مجتمع المخاطر وإرادة التقدم

مجتمع المخاطر وإرادة التقدم د. أحمد أبو زيد

لقد جعلنا التقدم العلمي نكتشف أن العالم والحياة والكون لاتزال مليئة بالأسرار، ومفعمة بأمور مجهولة لانعرف عنها شيئا ولاندري بوجودها أصلا.

من مفارقات التقدم العلمي والتكنولوجي في العصر الحديث أننا لم نعد نعرف لماذا لا نعرف. فقد توصل العلم إلى إماطة اللثام عن غوامض كثير من المجهول وارتياد آفاق جديدة وهائلة أدت إلى الكشف عن حقائق لم تكن تخطر على البال في كثير من جوانب الحياة ومظاهر الكون الذي نعيش فيه، ولكن هذه الكشوف التي ألقت الأضواء على تلك الجوانب الغامضة التي كان الإنسان يتصور أنه عرف أسرارها وأماط اللثام عن خباياها.

وعلى الإنسان أن يتوقع حدوث مفاجآت وأحداث في المستقبل، تكون بمنزلة فتوحات جديدة لميادين وعوالم غريبة قد تقلب كل توقعات البشر ورؤاهم وتغير كثيرًا مما كان العلم والعلماء يتصورون أنه من الحقائق الثابتة، وما تغير الصورة عن وضع بلوتو بين الأجرام السماوية ببعيد، وكذلك الحال بالنسبة لكارثة ما يطلق عليه اسم «أنفلونزا الطيور»، وما تحمله من أخطار كان العالم يتصور أنه قد تجاوزها منذ زمن طويل، وذلك إذا نحينا جانبًا التغيرات المفاجئة والخطيرة التي تحدث في مناخ العالم، والتي تتعارض مع كل التقديرات السابقة وأصبحت تمثل خطرًا داهما على استمرار الحياة ذاتها على كوكب الأرض.

والتصدي لهذه الأخطار ومواجهتها أمر واجب بغير شك وإن كان ينطوي على كثير من المخاطر ويتطلب المجازفة. ولكن المفارقة هنا هي أن المخاطرة هي الطريق الوحيد لدرء الخطر، بل إنها هي الطريق الصحيح والمنطقي إلى إحراز التقدم، وأن المجتمع الذي يحرص على الابتعاد عن المجازفة وتحاشي مواجهة المخاطر- فضلا عن البحث عنها - هو مجتمع خامل يفتقر إلى روح الريادة والارتياد وطلب الرقي وإحراز التقدم. فالمخاطرة هي وسيلة العالم المعاصر إلى النجاح والتقدم والهيمنة، كما أن الاستعداد لتحمل المخاطر ومواجهتها، بل والبحث عنها والإقبال عليها على المستوى العالمي تعتبر من أهم ملامح الوضع الإنساني الآن ويبدو أنه سيكون هو الخاصية المميزة لهذا الوضع خلال القرن الواحد والعشرين، على ما يقول عالم الاجتماع الألماني أولريش بك Ulrich Beck، في محاضرة بعنوان «Living in the World Risk Society» ألقاها بمدرسة لندن للاقتصاد بتاريخ 16 / 2 / 2006 بمناسبة ذكرى عالم الاجتماع البريطاني هوبهاوس، Hobhouse. انشغال المرء بالمستقبل قد يكون مدعاة للبحث عن المخاطر، لدرجة أن هناك من العلماء الآن من يصف مجتمع الغد بأنه مجتمع المخاطر على اعتبار أن تشكيله سوف يتم من خلال المخاطر العلمية والتكنولوجية التي سوف تواجه الإنسان وتفرض عليه كثيرًا من التحديات التي يتعين عليه تذليلها.. ويبدو أن المخاطر ومواجهتها قد أصبحت أسلوبا منهجيا للتعامل مع الحياة، وأن ذلك سيكون هو النمط الغالب على النشاط البشري في المستقيل، نتيجة للتغيرات المتلاحقة التي يتعرض لها العالم في كل المجالات.

المخاطر والنمو والمستقبل

وقد ظهر مصطلح «مجتمع المخاطر» Risk Society بقوة في تسعينيات القرن الماضي بعد التعرف على أعمال أولريش بك السوسيولوجية. ومنذ عام 1992 عقد عدد كبير من المؤتمرات والندوات حول الموضوع، كما أقيمت بعض مراكز البحوث في عدد من دول العالم الغربي وأنشئت المجلات والدوريات العلمية المتخصصة مما أدى إلى سرعة انتشار المصطلح والمفهوم على نطاق واسع. وفي الفترة 3 - 5 مايو 2006 عقد «منتدى أمستردام» ندوة عالمية عن مستقبل المخاطر، اجتمع فيها عدد كبير من زعماء الفكر في العالم لمناقشة التحديات الكبرى العالمية، مع التركيز على موضوع دور المخاطر والمخاطرة في عمليات التجديد والنمو العالمى. وكان المنطلق هو أنه دون المخاطرة لن يمكن تحقيق النمو والتقدم والازدهار. وكيف أن النظرة العامة الشاملة للمخاطر تتغير الآن عما كانت عليه في الماضي غير البعيد وتكتسب أساليب جديدة للتفكير حول إمكان التحكم في المخاطر وإدارتها وتوجيهها بحيث تصبح قوة دفع نحو تحقيق النمو في المستقبل.

فالمجتمع المعاصر هو إذن في رأي الكثيرين مجتمع المخاطر، ولكنه ينظر إليها من زاويتين تبدوان متناقضتين ولكنهما متكاملتان في واقع الأمر. فهو يدرك من ناحية حجم وفداحة المخاطر التي تحيط به وتهدد وجوده، ولذا يشغله البحث عن أسبابها وكيفية التغلب عليها والقضاء على آثارها ونتائجها المدمرة، ولكنه يدرك من الناحية الأخرى أن البحث عن المخاطر والإقدام عليها في جرأة وثبات هما السبيل الوحيد في معظم الأحيان لضمان وجوده والمحافظة على كيانه. وقد تختلف المخاطر من مجتمع لآخر حسب درجة التقدم أو التخلف، ولكن معظم المخاطر الحالية -بما فيها المخاطر المحلية- تأخذ في العادة بعدا عالميا، بحيث تصل تأثيراتها إلى كل المجتمعات القائمة على كوكب الأرض، مع اختلاف في الدرجة أو التوقيت. فالأوبئة تنتشر سريعا بحيث تعم العالم بأسره في وقت قصير، والزلازل والبراكين التي تنفجر في منطقة محددة ومحدودة من العالم ينعكس تأثيرها السلبي في أبعد بقاع العالم، وهكذا مما يسبب صدمة للإنسانية ككل. والسؤال الذي يحير الكثيرين هو كيف يمكن العيش في ظل هذه المخاطر العالمية المتزايدة التي كثيرا مايصعب التنبؤ بوقوعها أو التي قد يتسبب الإنسان نفسه في حدوثها نتيجة الإهمال مثلا أو عدم الدراية. وإن كان من المحتمل مع ذلك أن تؤدي هذه المخاطر إلى قيام مجتمع جديد يكون أكثر تطورا وتلاؤما مع الظروف المستجدة.

وعلى الرغم من أن المخاطر كانت تعتبر دائما إحدى حقائق الحياة وأن المجتمع الإنساني كان خلال كل تاريخه الطويل عرضة للأخطار والكوارث والأوبئة ونكبات الطبيعة، فإن جانبا كبيرا جدا من المخاطر التي يتعرض لها العالم الآن ناشئة عن النشاط البشري، دون أن يعني ذلك اختفاء المخاطر الناجمة عن قوى وعوامل غير بشرية أي الخارجة عن إرادة البشر. وهكذا يمكن التمييز بين نوعين من المخاطر هما المخاطر (الخارجية) التي لا دخل للإنسان فيها والتي يصعب التنبؤ بحدوثها أو السيطرة عليها كالأعاصير والفيضانات والزلازل وما إليها، وهي مخاطر عرفتها الإنسانية منذ بدايتها المبكرة، والمخاطر التي يتسبب الإنسان نفسه في ظهورها والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالأوضاع السائدة في المجتمع الصناعي الحديث المتقدم علميا وتكنولوجيا، بحيث يعتبرها الكثيرون أحد الملامح الأساسية المميزة لهذا المجتمع، بل يعتبرونها معيارا للتقدم وعلامة فارقة بين الرقي والتخلف. وعلى الرغم من إدراك المجتمع الصناعي الحديث المتقدم لفداحة النتائج السلبية التي قد تنجم عن هذه المخاطر، فإنه يرتضي وجودها كأمر واقع لا مفر منه ولا محيص عنه، بل إنه يبحث عن مزيد من المخاطر التي تتمثل في البحوث العلمية والتجارب التكنولوجية التي يقوم بها لارتياد مجالات جديدة مجهولة قد تساعد نتائجها في إحراز مزيد من التقدم.

الثقافة بين الخمول والجرأة

ارتباط هذه المخاطر بالمجتمع الصناعي في كتابات عدد من المفكرين في الغرب، يعني ضمنيا أن المخاطر الناشئة عن الأنشطة البشرية أو التي هي «من صنع الإنسان» Manufactured Risks - حسب المصطلح المستخدم في هذه الكتابات - لاتوجد في المجتمعات أو الثقافات التقليدية التي لاتعرف سوى المخاطر الطبيعية أو «الخارجية» وذلك بحكم الظروف السائدة فيها، والتي تتناسب مع المرحلة التطورية التي وصلت إليها، ولذا يقابلها الإنسان باستسلام ويتقبلها في خضوع تام، لأنها من أحكام القدر. فالثقافات التقليدية لاترى في المخاطرة سبيلا لتحقيق الرقي والتقدم والنجاح، لأنها أمور متعلقة بعوامل وقوى غيبية فائقة للقوى البشرية، ولا شأن لها بإرادة الإنسان أو رغبته في الإقدام أو قدرته على تحمل المخاطر وتحدي الظروف والأوضاع المناوئة. إنها ثقافات ماضوية ترتبط بالماضي الذي يسوده السكون ويخيم عليه الجمود، ويشد الإنسان إلى الخلف ويهبط به الى أسفل، وذلك بعكس ما عليه الوضع في الثقافة الغربية الصناعية الحديثة التي تعتبر نموذجا للتفكير الجريء والفعل الرائد والنظرة المستقبلية التي تتطلب المخاطرة للوصول إلى المستقبل المنشود. فالحياة في المجتمع الصناعي التكنولوجي المتقدم تتعرض لكثير من أشكال المخاطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصعبة المتشابكة، التي يتعين تطويعها والتعامل معها بعقلانية للاستفادة منها قدر الإمكان.

وبقول آخر، الثقافات التقليدية السائدة في المجتمعات قبل الصناعية لاتعرف - في رأي الكثيرين من الكتاب الغربيين - مفهوم المخاطر، بل ولاتحتاج إليه نظرا لأنها تقنع بحياتها الراهنة التي تفتقر إلى النظرة المستقبلية ولا تعطي أهمية لاحتمالات وإمكانات التغيير من أجل مستقبل أفضل، بينما يرتبط ذلك المفهوم باحتمالات التعرض للمخاطر في المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية الموجهة توجهًا مستقبليًا والتي ترى في الغد المجهول ساحة شاسعة ينبغي ارتيادها وغزوها واستيطانها مع بذل كل الجهود الممكنة لكسر العلاقة مع الماضى. وإذا كانت المجتمعات الصناعية الحديثة تبدي الاستعداد لمواجهة المخاطر على اختلاف أنواعها، وبصرف النظر عن مدى ضراوتها، بل وقد تقدم على اتخاذ خطوات وقرارات وسياسات مليئة بالمخاطر على اعتبار أن ذلك هو طريق النجاح والتوفيق والتقدم في الحياة، فإن الشعوب التقليدية ترد التوفيق والنجاح والتقدم إلى عوامل غيبية لاتحتاج من المرء إلى أن يعرض نفسه للمخاطرة والخطر. إنه الفرق الهائل بين الماضي بكل أحماله وأثقاله، والمستقبل الذي يقوم على التحفز والانطلاق والتحرر من أعباء ذلك الماضي، الذي يدعو إلى الاسترخاء والسكون والخمول. وقد تعكس هذه الآراء نظرة عنصرية لامجال لمناقشتها هنا.

السبيل إلى المواجهة

في أبريل من عام 1999 ألقى عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدنز Anthony Giddens سلسلة المحاضرات السنوية التي تنظمها الإذاعة البريطانية لإحياء ذكرى اللورد ريث أول مدير لها والتي تعرف باسم The Reith Lectures كان موضوع المحاضرات طريفا لأنه يعالج بعض مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي بدأت تزول وتختفي وتندثر من عالمنا المعاصر الذي يولي هو نفسه الأدبار أمام التغيرات العلمية والتكنولوجية، وزحف تيارات العولمة لكي تحل محلها أوضاع جديدة لا عهد للإنسانية بها، ولذا جاءت المحاضرات الخمس تحت عنوان له دلالته وهو Runaway World. وكانت المحاضرة الثانية عن «مجتمع المخاطر»، وفيها تساءل عما إذا كانت التغيرات المناخية التي تمثل الآن خطرا يهدد الحياة والإنسان والعالم هي من صنع الإنسان أم أنها نتاج عوامل وقوى أخرى دون أن يعني ذلك تبرئة الإنسان تماما من المسئولية عن ذلك الخطر، والكوارث التي سوف تترتب عليه. وكان جيدنز يأمل من إثارة هذا التساؤل البسيط - على مايقول هو نفسه - أن يقنع السامعين بأن النظرة الأولية قد تكشف عن أن مفاهيم المخاطر والخطر والمخاطرة ليس لها علاقة عضوية وثيقة ولازمة بالعصر الذي نعيش نحن فيه دون غيره من العصور، لأنها كانت توجد في كل زمان ومكان بما في ذلك المجتمعات التقليدية، مع فارق في نوعية تلك المخاطر والأخطار والمخاطرات. ومع ذلك فإن الفكرة بدأت تسيطر على الأذهان في الغرب ابتداء من القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأن الذين صاغوها في أول الأمر هم الرحالة والمكتشفون الأوربيون، من خلال رحلاتهم الاستكشافية المليئة بالمخاطر، ولكن كان لها نتائجها المثمرة التي لم تكن لتتحقق ويفيد منها العلم والإنسانية بوجه عام لولا ذلك الإقدام على مواجهة الصعب. ومنذ ذلك الحين تقبل العقل الغربي فكرة البحث عن المخاطر وتحديها وإدارتها على أنها مفتاح التقدم والطريق لخلق عالم جديد، يرتبط بالنظرة المستقبلية لجوانب الحياة التي لاتزال مجهولة والتي يتعين ارتيادها وهتك أسرارها لتحقيق التقدم، حتى وإن لم يكن النجاح مضمونا في كثير من الأحيان. فالمخاطرة والتصدي للمخاطر عاملان أساسيان ولا غنى عنهما للارتقاء والسيطرة والتحكم في كل مناحى الحياة، وهذا هو مايميز حضارة الغرب الصناعية الحديثة عن ثقافات المجتمعات التقليدية، كما أنه هو السبيل إلى صياغة مجتمع الغد الذي هو في جوهره مجتمع مخاطر.

وقد يكون الأقرب إلى الصواب أن نقول إن لكل عصر مخاطره التي تتصل اتصالا مباشرا بالمرحلة التطورية التي وصل إليها والظروف العامة الغالبة عليها، والتي تتحكم في أنماط الحياة السائدة فيها. فمعظم مايطلق عليه اسم «المخاطر الخارجية» الناجمة عن تقلبات الطبيعة تسبب كثيرا من القلق للمجتمعات التقليدية نظرا للعجز الواضح في قدرتها على التنبؤ مسبقا بوقوعها، فضلا عن إمكان التصدي لها بنجاح لتقليل الخسائر. ولكن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي أحرزته الحضارة الحديثة ومجتمع ما بعد الصناعة وصل بالإنسان المعاصر إلى مرحلة تراجع فيها إلى حد كبير - وإن لم يختف تماما - شعوره بالقلق إزاء فداحة المخاطر التي تحملها الظواهر الكونية وتقلبات الطبيعة غير المتوقعة والفجائية، وازدادت في الوقت نفسه ثقته في إمكان مواجهة نتائجها السلبية كما ازداد إدراكه للمخاطر التي تنجم عن أنشطته وأفعاله هو نفسه وما تلحقه هذه الأنشطة والأفعال من أضرار بالطبيعة لن تلبث أن تنعكس على المجتمع والكون بأسره، كما هو واضح من حالة ارتفاع درجة الحرارة في العالم من جراء ازدياد النشاط الصناعى، وهذه المرحلة تمثل نقلة وتحولا من هيمنة المخاطر الخارجية إلى سيطرة المخاطر التي يصنعها الإنسان المعاصر بنفسه لنفسه أثناء جهوده لتحقيق التقدم، وهو نمط المخاطر التي سوف تسود في مجتمع الغد. وقد يكون في ذلك ما يوحي بأن العصر الحالي الذي نعيش فيه ليس أكثر تعرضا للخطر ولا أكثر إقبالا على المخاطر من العصور السابقة، ولكن ميزان المخاطر تحول من الخوف والارتياع من «المخاطر الخارجية» إلى مواجهة المخاطر التي نقدم نحن أنفسنا على صنعها، على الرغم من إدراكنا لما تحمله من أخطار تهدد الإنسانية ككل، ويبدو أن هذا جزء من ثمن التقدم.

إدارة المخاطر

وليس من شك في أن هناك تقدما واضحا في المجهودات التي تبذل لجعل الحياة أكثر أمنا وسلاما على الرغم من تكاثر المخاطر من كلا النوعين وضراوتها. ومن الواضح أن المخاطر التي تتهدد العالم نتيجة للتقدم التكنولوجي في مختلف مجالات النشاط البشري لن يمكن التغلب عليها إلا باللجوء إلى عمليات ووسائل تكنولوجية مضادة قد يكون لها في الوقت ذاته آثار جانبية لها مخاطرها، كما هو الشأن مثلا في مكافحة الآفات الزراعية، فالأمر يتطلب إذن التعرف مسبقا وبقدر الإمكان على النتائج المحتملة من تقبل المخاطر أو البحث عنها بحجة الكشف والارتياد والرغبة في تطويعها وتوجيهها وتسخيرها لتحقيق أهداف تصب في مصلحة المجتمع من ناحية، أو محاولة القضاء عليها أو حتى التقليل من فاعلية آثارها السلبية من الناحية الأخرى، ولن يتيسر ذلك إلا من خلال استخدام أساليب «إدارة المخاطر» Risk Management بعقلانية وبطريقة علمية مدروسة، تتوخى الإحاطة بجمبع الاحتمالات والاستفادة من كل المعلومات المتاحة والاسترشاد بها بما يكفل النجاح، مع الأخذ في الاعتبار الآثارالاجتماعية والثقافية التي قد تنجم عن هذه الإجراءات، والتي كثيرا ما يتم إغفالها على الرغم من اتصالها المباشر بالإنسان الفرد والمجتمع. فالفشل في إدارة المخاطر يلقي ظلالاً كثيفة على قدرات المسئولين والحكومات ومصداقيتها ويزيد من قلق المجتمع والمبالغة في تقدير حجم الخطر بل وكثيرا ما يؤدي إلى التردد والتخوف من تحدي المخاطر، فضلا عن البحث عنها بكل مايترتب على ذلك من تراجع المجتمع وتدهور أوضاع البحث والكشف والارتياد وتعثر مسيرة التقدم. فمجرد التردد في تنظيم المجتمع على أساس تقبل المخاطر والتصدي لها من شأنه - على ما يقول عالم الاجتماع الأمريكي فرانك فوريدي Frank Furedi - أن يرد ذلك المجتمع إلى الجمود والسقوط في مهاوي السلبية والرجعية المحافظة، وانعدام التفكير العلمي القائم على التجربة المحفوفة بالمخاطر وسيطرة الجهل والتخلف والشلل الاجتماعى، وكلها مظاهر تتعارض مع التصورات العقلانية لمجتمع الغد الذي تتحكم فيه إرادة التقدم.

 

أحمد أبو زيد