بين النقد والفلسفة

بين النقد والفلسفة

يواصل الكاتب رحلته في رصد التيارات النقدية والفلسفية التي كانت تتصارع على الساحة الأمريكية في الوقت الذي كان فيه ضيفًا على جامعة ماديسون، وهو يركز في هذا الجزء من رحلته على الأثر الذي خلفته الفلسفة في تيار النقد المعاصر.

كانت البداية المرهصة للخروج من أسرة الدائرة المركزية الجاذبة هي الاتجاه الأفرو أمريكي المقترن بنقض نزعة المركزية الأوربية - الأمريكية، وهو الاتجاه الذي لم يكن بعيدًا عن المسار الذي مضى في خطاب ما بعد الاستعمار الذي كان في المرحلة الأولى من تشكله، ولكن من غير أن يتم تدشينه رسميًا إلا عام 1978 مع صدور كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق». ومن ناحية موازية، كانت هناك الهرمنيوطيقا التي سمعت عنها للمرة الأولى سنة 1977، وكان كتاب ريتشارد بالمر عنها (الذي صدر عن جامعة نورث وسترن في شيكاغو سنة 1969) هو مدخلي إليها، ومن ثم دليلي إلى معرفة أهم روادها الأوائل: فردريك شلايرماخر (1768 - 1834) وقبلهم ديلتاي (1833 - 1911) وامتدادها الألماني عند كل من مارتن هايدجر (1889 - 1976) وهانز - جورج جادامر (1900 - 2002). وتجمعت إنجازات هؤلاء في مدى التراكم الذي انطلق منه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي لا أزال أحرص على كتابه «دور الاستعارة» في ترجمته الإنجليزية الصادرة سنة 1977، العام نفسه الذي وصلت فيه إلى جامعة وسكنسن - ماديسون. وكذلك كتابه «فرويد والفلسفة» التي صدرت ترجمته الإنجليزية عن جامعة ييل سنة 1970، و«نظرية التفسير: الخطاب وفائض المعنى» الذي صدرت ترجمته عن مطبعة جامعة تكساس - أوستن سنة 1976، فضلاً عن كتابه عن «رمزية الشر» الذي استعاره مني أحد طلاب الدكتوراه ولم يرجعه إلى الآن. ولم يكن كتابه الشهير عن «صراع التفسيرات» قد ترجم إلى الإنجليزية بعد، لكن أسعدني أن رأيت ترجمته العربية صادرة عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت منذ أشهر.

ويبدو أن قبول بول ريكور العمل في جامعة شيكاغو القريبة من ماديسون، ابتداء من سنة 1970 إلى 1985 هو المسئول عن صحوة فلسفة التفسير في هذه الجامعة، وذلك في موازاة جامعة «نورث وسترن»، التي كانت في المدينة نفسها. وبدا الأمر كما لو كانت كلتا الجامعتين تتنافس في مدى الإنجاز الخاص بنظرية التفسير. وقد أحزنني أنني لم أعرف هذه الحقيقة إلا بعد سنوات وسنوات. ولو كنت أعرفها لكنت زرت جامعة شيكاغو، التي قضيت في مدينتها العديد من عطلات نهاية الأسبوع. مع العصابة الشيكاغوية من تلامذتي المقرّبين. ولكني سعيت إلى زيارته والإفادة منه، بوصفه - أولاً - واحدًا من عمالقة نظرية التفسير (الهرمنيوطيقا)، وبوصفه - ثانيًا - الفيلسوف الفرنسي الذي جمع بين الوصف الظاهراتي والتفسير الهرمنيوطيقي. وكان ذلك في السياق الذي دفع به - أثناء اعتقاله في أحد المعتقلات النازية - إلى قراءة كارل يسبرز الذي ترك فيه أثرًا عميقًا، وذلك إلى جانب هوسرّل (1883 - 1953) الذي ترجم له - في المعتقل - كتابه «أفكار- 1 »، وقد حزنت كثيرًا عندما قرأت في سيرته - بعد وفاته - أنه ضاق بجامعة ناتير التي ذهب إليها هاربًا من صخب جامعة السربون الجامدة وتقاليدها، التي لم يحتملها، فإذا به يصبح هدفًا لغضب المتمردين من الطلاب في انتفاضة مايو - 1968 الشهيرة، ويُوصف - على سبيل السخرية - بأنه «مهرج عجوز» وأداة للحكومة الفرنسية، فلم يحتمل البقاء في فرنسا كلها، وقبل العمل في الجامعة الكاثوليكية في لوفان - بلجيكا، ومنها إلى جامعة شيكاغو، التي بقي فيها خمسة عشر عامًا بأكملها. عاد بعدها إلى فرنسا التي عرفت قدره، وأعادت إليه الاعتبار المقرون بالاحترام والتبجيل الذي يستحقه، وظل معززًا مكرمًا إلى أن توفي في العشرين من مايو في العام قبل الماضي (2005) عن اثنين وتسعين عامًا.

