حبة حلب أحمد تايح

حبة حلب

إن حبة حلب ترتبط بالمدينة التي نسبت لها، ودراسة تاريخ حبة حلب في تلك المدينة تثري بالكثير من المعلومات لأن حلب أقرب مدينة في الشرق العربي للغرب، وكانت فيما مضى مركزا تجاريا مهما يربط الشرق بالغرب. لذلك لم يكن وجود المرض ليغيب عن أنظار الغربيين الذين نقلوا ودونوا كل ما عرفوه عنه من أهالي حلب. كما أن بعض المؤرخين العرب ساهموا مع الأوربيين بتدوين ما عرفوه عن هذا المرض، ولا يعرف بالتحديد متى انتشر المرض في مدينة حلب ، ولكن ورد ذكره لأول مرة عند ألكسندر راسل Alexander Russell ، وهو طبيب بريطاني عمل في حلب حوالي ربع قرن ( 1742 - 1768 م ) لصالح الجالية البريطانية التجارية. وكان الفضل لراسل في عكس وجهات نظر أهالي حلب عن ذلك المرض في كتابه الشهير " التاريخ الطبيعي لحلب ". وقد ذكر أن أهالي حلب، مثلهم مثل الأوروبيين والأجانب الآخرين الذين استقروا في تلك المدينة، معرضون لنوع معين من طفح، والذي سمي بما يعتقد أن يكون فترة دوامه، " حبة السنة "، ولكن لها أيضا أسماء متعددة ويسميها الأوروبيون، " شيطان حلب "، ولكنها منتشرة بذات الدرجة تقريبا في عنتاب وفي القرى المتمركزة على ضفاف نهري السيجور وقويق.

وذكر أنه لا يوجد أي عضو من الجسم مستثنى من هذه الحبة، وعادة ما تصيب الأطفال من الأهالي وخاصة في الوجه. وتصيب الغرباء مباشرة بعد وصولهم للبلدة أو بعد عدة أشهر من وصولهم أو قد تصيبهم بعد عودتهم إلى بلدانهم. ونادرا ما يصاب الشخص بحبة واحدة فقط بل عادة ما يصاب بأكثر من حبة. ويصاب الشخص مرة واحدة فقط في حياته. وقد لاحظ راسل أن الكلاب والقطط معرضة لهذا المرض مثلها مثل الجنس البشري. وقد اعترف راسل أن أهالي حلب على دراية كبيرة بتلك الحبة إلى درجة أنهم يفرقون بين جنسين رئيسيين من الحبات، الذكر والأنثى، وهنالك نوع ثالث يختلف قليلا عن النوعين. وقد فصل راسل صفات كل من تلك الأنواع، كما سمعها من أهالي حلب.

وقد ذكر المرض الكثير من الرحالة الأجانب الذين مروا بحلب، مثل بوكوك Pocock عام1765م، وفولنيVolneyخلال الأعوام 1783 - 1785،وبوكنجهامBuckingham عام 1827م. ولكنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا كثيرا إلى وصف الطبيب راسل. وقد حددوا بعض المواقع التي زاروها والتي انتشر فيها المرض مثل أورفة، ماردين، وديار بكر القريبة من حلب. وقد يكون فولني أول من ذكر أنها منتشرة في بعض المناطق القريبة من دمشق. ويربط كامل البالي الحلبي الشهير بالغزي في كتابه " نهر الذهب في أخبار حلب "، بين حبة حلب والبلاد التي تشرب من نهري دجلة والفرات، وكذلك يذكر تفشي المرض في بعض قرى كسروان في لبنان. وبرغم أن الغزي لم يكن طبيبا فإنه ينفرد عن راسل بأنه من أهالي حلب وملاحظاته استمدت من عينة كبيرة من السكان، فهو يكشف عن بعض الصفات الوبائية المهمة للمرض بأن الحبة "غير مورثة أو معدية بالملامسة " إذ إنها قد تعتري الوالدين دون أولادهما وبالعكس. وإذا انتقل الوالدان إلى بلد غير معرض لهذه الحبة فإنها لا تعتري نسلهما في ذلك البلد ولو كانت قد اعترتهما من قبل. وقد لاحظ أنها تنتشر بين الأقوياء والضعفاء، والمترفين والفقراء، والذكور والإناث على حد سواء. وفي الغالب قد تكون مفردة وقد تتعدد في جهات مختلفة من البدن، يتوالى خروجها فلا يكون ما بين خروج الأولى وما يليها إلا مدة وجيزة، وقد تبرأ الأخيرة مع الأولى.

