شخصية اللوحة عند (كميل حوا) سيرة وشكلاً اقتناص اللحظة الهاربة

شخصية اللوحة عند (كميل حوا) سيرة وشكلاً اقتناص اللحظة الهاربة

تعود أولى لوحات الفنان اللبناني كميل حوا إلى العام 1975. ومنذ إلقاء النظرة الأولى على مجمل أعماله, وحتى الانتهاء من آخر نظرة مدققة, يتأكد المشاهد من أمرين: الأول, وهو أن هناك مغامرة بدأت مع كل لوحة وانتهت بانتهائها, وأن اللوحة الثانية لم تولد منها, ولكن مثلها, من نقطة مركزية ومشتركة ألا وهي شخصية الفنان.

والثاني, وهو أن كل هذه اللوحات تشترك في سمة رئيسية واحدة, وهي الجمع ما بين الهاجس الشكلي, وحضور الموضوع المستمد من واقع الحياة اليومية فقط, والمقروء بسهولة ووضوح شديدين. وأبرز مواضيع اللوحات عند حوا هي صور الشخصيات التي يتألف منها محيطه العائلي والثقافي, الزهور, المشاهد المنزلية, مع تركيز مميز على دور المرأة التي نراها في لوحاته على كل حالاتها: خلال الحمل, في المخاض, في ثوب الحداد, في السيارة, وفي غالبية الأحيان... جالسة فقط.

قلنا 1975.. وهو التاريخ نفسه الذي شهد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان, فحتى آنذاك, كانت أعمال الرسام تقتصر على رسوم متفرقة بالقلم الفحمي وبضع لوحات تزيينية. ولكن مع تفجّر العنف في بيروت, واستهدافه المدنيين بأكثر الأشكال مأساوية, وكمن بات يعيش في قلق من احتمال خسارة بعض معارفه أو أصدقائه, راح كميل حوا يرسم صوراً شخصية لأناس يعرفهم ويخشى رحيلهم, وكأنه يريد بذلك إبقاءهم إلى جواره.

وتراوحت هذه الشخصيات ما بين أفراد العائلة وصحفيين وكتّاب وفنانين ومثقفين من محيط الجامعة الأمريكية حيث كان يعيش الرسام.

ولأن الرحيل قد يكون مفاجئاً, تميّزت هذه المجموعة من البورتريهات بحد عال من التوتر, وانعكس هذا التوتر في انسياب الخطوط المنحنية التي ميّزت كل الرسوم واللوحات. لا بل نرى أن الفنان كان يسعى في رسومه التحضيرية إلى رسم أكبر قدر من الموضوع من خلال خط واحد. كما انعكس التوتر نفسه في شيء من السرعة أيضاً في إنجاز البورتريهات الزيتية, حيث كان يكتفي الرسام من ملامح الشخصية التي يرسمها بالضروري للتعريف أو (التذكير) بها. مثل لوحة (المترجم) أو (الأرمنية) أو (مدبرة المنزل) أو حتى (صورته الذاتية).

أما ما كان يحيط بهذه النماذج من أثاث ونوافذ وأبواب وأشياء أخرى, فإنه وإن بدا في لوحاته الأولى مرسوماً بشكل مقروء, كما هو الحال في لوحة (مدبرة المنزل), فإنه تحوّل وربما في العام نفسه, إلى مجرد مساحات لونية مجرّدة وهندسية, وهذا هو الأساس الذي قامت عليه شخصية اللوحة عند كميل حوا, ولاتزال عليه بعد ربع قرن موضوعا مرسوما ومقروءا بوضوح على خلفية هندسية أو لونية تجريدية.

المسيرة

انطلاقاً من تلك المرحلة, راحت أعمال الفنان تتطور ببطء يصعب رصده ما بين اللوحة والتالية, ولكن يسهل اكتشافه من خلال مقارنة لوحة مع أخرى سبقتها بثلاث سنوات أو أربع. إذ راح يولي المعالجة الشكلية اهتماماً متزايداً, ليس على حساب الموضوع, بل على حساب القلق الداخلي القديم.

ففي كثير من الأحيان, نرى أن النموذج يتحول عنده إلى حجة تسمح له ببسط الشكل الجمالي على اللوحة. مثل (ذات الثوب الأحمر) التي تمثل الرسامة سيتا مانوكيان, والتي أكثر ما يستوقفنا فيها هو شكل الثوب وطغيانه ولونه, إضافة إلى حركة اليد الملتفة حول الرأس. الأمر نفسه ينطبق على اللوحة التي تمثل الكاتبة الصحفية ليلى الحر, والتي تستمد قوتها التأثيرية من لعبة التناقض ما بين الثوب الكبير وسواده من جهة, ونضارة الوجه وباقة الزهور المجاورة من جهة أخرى, إضافة إلى وضع اليد بقوة على الطاولة, وهو ما حدد اسم اللوحة (صاحبة رأي).
ومنذ بداياته, عالج الرسام موضوعات جمالية أخرى مثل زهور في فازة, أو مشاهد منزلية داخلية جذبته إليها لعبة الأشكال والضوء والأحجام وما شابه, مع ميل خاص إلى مزهرية نحاسية حملها أهله معهم من فلسطين, وظهرت عنده في عشرات الرسوم واللوحات المائية, إضافة إلى عدد من الزيتيات.

