يوم تغير المناخ.. أحمد الشربيني

يوم تغير المناخ.. أحمد الشربيني

غريب أمر بني البشر. فعلماء البيئة والمناخ بح صوتهم على مدى أعوام عديدة وهم يحذرون من المخاطر التي ينطوي عليها التغير المناخي وإسراف البشر في التعامل مع مصادر الطاقة الملوثة. لكن عندما جاء اقتصادي يتمتع بسمعة دولية مرموقة وتحدث معهم باللغة التي يفهمونها جيدا، أي لغة النقود، تغير كل شيء.

فجأة أصبح تغير المناخ أولوية العالم الكبرى، مع نشر الحكومة البريطانية لتقرير مفجع أثار ضجة عالمية كبيرة بعد أن أظهر بجلاء، وبالأرقام، أن كوكب الأرض يواجه كارثة وشيكة ما لم تتخذ إجراءات ملحة لتخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

أما الأجيال القادمة فستنظر إلى هذا التقرير الكابوسي، الذي قدمه السير نيكولاس ستيرن، كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي، باعتباره نقطة التحول في مكافحة الاحترار الكوني، أو باعتباره فرصة ضائعة أخرى.

فإلى جانب تصويره لرؤية كارثية لمئات الملايين الهاربين من الفيضانات والجفاف، فإن السير ستيرن افترض أن تكلفة عدم التحرك قد تصل إلى فقدان دائم لعشرين في المائة من الناتج العالمي.

وهذه النسبة تعادل 3.68 تريليون جنيه إسترليني - بينما التحرك العاجل سيكلف العالم نحو 184 بليون جنيه إسترليني سنويا، أي ما يعادل 1 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي.

ويقول السير ستيرن عن تقريره: «إن ما نفعله خلال العقود القليلة القادمة ينطوي على خطر حدوث اضطراب كبير في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في وقت لاحق من هذا القرن والقرن القادم، على نطاق واسع يشبه ذلك الاضطراب الذي حدث في الحربين العالميتين والكساد الكبير الذي حدث في النصف الأول من القرن العشرين».

وقد قدم تقريره وصفة علاجية لتقليص هذا الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي.

وتتمثل فكرته المحورية في أن إنفاق مبالغ مالية كبيرة الآن على إجراءات تخفيض انبعاثات الكربون سيأتي بعوائده على المدى القريب، أما عدم إنفاق هذه الأموال فسيكون شيئا غير عقلاني بالمرة.

ومع ذلك، فإنه حذر من أننا في هذه اللحظة متأخرون جدا في الحيلولة دون وقوع العواقب الخطيرة لتغير المناخ.

وأكد على أن الآفاق مظلمة بالنسبة لإفريقيا والبلدان النامية، لذا يتعين على البلدان الغنية أن تقدم لها المساعدات المالية والفنية لمساعدتها على الاستعداد للآتي والتكيف معه.

قرارات صعبة

يعتقد السير نيكولاس ستيرن أننا يجب أن نثبت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي للأرض عند مستوى 500 إلى 550 جزءا من ثاني أكسيد الكربون بحلول العام 2050 عصر ما قبل الصناعة (المستوى الحالي هو 430 جزءا في المليون).

ومستوى غاز ثاني أكسيد الكربون حاليا يبلغ 380 جزءا في المليون، لكن تقرير ستيرن رفع التقدير إلى 430 بعد أن أخذ في الحسبان مستوى غازات الاحتباس الحراري الأخرى مثل الميثان.

لكن تثبيت الانبعاثات عند المستوى المنشود سيعني على الأرجح تغيرات مناخية كبيرة. فحتى من أجل تثبيت هذا المستوى، سنحتاج إلى تخفيض الانبعاثات لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنحو ثلاثة الأرباع بحلول العام 2050 وهو رقم مخيف.

وهذا ما يتطلب تخفيض استخدامنا للطاقة المنتجة للكربون بنسبة 60 إلى 70 في المائة، وإيقافا تاما لإزالة الغابات، حيث إن الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات تقدر بأكثر من 18 في المائة من الانبعاثات الكونية، وهي نسبة تزيد عن الانبعاثات الناجمة عن استخدام المواصلات.

وستكون تكلفة هذه التغييرات نحو 1% من الناتج الإجمالي العالمي بحلول العام 2050 - وبمعنى آخر سيكون العالم أفقر 1% مما سيكون عليه إذا لم يتخذ هذه الإجراءات، لكن ذلك سيكون له عواقب مدمرة.

ويجب أن نوضح هنا أن هذا لن يعني تماما أن العالم سيكون أفقر 1% مما نحن عليه الآن، لكن النمو العالمي سيكون أبطأ.