ومن الطريف أن الغزي يشير إلى أن هذه الحبة ظهرت ببعض من رافقوا غليوم، إمبراطور ألمانيا، في سياحته إلى فلسطين، وبعد أن شاهدهم البروفيسورلابسار، أستاذ الأمراض الجلدية في دار الفنون الطبية في برلين قال: " حبة حلب ليست من الأمراض التي تستحق الاهتمام، وهي تظهر في سكان المناطق الحارة ولاسيما سكان شواطئ الفرات ودجلة والعاصي. وشوهدت أيضا في سكان بيسقرا في منتهى جنوب الجزائر وتسمى هناك حبة بيسقرا. وتظهر في سكان السند وتسمى حبة دلهي ". ربما تكون هذه أول إشارة لانتشار هذا المرض في فلسطين.

وقد أعطى الغزي صورة عن الأوضاع البيئية السائدة بحلب في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي. وذكر أن المجاري بحلب ظلت مكشوفة وتنبعث منها روائح كريهة وتشوه مناظر الشوارع ولم يبدأ بتغطيتها حتى عام 1891م. كما بوشر بتغطية مجاري المياه القذرة في الخندق الكبير ( وهو الآن شارع رئيسي بحلب )، وتحول إلى جادة عامة بعد أن قطعت منه الأشجار ومهد بالتراب. وفي عام 1918م اشتكى الناس من قلة الماء. وكان الأطباء قد أكدوا بأن ماء القناة والنهر يحمل أنواعا من جراثيم الأمراض القتالة، فجرت مياه عين التل إلى حلب. ولكن لم يستفد منها سوى قلة من الناس بسبب شحتها. وفي مثل تلك الأوضاع البيئية المتردية، لا نستغرب انتشار حبة حلب على نطاق واسع، ولكن تلك الخطوات الأخيرة تدل على بدء التحسن التدريجي للنظام الصحي والبيئي لمدينة حلب، التي كانت تنفرد هي وقليل من المدن الأخرى كدمشق، وبغداد والقاهرة، بكونها مركزا حضاريا كثيف السكان ويحتاج إلى خدمات بيئية وصحية متطورة لمنع انتشار الأمراض.

ولكن ذلك التحسن لم يكن كافيا للقضاء على المرض. فقد كتب الكثيرون من الأطباء العرب والأجانب، عن الحالات التي كانوا يعالجونها في مدينة حلب بداية هذا القرن. ولكن الدراسة البيئية الجديرة بالاهتمام هنا، هي تلك التي قام بها عام 1935 الدكتوران روبيرت جيبجيان، وخاله الدكتور هوفنانيان، وهما من أهالي حلب، حين لاحظا وجود وباء عند المرضى الذين يزورون المستوصف الذي يعملان به، وكان هؤلاء المرضى قد انتقلوا حديثا من المخيمات الأرمنية في حي السليمانية " شمال شرق المدينة القديمة " إلى بستان الباشا، خارج حدود المدينة، وتميز المرض بظهور عشرات من حبات حلب على الأقسام الظاهرة من الجسم. وقد عكفا على دراسة التأثيرات البيئية لانتشار المرض. واستنتجا أن انتقال السكان الأرمن، غير المعرضين للمرض مسبقا، قد جعلهم أرضية جديدة وتربة خصبة لانتشار هذا المرض. وفي ذلك الوسط الحديث نسبيا وغير المهيأ بيئيا للسكن، كانت ذبابات الرمل، حاملة الطفيلي منتشرة بكثرة في المنطقة. وقد ربطا بين الزمن الذي يكثر فيه ذباب الرمل في الصيف وفترة انتشار المرض التي تبدأ في أكتوبر وتصل ذروتها في نوفمبر وديسمبر، وكان ذلك عاملا حاسما في تحديد فترة الحضانة لهذا المرض.