أثر فن الغرافيك

في العام 1982, انتقل كميل حوا إلى المملكة العربية السعودية ليؤسس في مدينة جدة محترفاً للتصميم الطباعي. الأمر الذي يكشف أن اهتمامه بالشكل كان قد وصل إلى حدوده القصوى آنذاك, وهذا ما كان يفترض نظرياً أن يعرض لوحاته إلى تغيير جذري في مسارها, وأبرز هذه المتغيرات هو الانتقال إلى التجريد الذي يعتمد المساحات اللونية والخطوط كوسيلة تعبير على حساب الرسم والموضوع.

لا شيء من هذا القبيل قد حصل, ولكن الخبرات التي اكتسبها الرسام من خلال عمله في فن التصميم الطباعي, والتي بقيت منحصرة في تطوير المعالجة الشكلية للموضوع, دفعت هذه المعالجة إلى ذروة نضجها من حيث توازن الخطوط والألوان, وربما ساهمت أيضاً في اختيار بعض المواضيع.

فعلى سبيل المثال, نجد أن منظر الكراسي الحمر في أحد مطاعم القاهرة يسحر الفنان سنة 1989, فيرسمها في أكثر من لوحة واحدة, وحيث لا نكاد نرى سوى خطوط حمراء تتراوح عمودياً وأفقياً ما بين الاستقامة والتعرج على خلفية زاهية.

وبعد ذلك بعشر سنوات تماماً, نرى المزاج والاهتمام أنفسهما, وربما بنضج فني أكبر في لوحة (زاوية من محترفي), حيث استوقف الرسام الحوار ما بين الشكل الباروكي للمقعد والهندسي للطاولة وما عليها. أما اللوحات المعلقة على الجدران في خلفية اللوحة, فقد تحوّلت كما في كل لوحاته تقريباً إلى مربعات ومستطيلات زاهية الألوان.

والواقع أن هذه الألوان الزاهية في خلفية اللوحة تكاد تكون توقيعاً ثابتاً للرسام, فهي قد تكون عاملاً مساعداً على إبراز الخطوط والمساحات الداكنة في الموضوع الرئيسي المرسوم في المقدمة. ولكنها على الأرجح وليدة البيئة المضيئة جداً التي يعيش فيها الرسام ما بين بيروت وجدة.

(الاستثناء شبه الوحيد في هذا المجال كان في لوحة (منتظرة في محطة فرانكفورت) التي رسمها في ألمانيا, وحيث خلفية اللوحة داكنة بشكل لافت. أليس في هذا ما يدعم فرضيتنا?).

حتى في مجال رسم الزهور, نرى أن بساطة المزهريات ومحتوياتها بقيت على حالها القديمة, ولكن التركيبات الشكلية في اللوحة بلغت ذروة التعقيد والتأليف. فصـار محيط المزهرية والزهور جزءاً مكمّلاً وأساسيـــاً فــي اللوحة. سواء أكان هذا المحيط خطوط كرسي وطاولة, أو تضــييـع معالم هذا المحيط لتصبح مزيجاً معقداً من المساحات اللونية.

مادة اللوحة

أن نكون قد تحدثنا فيما سبق عن التوتر والسرعة النسبية اللذين ميّزا الأعمال الأولى لكميل حوا, فإن هذا لا يعني مطلقاً غزارة في الانتاج. وللدلالة على ذلك, نشير إلى أنه احتاج إلى ثلاث سنوات كي يرسم ما يكفي لإقامة معرضه الفردي الأول سنة 1978. إذن, هناك مواضيع محددة تستوقف الرسام وتصلح في أوقات محددة لأن تكون مادة للوحة. فعلى أي أساس يتم ذلك?

الجواب هو: اقتناص اللحظة الهاربة.

