إيتيل عدنان قرينة النور والماء

إيتيل عدنان قرينة النور والماء

«اقترنتُ بالنور، وأنجبت الأجنة
أنا نهر يا حبيبي
ولا تستطيع إلا أن تبكي على شاطئيّ».
------------
(من ديوان ما يخص أزهار الربيع وتجليات الرحلة (بالإنجليزية) لإيتيل عدنان)

قليل من قرّاء العربية يعرفون إيتيل عدنان، وأقل منهم من اطلع على شعرها ونثرها المكتوب بالإنجليزية والفرنسية. ولا أعرف كم منهم تسنى له الاطلاع على المترجم من أعمالها إلى العربية وهو ليس بالقليل، فأدبها لم ينل الرواج الذي يستحقه في حياتنا الثقافية.

شاعرة وروائية ورسامة، إيتيل عدنان مزيج من أعراق ومعارف، ينبوع عطاء ثري، ومسيرة ثقافية تمتد على مدى حقب بين بيروت وباريس وكاليفورنيا. إنها نبع بلاد الشام ونتاج ثقافات العالم، كتاباتها ذات نسيج فريد ونادر في أدبنا العربي. أقول أدبنا العربي على الرغم من أن إيتيل تكتب بالإنجليزية والفرنسية، ذلك لأن جوهر هذا الأدب محض عربي شرقي.

ولدت إيتيل في بيروت (1925م) لأب مسلم سوري، كان ضابطا في الجيش العثماني، وأم يونانية مسيحية. تقول إيتيل: «ولدت في بيروت، لبنان، لأن والديّ تركا تركيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. كانت بيروت قريبة من دمشق، وطن أبي، وبعد سنوات كثيرة ولدتُ أنا في عالم يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي عرفه والداي». تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدرسة كاثوليكية فرنسية (في دير كاثوليكي) في بيروت، فأصبحت الفرنسية لغة التعبير الذي جبلت عليه ثقافتها. ومن خلال مسيرتها الدراسية تعلمت الألمانية والإنجليزية. تولى والدها تعليمها العربية، فطلب منها نسخ كتاب تعليم القواعد للأتراك، فذلك ما كان يعرفه. ولمدة طويلة واظبت إيتيل على نقل حروف وكلمات لم تدرك معناها. فقد تعلقت إيتيل بالحرف العربي وشكله، وإن لم تصل إلى حد إدراك المحتوى من أدبياته. وهو ما سيظهر تأثيره عليها لاحقا، في مقالتها الشاملة بعنوان «الكتابة بلغة أجنبية».

تتحدث إيتيل بالتفصيل عن نشأتها وحياتها وتكوينها الثقافي، وبداياتها الشعرية في ذلك الدير الكاثوليكي في مسقط رأسها، بيروت. ولصبية يافعة مثل إيتيل، كانت بيروت آنذاك مجالا للقاء وجوه جديدة والاستماع إلى لغات عديدة، كانت المدينة، كما تصفها:«عاصفة صغيرة من حرب ومتعة».

ظلّت إيتيل، بحكم نشأتها، تعتبر الفرنسية لغة خطابها وتفكيرها. وفي مطلع الخمسينيات ذهبت إيتيل إلى باريس لدراسة الفلسفة في السوربون. ثم واصلت الطريق إلى أمريكا، لتحل عام 1955م في جامعة بيركلي في كاليفورنيا. فأدركت من خلال انخراطها في دراسة الفلسفة بالإنجليزية، أن هذا الانتقال كان يعني تحولا شاملا في طبيعة التفكير والمشاعر، بل هو:«زلزال خفيف يضرب حياة الطالب». فتوقفت إيتيل عن الكتابة بعض الوقت، لأنها كانت في حالة اكتشاف متواصل.

لم يستمر بقاؤها في الجامعة أكثر من سنوات قليلة، ولم تقدّم أطروحتها، بل آثرت العمل بوظيفة في كلية صغيرة بالقرب من سان فرانسيسكو تدرّس فيها العلوم الإنسانية. وعن طريق هذا العمل الوظيفي، الذي أسست من خلاله حياة مهنية جديدة، أعادت إيتيل صلتها بكتابة الشعر. ولكن، بأي لغة ستكتب؟

الفرنسية ولغة الشعر

كانت الفرنسية لاتزال لغة الشعر لديها، لكنها اصطدمت بواقع سياسي مرير تمثل في مشكلة الجزائر وحرب تحريرها ضد الاستعمار الفرنسي. تنبهت إيتيل ورأت وحشية الاستعمار وسعيه لطمس معالم الآخر وإنكار حقوقه مما جعلها تنحاز بالضرورة. تقول إيتيل: «كنت أخوض الحرب بمشاعري». وفي جامعة بيركلي (1955م)، كاليفورنيا، ثم في هارفارد، وجدت أمامها حروبا أخرى كانت أمريكا تخوضها ضد كوريا، ثم فيتنام. وفي تلك المرحلة كان الوعي القومي العربي والدعوة لإقامة دولة عربية واحدة في ذروة عنفوانه. فأصبحت غربة إيتيل غربتين، اللغة والوطن. لقد أوجد هذا التداخل ما بين وعيها السياسي ووعيها الثقافي أزمة ظلت تلازمها على مدى سنوات العمر لتشكل عاملا حاسما سواء في توجهها الفكري أو صياغة تعبيرها اللغوي، أو اللجوء إلى وسائل تعبير فنية أخرى خارج ميدان اللغة المكتوبة. في ذلك الوقت انفتح أمامها أفق رحب آخر حين توجهت إلى الرسم، وقالت لنفسها «سأرسم بالعربية».

مع الوقت،أصبحت إيتيل أكثر تلاؤما مع اللغة الإنجليزية، بل أصبحت «تعيش فيها»، فاقتحمت فضاء الشعر الإنجليزي بقصيدة مناهضة لحرب فيتنام لتجد نفسها بعد ذلك في قلب الحركة الشعرية في أمريكا. تقول إيتيل عن تجربتها هذه: «دخلت اللغة الإنجليزية مثل مكتشف. كل كلمة كانت تولد حيّة، وكل تعبير كان إبداعا. كانت الكتابة ضربا من الرياضة، والجمل، بكل ما تحمله من طاقات مخزونة، خيلا من الممتع ركوبها لاقتحام الفضاء المفتوح أمامها».

ولم يفارق العالم العربي وجدانها قط. ففي عام 1972 قررت التخلي عن التدريس وعن العيش في أمريكا، واتجهت إلى بيروت لتقيم فيها. كانت بيروت تعيش أجمل سنواتها. وسرعان ما انجرفت إيتيل في التيار الثقافي العارم، ووجدت نفسها ثانية تمارس الفرنسية كتابة وحديثا، فقد أنيط بها رئاسة الصفحة الثقافية لصحيفة تصدر باللغة الفرنسية.

لكن الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975م فجّرت الناس والمباني معا، وفرّقت الناجين منهم. وبعد عامين من الحرب توجهت إيتيل إلى باريس، على أمل العودة إليها بعد أن تخمد نار الحرب. وهناك كتبت رائعتها، وروايتها الوحيدة «الست ماري روز»، والتي تدين بها الحرب اللبنانية، وتتحدث عن الانهيار الخلقي الذي تفرزه الحروب. كتبت الرواية باللغة الفرنسية، وصدرت في فرنسا قبل أن تترجم إلى عدد من اللغات.

الشاعرة والأديبة

في كتابات إيتيل يتداخل الشعر والنثر تداخلا حميما، وللشعر سطوته على نصوصها، يتسلل إلى مفردات النص وروحه بتلقائية وعفوية. فهي نصوص معدنها شعر ذائب في قطع نثرية مكثفة، ما إن تلامس الأعماق حتى تشيع في العقل اضطرابا غامضا، وحيوية تستثير الفكر والروح معا بحسّها الإنساني المرهف. في شعرها دعوة للمحبة، وصرخة ضد الظلم، احتضان المغْفَلين والمهمّشين الواقعين تحت سطوة الإمبراطوريات الكبرى، فلسطين والجزائر ولبنان والعراق. شعر يزخر بالأسئلة، أسئلة الوجود والعدم، الحرية والقيود، الذات والآخر. أسئلة تمتد امتداد الزمن لا أجوبة لها، مع ذلك فهي تطرح باستمرار، ومن منطلق محض إنساني تتسلل القضايا السياسية إلى لب جملها بطريقة لطيفة وحاذقة:

«قتلتُ ذبابة هذا الصباح
لو كنتُ دولةً
لكنتُ دمّرت مدينة»

ومع أن إيتيل تقيم في قلب الغرب، فإن عينها الناقدة قادرة على تعرية الظاهر والنفاذ إلى ما وراء الوجه الجميل. ذلك أن فكر إيتيل المشبع بالفلسفة جعلها مفكرة من الطراز الأول، ولأنها معنية بالشأن الإنساني، فقد استطاعت بموهبتها الفذة، أن تحوّل أفكارها إلى أدب شفاف وأخّاذ، يتداخل فيه الخاص بالعام في نسيج محكم متوازن، يضع الشرط الفني فوق كل اعتبار. تقول عن باريس: «في المقهى تجلس صديقتي كلود ومعها كتاب شعر. لا يدور بيننا أي حديث مهم سوى أن باريس جميلة. ولكن، كلمة «جميلة» تلك تتضمن قرونا من حياة وحروب، وأشياء عن العمل والإيمان والوفيات. باريس جميلة بكل تأكيد، وهي آخر مدينة عظيمة في العالم حافظت على روحها، وتعمل مثل ماكينة زُيتت بشكل جيد. باريس جميلة. إنه قول يؤلم، فذراعا المرء لا تكفيان أبدا لاحتضان اتساع كهذا. بوسع كلود أن تقول ذلك بكل براءة. ولكن قوله أشد صعوبة علي، وأشد إيلاما أيضا. إنه يمزقني إربا. فباريس قلب القوة الكولونيالية الباقية على قيد الحياة، وهذا إدراك يرافقني كل ليلة إلى سريري».

ولعل من أبرز أعمالها الشعرية السياسية مطوّلتها الموسومة: «يوم القيامة العربي»، وقد صدرت بالإنجليزية عام 1998م. أما «27 أكتوبر» فهي قصيدة مقطعية طويلة كتبتها على إثر الغزو الأمريكي للعراق 2003م. ولأنها كانت آنذاك في باريس، فقد كتبتها باللغة الفرنسية. وكلا العملين مترجمان إلى العربية:

«كنت أستطيع أن أذهب إلى المقهى المجاور
أتأمل البرد وهو ينسل في الخارج
بينما أنعم بالدفء، أو حتى بممارسة الحب..
بيد أن القنابل كانت تنهمر على بغداد».

يحتل البحر الأبيض المتوسط خاصة، في أدب إيتيل وشعرها مكانة مهمة رمزا وواقعا، وهو محور أساسي تتمركز حوله رؤية الفنانة، منه تنطلق وإليه تعود، ومنه تبحر في اللامنتهى. وليس من محض الصدفة أن نجد اقتران النور بالماء يتكرر على امتداد تجربتها الأدبية بدءا من كتاب البحر، أول ديوان لها حين كانت لاتزال في الثانية عشرة من عمرها. إذ يظل الماء عنصرا جوهريا يتغلغل في نصوصها كيفما كانت: «أعشق نافورة مديتشي، لذلك أبطئ الخطى، أتطلع إليها، ألاحق سطحها المتموج، أعوم (ذهنيا) مع أسماكها، أقترب بقدر المستطاع من جوهر ظلالها الخضر التي تجعل قلبي يخفق. بعد ذلك أطير بتمهل فوقها، مثل فراشة، أمتص برودتها حين أتحرك بمحاذاة حواجزها، ثم أصير ماء، صديقة للماء».تتكون قصائد إيتيل من مقاطع صغيرة، كما هو شأن نثرها الذي يعتمد فصولا قصيرة. إنها في واقع الأمر نصوص مفتوحة ذات خصوصية فريدة؛ مقاطع منفصلة، لكل منها استقلالها، ولكنها ترتبط بما قبلها وبعدها ارتباط الفكرة بالفكرة، والنغمة بالنغمة، والموجة بالموجة، قد يمتد إلى ما لا نهاية. لغتها رقيقة، ونبرتها خافتة، لكنها تنضح بألم يخترق الوجدان اختراق مدية حادة.

الرسّامة

كانت إيتيل تدرّس فلسفة الفن في سوسليتو (كاليفورنيا)، ثم بدأت تمارس الرسم بتصوير أشكال مجردة تعتمد التوصل إلى إيقاع منتظم لكتل لونية متضادة تستمد طبيعة أشكالها من المحيط الطبيعي. كان هذا الأسلوب معادلا للشعر، وحلا مرضيا لمعضلتها اللغوية.

ظل الشعر والرسم عالمين منفصلين لدى إيتيل عدنان لحين ما شرعت بمحاولات إدخال النصوص الشعرية العربية في تكويناتها الفنية بأسلوب معاصر مستعينة بالألوان المائية والأحبار. أقدمت إيتيل على تنفيذ مشروعها الفني عندما اكتشفت الدفاتر اليابانية المطوية، وبدأت تضمنها قصائد لشعراء عرب على غرار الكتب اليابانية القديمة المنفذة بتقنية الحفر على الخشب. وبتأثير أيضا من التجربة اليابانية، انبثق في ذهن الفنانة شيء من سنوات الطفولة، عندما كانت مجبرة على استنساخ جمل عربية لم تكن تدرك معناها. أخذت تستعيد تلك الحروف والكلمات وسحرها الغامض حين شرعت بتقديم تجربة تؤكد الصلة بين الشعر والرسم، وبين الرسم والموسيقى من خلال هذا الشكل الممتد للورق. فاتخذت من قصائد الشعراء العرب مادة لتصوير دفاترها المرسومة تكتب فيها جملا: «لم أفهم منها سوى كلمة واحدة كنت أتخذها مفتاحا. كأنني أنظر من خلال حجاب، أو أتطلع إلى منظر خارق الجمال من وراء ستارة. كأن الستارة لم تمح الصور بقدر ما منحتها درجات لونية، وجعلتها تبدو أشد غموضا مما كانت عليه». تستنسخ إيتيل قصائد الشعراء العرب بخط يدها، قاصدة من خلال هذه التجربة أن تقدم كتابا مرسوما بالخط واللون لا يتوخى تقديم صور إيضاحية للنص، وإنما يقدم صورة موازية له. وهي صورة لا تلتقط من نظرة واحدة، وإنما تتكامل في سلسلة الصفحات مثل موجات متعاقبة، ومثل نغمات موسيقية متواترة، ومثل مقاطع شعرها، وفصول نثرها المنفصلة عن بعضها والمتصلة مع بعضها في آن واحد. من خلال تجربة رسم هذه الدفاتر المطوية الشبيهة بآلة الأوكورديون، والتي كانت رائدتها في العالم العربي، عُرفت إيتيل فنانة رسامة، وتغلغلت في النسيج الثقافي العربي، فشاركت في المعارض الجماعية، إلى جانب المعارض الخاصة التي بدأت تقيمها في بعض العواصم العربية، كالرباط وبيروت والقاهرة. ولا يقتصر فن إيتيل على الرسم بالمائيات فقط، بل أبدعت أعمالا بالزيت إلى جانب أعمال السجاد والخزف.

وفي هذا أو ذاك، فإن هذه الأعمال توحي بأنها تحمل الشيء الكثير من لهو الطفولة، بل إنها تبدو أشكالا صوّرتها ريشة طفلة. لكن المتمعن في هذه الصور المعبّرة يمكن أن يرى أشياء أخرى تختبئ وراء الحس الصافي للون وتداخله العميق مع الضوء. ثمة براءة تشع من هذه الرؤى. فالإشراق الصادر من سطح هذه الألوان المشبعة بالضوء، رديف أدبها الذي يزخر بالبحث عن تخوم الضوء ومدلولاته.

لعل العربية لدى إيتيل عدنان ظلت فردوسا محرّما، وحين تُسأل اليوم عما إذا كانت تشعر بأنها منفية لعدم قدرتها على التعبير بالعربية تقول: «نعم. ولكنه نفي يمتد إلى حقب من الزمن حتى أصبح جزءا من طبيعتي». لذلك ترى أنه من غير المجدي البكاء على الظروف السياسية والاجتماعية التي وضعتها أمام هذا الاختيار. ولا مجال للنظر إلى الوراء. إنها ابنة المكان والحاضر، تكتب شعرها أينما تكون، وباللغة التي تتقنها، وعليها أن تتطلع باستمرار إلى الأمام، وهذا ما فعلته وتفعله، وهي تعيش موزعة على أمكنة ثلاثة: بيروت وباريس وكاليفورنيا.

 

مي مظفر