لكن ستيرن يقول إنه يجب أن ننظر إلى هذه الـ 1 % باعتبارها استثمارا، لأن ثمن عدم التحرك سيكون مدمرا إلى حد لا يتخيله عقل.

عبء غير عادل

ذهب السير نيكولاس إلى أن عدم التحرك لإيقاف التغير المناخي سيؤدي إلى تخفيض دائم في استهلاك الفرد على المستوى العالمي بنسبة 20 في المائة. وبعبارة أخرى، سيكون كل فرد على كوكب الأرض أفقر بمقدار الخمس مما لو كان عليه لو تحركنا اليوم.

والأسوأ من هذا أن الثمن لن يوزع على نحو عادل،

فالعبء الأكبر سيلقى على عاتق البلدان الأفقر.

لذا فإن ستيرن يقول إنه من الحكمة أن ننفق الآن 1% من ناتج العالم الإجمالي لكي نكون أغنى مما سنكون عليه بنحو 20% بحلول العام 2050 .

وبطريقة أخرى يطرح ستيرن فكرته حول الفوائد مقارنة بالتكاليف. وهو يقول: إذا أخذنا القيمة الحالية (القيمة بأسعار اليوم) للمكاسب خلال السنوات القادمة الناتجة عن إجراءاتنا لتثبيت انبعاثات الغازات الاحتباس الحراري بحلول العام 2050 ، ثم خصمنا التكاليف، فإننا سنربح 2.5 تريليون دولار (1.32 تريليون جنيه إسترليني).

العقبات

يقول ستيرن إن هناك عقبات كثيرة تحول دون نجاحنا في هذا المسعى. ومن أوضح المشاكل أن هذا المنهج يتطلب تحركا جماعيا منسقا من قبل كل حكومات العالم، كما أن تأمين الإجماع على المعالجات التي ستتخذ لن يكون أمرا سهلا.

ومن أجل العدالة، يقترح ستيرن أن تتحمل الدول الأغنى مسئولية تخفيض من 60 إلى 80 في المائة من الانبعاثات عند مستويات العام 1990 بحلول العام 2050.

ويقترح أن تبدأ على الفور بطريقين: الأول هو فرض الضرائب، والثاني هو ترشيد كميات الكربون التي تنبعث من الصناعات أو الأفراد وخلق سوق كوني مناسب لكربون. وإلى جانب هذا سيتعين على الحكومات أن تشجع البحوث وتطوير تكنولوجيات قليلة الكربون، فضلا عن تشجيعها لتغييرات سلوكية بين مواطنيها من خلال النظم والتشريعات، مثل فرض معايير أكثر صرامة لكفاءة المباني فيما يتعلق بالطاقة، وكذلك تثقيف الناس حول التكاليف الحقيقية للطاقة المهدرة.

الكابوس

يحذر ستيرن من أننا سنواجه كابوسا حقيقا إذا لم نتحرك بسرعة لوقف التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة كوكبنا. ومن أهم ملامح هذا الكابوس:

- الأنهار الجليدية الذائبة ستؤدي أولا إلى ارتفاع منسوب المياه والمحيطات ثم ستقلل من إمدادات المياه العذبة وستهدد حياة سدس سكان العالم، خاصة في شبه القارة الهندية، وأجزاء من الصين والإنديز في أمريكا اللاتينية

- تراجع غلة المحاصيل، خاصة في إفريقيا، قد يترك مئات الملايين من البشر عاجزين عن إنتاج أو شراء ما يكفي من الغذاء.

- سيؤدي تغير المناخ إلى زيادة كبيرة في الوفيات الناجمة عن سوء التغذية وموجات الحرارة. وستتفشى على نحو مرعب الأمراض المرتبطة بالمياه مثل الملاريا وحمى الدنج.

- الفيضانات الناجمة عن ارتفاع منسوب البحار والمحيطات ستشرد عشرات، وربما مئات، الملايين من الناس. وستكون هناك مخاطر وضغوط كبيرة على المناطق الساحلية في جنوب شرقي آسيا (خاصة في بنجلاديش وفييتنام)، والجزر الصغيرة في المحيطين الهندي والباسيفيكي، والمدن الكبيرة القريبة من السواحل، مثل طوكيو، ونيويورك، والقاهرة ولندن. ووفقا للتقديرات ربما سيتحول نحو 200 مليون إنسان إلى نازحين بحلول منتصف القرن.

- ستكون الأنظمة الإيكولوجية مكشوفة تماما أمام التغير المناخي، وربما ستواجه من 15% إلى 40% من الأنواع خطر الانقراض التام بعد ارتفاع درجة حرارة الأرض درجتين مئويتين فقط. وستلحق ارتفاع نسبة حموضة المحيطات، وهي نتيجة مباشرة لزيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون في الجو، أضرارا بالغة بالبيئة البحرية، وهو ما سيخفض بنسبة كبيرة المخزون السمكي فيها.

- الاحترار الكوني سيؤدي إلى تقلبات حادة في النماذج المناخية الإقليمية مثل أمطار المونسوم في جنوبي آسي وظاهرة النينو - وهي آثار ستخلف عواقب حادة على توفر المياه والفيضانات في المناطق المدارية التي يعيش فيها مئات الملايين من البشر.

- ستكون غابات الأمازون بشكل خاص مكشوفة أمام التغير المناخي ، حيث تتوقع النماذج المناخية جفافا شديدا في تلك المنطقة. وسيلحق بها ضرر هائل لا يمكن إصلاحه.

- سيؤدي ذوبان الغطاء الجليدي إلى غرق أراضي يعيش عليها حاليا واحد من كل عشرين من سكان كوكبنا.

- ارتفاع بين 5 و 10 في المائة في سرعة الأعاصير نتيجة ارتفاع درجة حرارة المحيطات، وهو ما سيضاعف الخسائر السنوية الناجمة عنها في الولايات المتحدة وحدها.

- في بريطانيا ستزيد الخسائر الناجمة عن الفيضانات من 1% من الناتج المحلي الإجمالي حاليا إلى من 2 إلى 4 في المائة.

- موجات الحرارة، مثل تلك التي شهدتها أوروبا في العام 2003 وقتلت 35 ألف شخص، ستصبح أمرا شائعا مع حلول منتصف القرن.

ترحيب أخضر وصمت أمريكي مطبق

رحبت الجماعات البيئية في سائر أنحاء العالم بالتقرير باعتباره بداية عهد جديد بالنسبة لتغير المناخ، لكن البيت الأبيض حافظ على صمته المطبق. ومع ذلك، فإن التقرير ألقى بتحد كبير على عاتق الولايات المتحدة واقتصادات كبيرة ناهضة كالصين والهند قال وزراء بريطانيون إنه لا يمكن تجاهله.

وعندما عرض نتائج التقرير في لمدن، قال رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إن التقرير الذي جاء في 700 صفحة هو: «أهم تقرير حول المستقبل» تنشره حكومته. وقال نشطاء حزب الخضر إن العالم استيقظ أخيرا للأخطار التي يحذرون منها منذ سنين. أما جوردون براون، وزير المالية والخليفة المنتظر لتوني بلير، فقد افترض أن المهمة الآن هي قيادة العالم في إقناع الولايات المتحدة والصين والهند للاعتراف بالحاجة إلى التعاون الكوني لتجنب تهديد الكارثة الكونية. ووضع آل جور، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق الذي تحول إلى واحد من أكبر المدافعين عن البيئة، على رأس قائمة هؤلاء المطالبين بنشر الرسالة في الولايات المتحدة إلى جاني السير نيكولاس ستيرن نفسه. وبينما رفضت الإدارة الأمريكية التعليق على التقرير، استغله المدافعون عن البيئة في الولايات المتحدجة للمطالبة بتغيير كبير في سياسة الإدارة. وقال صندوق البيئة الوطني في بيان له: «الرئيس في حاجة إلى التوقف عن الاختباء خلف معارضته لبروتوكول كيوتو وتبني موقف جديد على الطاولة». وقالت جريدة الواشنطن بوست في مقالها الافتتاحي إنه: «من الصعب تخيل» أن يستمر هذا «التعنت» الذي تبديه الإدارة الأمريكية. وتساءلت: «هل سيشارك في صياغة رد أمريكا على هذه المشكلة الكونية، أم أنه سيصبح الرئيس الذي كان يعبث بينما كان جليد جرينلاند يذوب؟».

ولم يتضمن تقرير السير نيكولاس ستيرن أشياء جديدة من الناحية العلمية. لكن الحكومة البريطانية تأمل أن يكون تحليله الاقتصادي المدقق والواقعي كافيا لإقناع المتشككين في البيت الأبيض بإيقاف إسراف الولايات المتحدة في استخدام طاقة الكربون.

 

أحمد الشربيني
 




 





التقرير صور رؤية كارثية لمئات الملايين الهاربين من الفيضانات والجفاف





السير نيكولاس ستيرن .. الرجل الذي غير مناخ العالم





ارتفاع درجة حرارة الأرض درجتين سيؤدي إلى انقراض من 15% إلى 40% من كل الأنواع





من أجل العدالة، يقترح ستيرن أن تتحمل الدول الأغنى مسؤولية تخفيض من 60 إلى 80 في المائة من الانبعاثات بحلول العام 2050





أقر التقرير بأنه حتى مع توسع كبير جدا في موارد الطاقة المتجددة، فإن الوقود الأحفوري سيظل مسئولاً عن أكثر من نصف إمدادات الطاقة العالمية بحلول العام 2050