فمن شبه المؤكد أنه كلما كان الموضوع الذي يستوقف الفنان معرضاً للاختفاء أو التبدل بسرعة, كبر تعلقه به. وهذا ما يفسر الإبداع الظاهر في لوحة (بانتظار الأطفال) التي نرى فيها ثلاث أمهات سعوديات ينتظرن أمام مدينـة الأطفال. فقد نجح الفنان من خلال هذه اللوحة في تحقيق التوازن الدقيق حتى حدود الخطورة ما بين الموضوع الإنساني الواضح, والجانب الجمالي الشكلي, ليس من خلال التناقض اللوني ما بين سواد العبـاءات التقليدية الثلاث وخلفية تجريدية استـــمدت ألوانها مما نراه عادة في حدائق الأطفال. بل أيضاً مـــن خلال الإيقاع الذي رسم به حركات الأيدي والتفاتات الوجوه. الأمر نفســه ينطـــبق على لوحة (منتظرة في محطة فرانكفورت) والتــي نرى فيها سـيدة جالسة ذات شعر قصير وأشقر, ترتدي قميصاً أبيض يمثل نصف مساحة اللوحة, ويقطعه حبـل حقيبة اليد.

في بعض الأحيان تكون هذه اللحظة الهاربة ذات بعد إنساني عميق من داخل حياة الفنان الشخصية, مثل زوجته خلال حملها أو خلال عملها المنزلي, أو أولاده وهم يلهون أو يتخذون في جلوسهم أشكالاً لافتة, وفي خضم مأساة المّت بذويه سنة 1985, جلس ليرسم والدته بملابس الحداد, فكانت النتيجة لوحة بالأسود والأبيض لا لون فيها سوى طرف الكرسي الأصفر, وتستمد قوتها التأثيرية من قسوة التعابير على وجه امرأة فقدت زوجها وابنها في أيام قليلة.

ولكن, وفي معظم الأحيان, نرى أن اللحظة الهاربة تكون في المرأة الجالسة - على سبيل المثال - من خلال حركات اليدين وتقاطع الخطوط والمساحات كما تحددها تسريحة الشعر, أو لون الثوب, وتداخل كل هذه العناصر مع محيطها من مقعد أو طاولة أو جدران. والواقع أن كميل حوا رسم عدداً من النساء الجالسات كان يكفي لإقامة معرض خاص بهذا الموضوع سنة 1993 في قاعة أخناتون في القاهرة.

اللافت للنظر في مجمل لوحات كميل حوا هو السكون والهدوء الذي يميّز روحها. حتى أن كلمة الانتظار تدخل في عنوان العديد من لوحاته. وهذا الانتظار يعكس على الأرجح انتظار الإنسان الفلسطيني, وحوا هو من أصل فلسطيني.

الأمر يكاد يكون محيّراً, خاصة بالنسبة لرسّام وُلد فنه في رحم الحرب الأهلية الصاخبة والعنيفة, ولكن تاريخ الفن يؤكد لنا أن اللوحة تتجاوز التعبير عن تجارب الفنان لتضم أيضاً تطلعاته وأمانيه, وتكشف حاجاته وتعوّض عن ضعفه الإنساني أمام ما يتحدّاه.

ففي هذا السكون والصمت ما يعكس سكون الإنسان العربي واللبناني خصوصاً تجاه أوضاع متحركة بعنف, ويقر في أعماقه بعدم القدرة على التدخل في مسارها, والأمر بحد ذاته موقف واضح منها.

خلال أحد معارضه في بيروت, قال أحد النقاد المعروفين إن بإمكان حوا أن يسلك الطريق الشكلي الذي يريده سواء كان ذلك صوب التجريد, أو صوب الانطباعية, أو التشخيصية الجديدة. ولكن العناصر التي استند إليها الناقد كانت دائماً موجودة عند الرسام, ومازالت هي نفسها على مدى ربع قرن, الأمر الذي يؤكد رسوخ هذا النهج في نفس الفنان, و (أصلية) أعماله إذا جاز التعبير, بمعنى أن للوحة عنده هوية واضحة ودوراً أكثر أهمية من إخضاعه للهو التجريبي ما بين هذا المذهب أو ذاك.

فمن أبسط الرسوم بقلم الرصاص, الى أكبر لوحاته الزيتية, يقوم الخطاب الفني عند كميل حوا على أساس واحد: ردم الهوّة ما بين الواقع والأمنية. فالناس والأشياء - كما تبدو في اللوحات - هي غير مخـــيّبة للآمال على عكس الواقع الذي أنجبها. إنها ابنة هذا الواقع ولكنها أفضل منه. فهي ذات قيم إنسانية وجمالية تؤكد أن الهوّة التي تفصلنا عمّا يتحدانا هي أصغر مما نتوهم.

 

عبود عطية

 
 




(صورة ذاتية) 1975





(في انتظار الأطفال) (جدة)





(زهور)





(منتظرة في محطة فرانكفورت)





(ذات الثوب الأحمر) 1975





(امرأة جالسة) 2000





(زاوية من محترفي) 1999





(مدبرة المنزل) 1975