الاعتقادات الشعبية

برغم أن بعض أهالي حلب كانوا يعتقدون أن الحبة سببها قرصة الحشرات - كما أشار إلى ذلك بدج Budge عام 1920وغيره - فإن الرأي الشائع كما يذكر فولني، وراسل، والغزي أن الوباء سببه نوعية الماء التي يشربه أهل حلب. ولذلك تحاشى بعض الغرباء تناول ماء نهر حلب وقناتها واستعاضوا عنها بماء العين البيضاء وعين التل ( وهما منطقتان بعيدتان عن مركز المدينة القديمة ، وكانتا في القرن الماضي خارج حدود المدينة ). ولا يزال هذا الاعتقاد شائعا بين بعض الأوساط الشعبية وخاصة كبار السن منهم، ويبدو أن سبب هذا الاعتقاد يعود لرداءة مياه الشرب القديمة التي كانت تأخذ من قناة حيلان ( قرية شرق حلب ) ومن ماء نهر قويق الذي يخترق المدينة ( وقد جف الآن بعد أن حولت تركيا مصادر مياهه ). وقد يربط عامة الناس، عند تفسير أسباب أمراضهم، بين استمرار بعض الأمراض والأوضاع البيئية السيئة التي ترافقها، بقصد تغيير مثل تلك الأوضاع. وإذا كانت مياه الشرب ، حين ذاك، ليست السبب المباشر لظهور حالات حبة حلب، فلا شك أن طريقة تخزينها وتوزيعها ونقلها، ومن ثم التخلص منها، ساعدت على تكاثر ذباب الرمل وبالتالي خلقت الخلفية الملائمة لانتشار المرض. وهذا يدل على أن تفكير العامة لم يكن ساذجا، ولكن كان له علاقة وثيقة وإن تكن غير مباشرة بالمرض. وذلك يتطلب تحليل رأي العامة بشكل متعمق للوصول إلى العلاقة المبطنة.

الوقاية أم العلاج؟

حاول كثير من أهالي حلب ومن قطنوا بها قديما وحديثا إيجاد علاج محلي ولكن دون جدوى. فهم يستخدمون كل أنواع السوائل والمساحيق لهذه الغاية. حتى أن أحد قناصل فرنسا في حلب كان يستخدم لها دواء يشبه الحبر، وسموه في حلب دواء القنصل. ولكن كثرة الأدوية لمعالجة مرض واحد تعتبر دليلا على عدم فعالية أي منها. أما راسل وفولني فاعتقدا أنه من الأفضل أن تظل بلا علاج، وربما كان هذا هو الاعتقاد الشائع بين السكان. وحديثا كانت هنالك محاولات في حلب لتطبيق بعض المراهم مثل عسل الملكة، أو إزالة الحبة بالقشط (Curettage )، ولكن هذه المحاولات أعطت نتائج عكسية وربما أطالت معاناة المرضى وزادت تشوهاتهم، وتعتبر مركبات الأنتموان الحديثة فعالة في كثير من الحالات.

ومن القصص الطريفة ذات المغزى العميق تلك التي ذكرها الدكتور راسل أن جارية جميلة لوالي حلب أصيبت بحبة في وجهها مما دعاه لاستدعاء أطباء الجاليات الغربية لعلاجها. ومنهم الدكتور راسل. وقد حاولوا علاجها بالعقاقير الحارقة مما وسع رقعة التشوه في وجهها وزاد من معاناة المريضة. عندما شاهدتها امرأة من أهالي حلب وبخت الأطباء وطلبت من الوالي سجنهم وتعذيبهم لأن تلك الفتاة مصابة بحبة حلب التي تزول خلال سنة من تلقاء نفسها. وهذا يعطي فكرة عن جهل الغربيين بهذا المرض والمعرفة المتوارثة والمكتسبة لأهالي حلب العاديين بطبيعته. كما يدل على خطورة وعدم أخلاقية تطبيق علاجات على الإنسان دون أخذ فكرة مستفيضة عن المرض.

