ري الغراب نعمات البحيري

ري الغراب

مضى أكثر من عام ونصف عام وما زالت الحياة تبدو مثل خرم إبرة صدئة. وما زالت العمارات الجديدة تقف مثل وحوش أسمنتية تحتفظ بداخلها بكثير من الظلمة والغبار وعائلات من الفئران.

والسكان القليلون الذين قدموا المدينة تسوقهم سياط الحاجة والحلم بالجدران، صاروا يشعرون بالعزلة مثل شرنقة لفت نفسها حولهم بإحكام، يحسونها مثل جلد سميك يصعب اختراقه، إلا أنهم ما زالوا يحلمون..
يحلمون بالكهرباء.. وهم بانتظارها..
ويحلمون بالمواصلات.. وهم بانتظارها..
ويحلمون بالمياه.. وهم بانتظارها..

وما زالوا يلجأون نهارا لغراب الجيش. تلك الماسورة الطويلة التي تقف مثل عصا سحرية في الخلاء ما بين عمارات المدينة ومعسكرات الجيش تعلوها حنفية صدئة، إلا أنها تحرك الصمت وتروي العطش بسرسوب ماء يجمع حوله البشر القليلين الذين سكنوا المدينة. يقفون أو يجلسون على قطع صخرية يتابعون الفرح بالماء في عيون بعضهم البعض. والغراب يبذل عطاءه الجميل والحنون بـ "جركن" صغير لهذا أو "بستلة" ذاك أو زجاجات هذه التي تأتي بمفردها وتنصرف هكذا، وكل ينتظر دوره أمام الغراب يسمعون صوته الرقيق الرقراق فوق حبات الحصى الصفراء التي تميل إلى البياض.

كانوا يلتقون، يبتسمون، يتحدثون ولا يتعارفون إلا بأرقام العمارات فالأسماء لا تعني شيئا أمام الغراب.

وفي الليل تقف العمارات صماء دون ضوء فتنظر زوجة صغيرة إلى زوجها وهو قابع في الشرفة يدخن سيجارة ويحرك يده بها في اتجاهات عديدة، ثم تنتبه إلى أنه يحركها في مواجهة شرفة بعيدة. تتوجس الزوجة وهي تمضغ حسرتها

"لم يعد لدينا إلا الجنون"

وتتذكر جارتها التي جاءت إلى المدينة "عروسا" جميلة برفقة عريسها اختفت بعد زواجها بشهور قليلة. هذه الأيام ترى عريسها مكتئبا وهو يروح ويجيء بمفرده.

كان زوجها يحرك السيجارة نحو الشرفة البعيدة. أخبرها منذ أيام أنه رأى سيارة نقل تدخل المدينة حاملة أثاثا جديدا، يبدو أنه لعروسين، وكان يبدو سعيدا. بعد قليل أدركت الزوجة أن شخصا غير مرئي يمسك بيده سيجارة ويقف في الشرفة البعيدة فيحرك ذؤابة ضوء في اتجاه شرفتهم.

تنهدت الزوجة وهي تدخل مضطرة إلى النوم قائلة : "لغة جديدة". نظرت إلى زوجها الذي أصابه هو الآخر بعض الاكتئاب وقالت في نفسها.

"غدا سآخذه إلى الغراب"

وكان الصمت والظلمة قد أقاما بينهما جدرانا تعلو يوما بعد يوم.

وتمضي الأيام وتسجل امرأة وحيدة في يومياتها.. سماء داكنة ذات دخان مكتوم وعمارات مثل أشباح وأرض مجللة بالعتمة دون ضوء أو ماء أو بشر. عدا الزيارات اليومية للغراب. أنظر من الشرفة لأرى الخلاء الممتد حتى النخلات القليلة عند مدخل المدينة. آراها وحيدة مثل وحدتي. في الحلم أسند رأسي المتعب إلى جريد النخلات الناهضة في الأفق بانتظار الضوء والمياه والبشر.

وفي نفس الليلة يحدث رجل نفسه بعد أن راحت زوجته وأطفاله في النوم. ما زلنا نعيش حياة قاسية. إلا أن هذا أفضل كثيرا من وجه حماتي. تلك المرأة التي كانت تفاجئني كل صباح عند باب دورة المياه بقسوة التلميحات، ربما كان هذا أفضل كثيرا من الحياة في بيت أمي التي كانت تشتبك مع زوجتي عند الحكم على أبسط الأشياء.

أسمع شخير زوجتي وهلاوس الأطفال في الليل.

نتعب كثيرا لكننا لسنا شديدي التعاسة. غدا سآخذهم للغراب. ثم يتبدد إحساسه بالكآبة والبرد حين يستدفئ بجسد زوجته والأغطية.

وفي النهار حول الغراب تصبح الأسئلة هي اللغة المتداركة عندما يلتقون. يتبادلونها بألسنة وآذان وعيون متشوقة للكلام والسمع والنظر، يتساءلون عن المياه والكهرباء والمواصلات والتليفونات فما زالت العزلة صارمة للغاية. وأوقعت الكثير منهم في حبائل الكآبة فغادروا المدينة إلى غير رجعة.. ومن صمدوا ما زالوا يشعرون بالمدينة مثل "عشة الدجاج" على حد تعبير أحدهم عند الغراب، يدخلونها فرادى أو جماعات سيرا على الأقدام ثم تغلق عليهم بعد ذلك بالصمت والسكون والظلمة حتى صباح اليوم التالي.

كانوا يحكون أمام الغراب عن خطواتهم المستحثة إلى شركة المياه وشركة الكهرباء ومنهم من طرق أبواب الجرائد لنشر الشكاوى والصرخات.

بعد عدة أعوام أثمرت بعض مساعيهم، فجاءت الكهرباء وكذلك دخل المدينة أتوبيس واحد، خرج الناس فرحين مهللين في استقباله. ثم جاءت المياه. إلا أنهم ظلوا يلبسون أبهى ثيابهم وتتحلى نساؤهم وتتعطر للغراب. كانوا يجلسون عنده أو يلتفون حوله وكأنه مقام لشيخ جليل، أو مزار مقدس وربما عدوه المتنزه الوحيد في المدينة.

كانوا يبتسمون، يتحدثون ، يتعارفون.. وما زالت الأسماء والوجوه والثياب لا تعني شيئا.

 

نعمات البحيري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات