمي للبشرية وحضارتها، ويرى أن تقدم الإنسان في المعرفة يعني أن تتطور القيم والأخلاق، وأن يفض الناس منازعاتهم في دور القضاء، وليس بتبادل الطعنات والطلقات، وأيضًا أن تفض المجتمعات خصوماتها بأسلوب مماثل، ونحن لسنا وحوشًا نأخذ حقوقنا بأنيابنا وعضلاتنا، وقيمة الإنسان التي يتميز بها هي عقله وعوطفه الراقية، التي يسمو بها فوق القرود والضباع. «ليلة الميلاد والدنيا دموع ودماء»! يمضي الشاعر الرقيق المحب للدنيا والحياة. يتحسر على مَن يهلكون بالملايين من شباب أوربا، التي أعطت للبشرية ما أعطت: «هم وراء الليل أرواح وأجساد هباءُ!»، ويستغيث بالمسيح في ليلة مولده:

نادِ أوربا، فقد ينفعها منك النداءُ
نسيَ القوم وصاياك، وضلوا وأساءوا
وكما باعوك يا منقذُ... بِيعَ الأبرياءُ

هزتني هذه الأبيات من الأعماق، ومازلت أستعيدها كلما خلوت لنفسي آسفًا لأكثر ما يهمني في هذه الحياة كإنسان، وهو استعباد البشر بواسطة الرعاع الذين يصلون إلى السلطة، ويثبتون أنفسهم فيها بإشعال الحروب، كما يقول جورج أورويل: «الحرب هي السلام، الحرب في الخارج هي السلام في الداخل»، وكلما ازداد الناس بؤسًا وفقرًا، زادوا خضوعًا واستجداء ورضاء بما هم فيه، آملين ألا يزداد الأمر سوءًا. كانت هذه عقلية الحكام عندما كانوا آلهة مثل حامورابي ورمسيس، ولكن الحكام أصبحوا الآن يدركون أن مهمتهم هي خدمة مصالح رعاياهم، فهم «أجراؤها» كما قال حكيم المعرة. ومن حق الرعية أن تنتقي الحاكم المثقف الذي يعرف التاريخ والاقتصاد والإدارة، ويعرف كيف يجد الرأي السديد من العارفين عندما يريده ويحتاج إليه، إذ إنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولابد للشعوب أن تكون واعية لذلك، وأن تبني من داخلها قيادات ترفض المبادئ الهدامة، وعلى رأسها الفاشية، قومية كانت أم دينية، فهذه تحيط فوق المجتمع كما يتلبس العفريت جسم الإنسان، ويجعله يقتل أولاده ثم يقتل نفسه. على شعوب العالم الثالث أن تدرك أن المعرفة هي الخير الأعظم، وأن المصادر التي تأتي منها هي الجزء الخيّر من العالم، وأن استخدام المعرفة فيما ينفع الناس هو عمل الحكام والإدارة، وإن اختيار هؤلاء يجب أن يأتي بعيدًا عن الجهالة والخرافة والانسياق وراء وسائل إشعال أحاسيس القومية والأممية.

آه من عا صفةٍ هوجاءَ في نفسي الشقيّةْ
زلزلت قلبي ، وأودت برؤاهُ الذهبيةْ
أنا في طخياءَ كم للهمِّ فيها من ضحيّةْ
لم تغيِّب شاعراً إلا ووافته المنيةْ

فهد العسكر

 

محمد الحديدي