ويجمع راسل والغزي على أن بعض أطباء حلب عول على عملية التلقيح لهذه البثرة، كالجدري، ومارس هذه العملية مدة فأظهرت بعض النجاح في بعض الأطفال. وحديثا استطاع الدكتور بربريان أن يعطي لعملية التلقيح بعدا علميا في عام 1935عندما حضر لقاحا حيا من اللايشمانيا بعد عزل الجراثيم المرافقة الغريبة الكائنة في القيح بنظام ( باستور ) وكانت هذه العملية جديدة في هذا المجال. واستخدم هذا اللقاح الدكتوران جيبجيان وهوفنانيان لتطعيم طلاب عشرات المدارس. وأعطى اللقاح في الفخذ ليبقى مستورا. بعد أشهر ظهرت حبة صغيرة في مكان الطعم تقي الجسم بصورة دائمة. وبعد سنتين تبين فاعلية اللقاح على الأكثرية المطلقة من الملقحين، باستثناء عدد ضئيل جدا.

وتوالت في مطلع هذا القرن الاكتشافات الخاصة بهذا المرض ولم يكن للعرب أي باع في المساهمة بذلك المضمار. كان كانينجهام Cuningham أول من رأى الطفيلي في لطاخة من حبة حلب عام 1885م . وفي روسيا، كان بوروفسكي Borovsky قد أعطى تفاصيل كاملة للطبيعة السريرية للايشمانيا المدارية ( طفيلي حبة حلب ) ووصف الطفيلي بشكل مفصل في عام 1898. ولكن مع الأسف لم يقع تقريره في أيدي الأكاديميين الغربيين إلا متأخرا وعزي الفضل لرايت Wright باكتشاف الطفيلي بعد ذلك بخمس سنوات. وفي نهاية المطاف في عام1941عندما أثبت أدلر Adler وبرBer أن ذبابة الرمل هي المضيف الوسيط، اكتملت بذلك حلقة المرض.

السيطرة على المرض

إن تبني استراتيجية فعالة معتمدة على نتائج البحث العلمي للسيطرة على المرض يعتبر حجر الزاوية للنجاح، فالمرض أكثر تعقيدا من الصورة المبسطة التي قد يظهر بها.ولكن لا شك أن خلق بيئة نظيفة، كتأمين المجاري النظامية، واتباع طرق فعالة لإزالة القمامة ومخلفات الأبنية من الشوارع يقلل كثيرا من كثافة ذباب الرمل وبالتالي من انتشار المرض. كما أن نشر الوعي الصحي بين المواطنين له التأثير الكبير في وقايتهم. ولا شك أن هنالك جهودا تبذل على مستوى عالمي لإيجاد لقاح فعال للسيطرة على المرض. والأمل أن يعطي اللقاح الإيراني المطور حديثا فعالية جيدة.

ولكن في الوقت الراهن تعتبر الوقاية المنزلية والشخصية بسيطة، وهي منع المضيف الوسيط، ذبابة الرمل، من نقل المرض. ويكون ذلك باستخدام المبيدات أو طاردات الحشرات الليلية المتعددة الأنواع. واستخدام الناموسيات التي تركب على الأسرة لتمنع ذباب الرمل من نشر المرض، وخاصة المغطسة بالمبيدات، تعتبر طريقة فعالة ورخيصة التكاليف في المناطق الريفية ومناطق السكن العشوائي على أطراف المدن

 

أحمد تايح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




تقرحات لحبة حلب كما تظهر مشوهة الجزء السفلي لوجه فتاة





عدم وجود مجار نظامية يساعد في انتشار المرض