في دائرة الهرمنيوطيقا

وترجع كلمة «الهرمنيوطيقا» إلى أصل يوناني، يتراوح ما بين دوائر دلالية ثلاث: تقترن بدلالة التفسير أو الترجمة، والتوضيح والإفهام، والتعبير عن معنى نص، أو تأويله. وهو يقترن - في سياقات اشتقاقات - أصله - بالإله الوثني هيرمس الذي كان يترجم ما غمض من رسائل الآلهة الخالدين للبشر الفانين. ولذلك كان من الطبيعي أن يبدأ تاريخ المجال المعرفي للهرمنيوطيقا بتفسير النصوص الدينية وتأويلها. إلى أن اتسع المجال في القرن التاسع عشر، وتجاوز تأويل النصوص الدينية إلى غيرها من النصوص الأدبية والقانونية والفلسفية... إلخ. وتحوّلت الهرمنيوطيقا إلى فلسفة عامة للفهم الإنساني عند هايدجر الذي وصل بينها وتفسير اللغة والأفعال الإنسانية. وكان ذلك في السياق الذي سعى فيه شلايرماخر إلى توسيع حدود المجال، وتأصيل ما أسماه «الدائرة الهرمنيوطيقية»، التي تفسر الجزء بالكل، وتعيد فهم الكل في علاقته بأجزائه. وكان الدور الذي قام به بول ريكور في غاية الأهمية، خصوصًا لأن الهرمنيوطيقا التي صاغها لم تتوقف عن الحوار مع الوجودية والبنيوية. وحتى التفكيك، ولذلك ظل الفعل الهرمنيوطيقي عنده هو فعل تفسير يظل في حالة كشف مستمر، سواء من حيث تنظيره أو تطبيقه. وبقدر ما أضاف ريكور إلى المجال العام للهرمنيوطيقا، في علاقته باللغة، أغنى مدى التأويل، أو صراع التفسيرات الذي يعتمد على المنظور اللغوي لإدراك النصوص. وهو الأمر الذي ترتب عليه اهتمامه بالاستعارة، التي ترك عنها واحدًا من أهم كتبه التي ينبغي ترجمتها إلى اللغة العربية.

ولم يكن اهتمامي بالهرمنيوطيقا بعيدًا عن اهتمامي بمشكلات تفسير الأعمال الأدبية والنصوص الدينية على السواء. ولذلك حاولت فهمها، واقتناء ما وجدت من أهم كتبها، مؤجلاً القراءة الفاحصة لحين العودة إلى القاهرة، فقد ظلت الأولوية عندي هي استيعاب النقائض البنيوية المتحركة بين قطبي اليمين واليسار. ولم يفتني - في هذا المدى - الإلمام بما أتيح لي من معلومات عن مدرسة جنيف النقدية، أو ما أطلق عليه اسم «نقاد الوعي» الذين أعادوا الاعتبار إلى الذات القارئة، في منحى متأثر بفلسفة الظواهر، التي دعموا بها رفضهم المناهج الشكلية والموضوعية، وكان من نتيجة ذلك ما عرفته من معلومات يسيرة عن إنجازات جان ستاروبنسكي السويسري، وجورج بوليه، البلجيكي الأصل، وجان بيير ريشار الفرنسي، وج.ميللز ميللر الأمريكي الذي تأثر بأعمال بوليه، ولكنه انصرف عن مسار هذه المجموعة، وانحاز إلى «التفكيك» الذي وجد فيه مراحه مع انضمامه إلى مجموعة «ييل».

وقد انتهت بي معرفة مدرسة جنيف إلى الاهتمام بالدور الذي تقوم به «ذات» الناقد، أو القارئ في التفسير، ومدى الانقراء الممكن لهذه الذات الحركة في دائرته. خصوصًا أنهم كانوا نقّادًا يستجيبون إلى ما تثيره الأعمال في نفوسهم. وهو الأمر الذي تجاوب، ولايزال إلى الآن، مع الأفق الذي فتحته الهرمنيوطيقا، أقصد أفق القارئ ودوره الذي أصبح موضع بحث، بدأت أصداؤه البعيدة، الخافتة، في الوصول إلى الولايات المتحدة، وأصبحت مسموعة تدريجيًا مع الوقت، لكن بعد عودتي إلى القاهرة لم أتمكن من الإنصات المستوعب لهذه الأصوات، ولذلك لم أسمع ما يشبع نهمي المعرفي عن مدرسة كونستانس لجماليات الاستقبال، إلا بعد سنوات من العودة إلى القاهرة، ذلك على الرغم من أن بداية هذه المدرسة ترجع إلى سنة 1967، في محاضرة استهلالية ألقاها هانز روبرت ياوس، كانت منطلق المسار الصاعد الذي أدى إلى كتاب ولفجانج إيزر «فعل القراءة نظرية في جماليات الاستجابة» الذي صدر بالألمانية سنة 1976، وظهرت ترجمته الإنجليزية سنة 1978، وظل منتظرًا استيعابه وتقدير ما فيه إلى أن تحول الاهتمام من «البنية»، التي تقترن بالمقروء إلى الفاعل الذي يفتح أفق البنية المغلق، ويستجيب إلى النص المقروء بوصله بعالمه الذي يستقبله فيه، من حيث هو قارئ، وكان ذلك في مسعى غير بعيد عن فلسفة الظواهر، التي تداخلت مع تنظيرات مدرسة كونستانس، وتجاوبت، بعد ذلك، في مدى الاهتمام بالقارئ، من حيث كيفية استقباله النص.

وكان ذلك في مسار بدأ مع كتاب إي.د.هيرش «سلامة التفسير» سنة 1976، و«أغراض التفسير» سنة 1976، وذلك بعد عام واحد من ظهور كتاب جوناثان كلر «الشعرية البنيوية» الذي عالج القراءة من منظور بنيوي، أفاد فيه من عالِم اللغة نعوم تشومسكي في صياغة مفهوم «القدرة القرائية»، التي ينطوي عليها القارئ بوصفها بنية حاكمة. مستقرة على مستوى الوعي، كأنها العلة الأولى لكل القراءات المترتبة عليها، والتي هي تجليات ممكنة لعلتها (الصورية) الأولى، إذا استخدمنا لغة المناطقة.

وكان ما فعله كلر في «الشعرية البنيوية» لاحقًا على اهتمام ستانلي فيش بالموضوع في دراسته عن «الأدب والقارئ» سنة 1970، وهي الدراسة، التي نقض بها أفكار «النقد الجديد» ولم يكن جهد ديفيد بلايخ بعيدًا عن هذه الدائرة، سواء في كتابه «القراءات والمشاعر» (1975)، وكتابه الذي سمعت عنه بعد عودتي إلى القاهرة، ولم أقرأه إلى اليوم مع الأسف «النقد الذاتي (1978)، ولا يمكن إغفال نورمان هولاند في هذا السياق، وذلك في مقالاته وكتبه، التي صدرت بعد مغادرتي الولايات المتحدة. والمؤكد أن ما صدر من هذه الكتب، واستطعت الحصول عليه، والإفادة منه، وأقمت بينه حوارًا فعالاً والبنيوية، ثم التفكيك بعدها، هو الذي دفعني إلى الاهتمام بقضايا القراءة، وحال وجود القارئ الفاعل، إذا شئنا الدقة، وقد تزايد هذا الاهتمام وازداد عمقًا مع الاطلاع على الإنجازات، التي لاتزال متتابعة، سواء في جماليات الاستجابة، أو نظرية الاستقبال، وهي إنجازات فتحت لنا - نحن النقاد - من الآفاق الرحبة ما جعلنا نراجع الكثير من المفاهيم، التي ورثناها عن «النقد الجديد»، المفاهيم التي تعلمناها من البنيوية بجناحيها - الشكلي والتوليدي - خصوصًا بعد أن وضعنا مفاهيمنا الموروثة موضع المساءلة، التي قام بدور الادّعاء فيها النقد اليساري الذي مثله إدوارد سعيد من ناحية، ونظريات الخطاب التي مضى فيها ميشيل فوكو، وتبعه فيها تودورف من ناحية ثانية، وذلك في تعارض قابل بين هؤلاء ومنزع القراءة التفكيكي الذي أعلن - على لسان رولان بارت، فيما بعد - موت المؤلف، مقابل حياة القارئ الذي أصبح هو بؤرة الاهتمام ودائرة الجذب إلى اليوم.

وكان من الطبيعي - وسط هذا المناخ المليء بحيوية الصراعات والتقابلات والتوازيات بين التيارات المتعددة - أن تحدث إعادة تراتب للموروث النقدي الحديث السابق على البنيوية، وأن يعاد الاعتبار إلى مدرستين، ظلتا تعانيان طويلاً من التجاهل أو الجهل، المدرسة الأولى هي «الشكلية الروسية»، أما الثانية فهي مدرسة تارتو.

بين مدرستين

أما الشكلية الروسية فقد ازدهرت في العقد الثاني من القرن العشرين في روسيا، وآمنت بضرورة التركيز على تحليل الملامح المائزة للأدب في ذاته، وذلك على النقيض من الاتجاهات السائدة التي ظلت تفهم الأدب بواسطة غيره من مجالات المعرفة، كالتاريخ والاجتماع وعلم النفس، وكان للمدرسة مركزان، أولهما حلقة موسكو اللغوية، التي أسسها رومان ياكوبسون (1891 - 1982) ويوجاتريف وغيرهما سنة 1915. وكانت الحلقة تضم لغويين، يحاولون تطوير منهج جديد لدراسة اللغة، متأثرين بجهد دي سوسير الذي تأسست الحلقة في العام نفسه الذي نشرت فيه دروسه بعد موته، وكانوا ينظرون إلى الشعرية (أو دراسة الأدب، أو علم الأدب) بوصفها قسمًا من مجال اللغويات الأوسع، وظلوا مشغولين بقضية الفارق بين اللغة الشعرية واللغة العلمية، مقدمين الأمثلة التطبيقية من دراسة الشعر والفولكلور الروسي، وذلك في توجههم الذي يبدأ وينتهي من البحث عما أسماه ياكوبسون الأدبية. أما المركز الثاني فيتمثل في مجموعة «الأوباياز» (الأحرف الأولى من «جمعية دراسة اللغة الشعرية» بالروسية)، التي تأسست في بتروجراد، بفضل فيكتور شكلوفسكي وبوريس إيخنباوم، وغيرهما من أعلام المجموعة، التي كان أغلب أعضائها من مؤرخي الأدب الذين نظروا إليه بوصفه شكلاً فريدًا من التشكيل اللغوي، ويلزم عن ذلك ضرورة دراسته في ذاته دون تعويل مفرط على اللغويات، الأمر الذي أدى بأعضاء المجموعة إلى الاهتمام بالمبادئ العامة، التي تحكم الأدب، وتحيل المادة غير الأدبية إلى عمل فني، مقدمين النماذج التطبيقية لمفاهيمهم بدراسة كلاسيكيات الأدب الروسي والأوربي.

وبالرغم من الفارق اللافت بين المجموعتين، فقد اشتركتا في أسس منهجية عامة، أولها اتحادهما في محاولة إقامة دراسة الأدب على أساس علمي يتميز بانضباطه محددين موضوعه ومناهج دراسته وإجراءاتها على هذا الأساس. وثانيها: التحالف في تقويض النظرية الماركسية، التي تجعل من الفن انعكاسًا للواقع، وذلك عن طريق الإلحاح على الكيان الجمالي الخالص للعمل الأدبي الذي تحكمه قوانين داخلية، وكان تأسيس الدرس الأدبي على أساس علمي يعني البحث عن القوانين التي تحتويه، أو تتجسد بها أعماله (فيما يناظر ثنائية دي سوسير عن اللغة / الكلام)، ولذلك قال ياكوبسون قولته الشهيرة «إن موضوع العلم الأدبي ليس الأدب وإنما الأدبية»، ويعني ذلك أن غاية الدرس الأدبي هي اكتشاف القوانين الداخلية، التي تنطوي عليها كل الأعمال، من حيث هي تجليات لقوانين قارة، وليست محاكاة أو مرايا لأوضاع خارجية نتج عنها الأدب.

ولم يكن من الغريب أن تعيد البنيوية الاعتبار إلى الشكلية الروسية، التي جعلت منها الأم الروحية، التي حملت البذرة الأولى، التي سرعان ما تحولت إلى وليد، فرض حضوره على ما حوله باسم «البنيوية الفرنسية»، وقد نضجت البذرة في تفتحها الأول بفضل حلقة براغ اللغوية، التي نقل ياكوبسون شعلتها إلى الولايات المتحدة أولاً، ثم إلى أوربا عن طريق فرنسا بواسطة كلود ليفي شتراوس الذي تتلمذ عليه في نيويورك. وأخذ عنه «منهجيًا، مبادئ التحليل البنيوي، التي بسطها في الفصل الأول من كتابه «الأنثروبولوجيا البنيوية»، وفي مدى إعادة الاعتبار، قدّم تودوروف مختارات من كتابات الشكليين الروس، وأصدر عنهم فيكتور إرليك كتابًا لايزال مرجعًا أساسيًا. مستعرضًا تاريخهم، وأهم إنجازاتهم. وبدأت موضة ترجمة الشكليين الروس، ابتداء من بروب، فلاديمير إيكالوفتش، (1885 - 1970) صاحب «مورفولجيا الحكاية الخرافية، مرورًا بما كتبه فيكتور شكلوفسكي (1893 - 1984) عن الفن بوصفه تقنية، وما كتبه بوريس فيكتوروفنش توماشيفسكي (1880 - 1957) عن رواية شنيرن «ترسترام شاندي»، وعن «التيماتية»، وبوريس ميخائيلوفتش إيخنباوم (1886 - 1959) عن «نظرية المنهج الشكلي». وقد قرأت هذه الكتابات بترجمة وتقديم لي.ت.ليمون وماريون جيم.جريز، وذلك في السياق الاسترجاعي الذي كان يردد أسماء توماشيفسكي (1890 - 1957). ويوري تنيانوف (1894 - 1943) ويان موكاروفسكي (1891 - 1975) أبرز أعضاء حلقة براغ. وصاحب البحث الشهير عن «اللغة الشعرية واللغة المعيارية»، الذي ترجمته زميلتنا المرحومة ألفت الروبي، ونشرناه لها في أحد أعداد مجلة «فصول» في سنوات انطلاقها المؤثر. أما مدرسة تارتو فقد أسسها يوري لوتمكان (1922 - 1993) في صيف 1964 في أستونيا، بعد أن ترك موسكو، بسبب الاضطهاد الفكري. واهتمت المدرسة منذ البداية بمجال السميوطيقا، حيث برزت أسماء يوريس أوزبنسكي، ويوري لوتمان بوصفهما من الأعضاء الذين أخذوا على عاتقهم تطوير إنجازات المدرسة الشكلية الروسية وبنيوية حلقة براغ. وقد شمل الاهتمام السميوطيقي لهذه المدرسة مجالات عدة، تجمع ما بين الرياضيات، والأساطير، والنحو والصرف، والفولكلور، والاستشراق، والموسيقى، والسينما وغيرها من المجالات، التي دخلت في أفق الاهتمام الحديث بنظريات الاتصال والسيبرنطيقا والترجمة الآلية واللغويات. وكان المنطلق في موسكو سنة 1962، بعد سقوط الستار الحديدي وذوبان الجليد، حيث انعقد مؤتمر «الدراسة البنيوية لأنظمة العلامات» الذي كان بمنزلة دافع لتأسيس المدرسة، التي سرعان ما أصبحت مركز جذب للسميوطيقيين، خلال مؤتمراتها التي ظلت تنعقد كل عامين إلى أن توقفت، لكن بعد أن أصدرت عددًا كبيرًا من المطبوعات والمنشورات. وظلت اجتماعاتها الصيفية تجذب الباحثين المهتمين بالسميوطيقا (علم العلامات) من داخل الاتحاد السوفييتي وخارجه. فكان يحضرها أعلام غربيون بارزون من أمثال توماس سيبيوك وجوليا كرستيفا. وكانت مؤلفات لوتمان أبرز منشورات المدرسة. وذلك من مثل كتابه «محاضرات في الشعرية البنائية» الذي صدر سنة 1964. وظل تركيز المدرسة على تحليل الأنساق المنمذجة في الأدب والأسطورة والفولكلور وما أشبه، إلى أن اتسع اهتمامها في حقبتها الأخيرة، فشمل سميوطيقا الثقافة. محتفية بالتجريب. وكان ذلك في السنوات، التي شهدت ازدهار البنيوية في فرنسا، والعالم الذي أخذ عنها وأضاف إليها، الأمر الذي أدى إلى حوار «الشرق والغرب في مجال معرفي بالغ الحيوية والجدة، وترتب على هذا الحوار اهتمام غربي بالسميوطيقا السوفييتية، تمثل في ترجمة مختارات من أعمالها، على رأسها كتابا ميخائيل باختين (1895 - 1975) عن «تحليل النص الشعري» (الذي صدرت ترجمته الإنجليزية سنة 1976) وعن «بنية النص الفني» الذي ترجم إلى الإنجليزية سنة 1977، وقس على ذلك كتاب أوزبنسكي عن «شعرية التأليف» الصادر بالإنجليزية سنة 1972. وكتاب فيجوتسكي (سيكولوجية الفن) الذي صدرت ترجمته الإنجليزية سنة 1971.

ولم يكن من الغريب - في هذا السياق - أن تصدر مجلة التاريخ الأدبي الجديد الشهيرة عددين عن السميوطيقا السوفيتية، وأن يحرر فيكتور إرليك - صاحب الكتاب العمدة عن «الشكلية الروسية» سنة 1975 - كتابًا عن «النقد الأدبي الروسي في القرن العشرين» محتفلاً بالمشهد المعاصر. وكان إيقاع الإنجازات التي تتابعت مع جهود مدرسة تارتو موازيًا لتحول البنيوية وانتقالها من المدار الشكلي المغلق إلى الأفق المفتوح لما أصبح «اتجاهات ما بعد البنيوية». ولكن - مع الأسف، لم تتواصل جهود المدرسة، وانقطع استمرارها بسبب افتقادها الدعم الحكومي، الأمر الذي أدى إلى هجرة العديد من دارسيها إلى الغرب الرأسمالي، خصوصا بعد أن أغراهم مناخ الانفتاح الذي بدأ بعد انتهاء الحرب الباردة.

ويُحسب ميخائيل باختين على هذه المدرسة، التي أعادت إليه الاعتبار في مراحله المتأخرة، وذلك بعد رحلة طويلة من الإهمال والمرض والنفي، فضلاً عن تدهور أحواله الصحية الذي أدى إلى بتر إحدى قدميه. وقد أصبح باختين نجمًا عالميًا، في مجال التحليل الأدبي والتنظير النقدي. خصوصًا بعد اهتمام مدرسة تارتو به، وإعادة نشرها لعمله المهم «رابليه وعالمه» سنة 1965 (قبل ترجمته إلى الإنجليزية سنة 1968). واستعاض الرجل بالمكانة الصاعدة في زمن «ذوبان الجليد» عن أمراض الماضي والاضطهاد الجدانوفي الذي أدى إلى نفيه، ووضعه موضع الريبة والشك، فظهرت للعالم كتبه التأسيسية مثل «مشكلات شعرية دستويفسكي». ودخلت أفكاره الأساسية عن الحوارية والكرنفالية والبوليفينية سياق حوارات عدة في فرنسا نفسها، فأسهمت في القضاء على البنيوية التقليدية وفتح سجن البنية على فاعلية «الخطاب» الذي هو حضور ذات فاعلة في العالم، وفي مواجهته على السواء. وكان ذلك كله في سياق اكتشاف الغرب الأوربي الأمريكي لقيمة باختين وأهميته، فتسابق الباحثون على دراسة أعماله وأفكاره بما أنتج مكتبة باختينية وفيرة العدد في كتبها ودراساتها.

وكما حدث صراع مضمر بين توجهات مدرسة تارتو والنزعة الشكلية الروسية القديمة، في مدى صراع الاتجاهات،أو حواريتها - إذا استخدمنا لغة باختين - حدث الصراع نفسه ما بين توجهات البنيوية الفرنسية، التي تميزت بها فترة الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات. والتوجهات المضادة لها، فضلاً عن المتغيرات، التي فرضت على أمثال رولان بارت وتودوروف تغيير مسارهم الفكري، منهجيًا، فاتجه الأول إلى التفكيك على طريقته، واتجه الثاني إلى نظريات الخطاب التي أفضت به إلى كشف الهيمنة والتركيز على معنى التنوع الإنساني، والعلاقة بين الأنا والآخر.

وكان الكشف عن أقنعة الهيمنة دالاً في هذا السياق، خصوصًا في الدائرة، التي توسطها ميشيل فوكو الذي أنكر نسبته إلى البنيوية أكثر من مرة، وابتعد عنها، رؤية وموقفًا، ماضيًا في تحليلاته الكاشفة عن علاقات السلطة وآليات القوة واستراتيجيات القمع، وذلك في موازاة الاهتمام بتحليل الخطاب في تجلياته المتنوعة، التي تبدأ من مقولات الانضباط والعقاب، مرورًا بمتغيرات مفاهيم الجنس، في نوع من أركيولوجيا المعرفة المختلفة. وكان لابد لي أن أتفاعل مع صراعات المذاهب، وتجاوبات التيارات النقدية والفكرية، في مدى اختلافها وتباينها أو توازيها.

خلال العام الكامل الذي قضيته في رحاب جامعة وسكنسن، التي وضعتني في قلب المشهد المعقد المتنافر الذي ظل يؤرقني في محاولاتي المتتابعة، المخفقة في مرات كثيرة، لاكتشاف خارطته، التي تبين لي عن موقع كل تيار وكل مدرسة، بل كل كتاب. داخل اللوحة الفسيفسائية الهائلة للمشهد النقدي الذي ظل ذهني يسعى إلى ترتيب أجزائه، واكتشاف عناصره التكوينية، وإقامة علاقات بينها، وأحسبني لم أنجح في ذلك إلا بعد تباعدي عن الانغماس في المشهد، وتحقيق مسافة زمنية تفصل بين ذهني وتفاصيله الحميمة المتداخلة، خصوصًا أن الأشهر الاثنى عشر التي قضيتها في مدينة ماديسون لم تتح لي التمثل الكامل والاستيعاب العميق، فحملت كل ما أمكنني حمله، كي أقوم بتصنيفه واستيعاب علاقاته المتعارضة في وقت لاحق، ابتعد فيه عن تفاصيل المشهد لكي أراه بكل تضاريسه وعلاقاته. ومن المؤكد أن هذا النوع من الابتعاد هو الخطوة الأولى للفهم النقدي الذي يضع الأفكار والنظريات موضع المساءلة، ويجعل الفهم تملّكًا للمفهوم والخطوة الأولى للبعد - في هذا السياق - موازية لما أشار إليه أرسطو من ضرورة وجود مسافة تمكّننا من إدراك الموضوع الجمالي، فلا نقترب منه كل الاقتراب، بما يجعلنا نستغرق في إحدى تفصيلاته، فلا نلمح غيرها، أو نفرط في البعد عنه بما يُبهتْ الموضوع المُدرك، أو ينأى به عن مدى رؤيته في تمامه.

 

جابر عصفور