جاك - لوي دافيد قسم الأخوة هوراسيو

جاك - لوي دافيد قسم الأخوة هوراسيو

لو قيست عظمة اللوحات الفنيّة بمدى تعبيرها عن حركة التاريخ الثقافي والاجتماعي (والسياسي)، لاعتبرت هذه اللوحة واحدة من قمم فن اللوحة في تاريخ الفن بأسره.

تعود سيرة هذه اللوحة إلى ما قبل تاريخ رسمها ببضع سنوات. ففي العام 1774م، انتزع الرسام جاك - لوي دافيد اعترافاً أكاديميّا بموهبته عندما فاز «بجائزة روما»، وهي الجائزة الأهم في أوربا التي كانت تمنح للفنانين. وفي العام التالي، سافر دافيد إلى روما حيث التقى بعالم الآثار كاترمير دي كوينسي والنحات جان - باتيست جيرو، اللذين أيقظا فيه الحماس لفن النحت الروماني القديم. ومن هذا الحماس المضاف إلى لوحات الرسام الفرنسي نيكولا بوسان، ولدت المدرسة النيوكلاسيكية، التي تعتبر اللوحة التي نحن بصددها هنا واحدة من الأعمال الرائدة فيها وخير معبّر عنها.

ففي العام 1783م، عاد دافيد من باريس إلى روما مرةً أخرى، خصيصاً ليرسم هذه اللوحة. موضوعها بسيط، وهو مستوحى من رواية تاريخية حصلت أيام الإمبراطورية الرومانية، وتظهر الأشقاء هوراسيو الثلاثة قبيل ذهابهم الى الحرب ضدّ الأخوة كورياس، وهم يقسمون لوالدهم بالدفاع عن الجمهورية حتى الموت.

زحفت روما بأسرها إلى محترف دافيد لرؤية هذه اللوحة. وكذلك زحفت باريس إلى معرض العام 1785 حيث تمّ عرضها. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت هذه اللوحة نموذجاً يحتذى لكل اللوحات الكبيرة التي ألهمت، بما تتضمّنه من مُثلٍ وطنية، قادة الثورة الفرنسية، ومن ضمنهم دافيد نفسه، الذي كان من أنصار روبسيير، وصوّت تأييداً لإعدام الملك لويس السادس عشر. والمفارقة التاريخية الكبرى هي في أن هذا الملك هو نفسه الذي كان قد طلب من دافيد أن يرسم هذه اللوحة لحسابه الخاص!!

يتشعّب الحديث عن هذه اللوحة في أكثر من اتجاه، ولعلّ أفضل مدخل إليه هو في اختيار الموضوع الروماني.

فخلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، كان المجتمع الفرنسي في أزمة عبّرت عنها الفلسفة إضافة الى الأدب والفن. وفي خضم هذه الأزمة التي انتهت إلى اندلاع الثورة، وكما هي الحال في كل أزمة تصيب الوجود برمته، تطرح العودة إلى الجذور نفسها كمخرج من المأزق. وجذور الحضارة الأوربية كما هو معروف تعود إلى الحضارة الرومانية والإغريقية. فانتعش فن العمارة والرسم والنحت الذي يستوحي هذه الأصول القديمة. وهذه اللوحة واحدة من الأعمال الطليعية في هذا المجال.

مقاييس اللوحة كبيرة جدّا (330 - 425 سم)، وسمحت للفنان برسم الأشخاص بالمقاييس الطبيعية تقريباً، إمعاناً في تقوية الوقع النفسي على المشاهد.

يأخذ بعض النقاد على دافيد برودته في تركيب اللوحة وترتيب وضعيّات الأشخاص الذين يبدون (وربما كان الأمر صحيحاً) نماذج يقفون في محترف الفنان أكثر مما هم في حركة عفوية وحيّة.

ولو سلّمنا جدلاً بصحة هذا الرأي، فلا بد من الاعتراف بأن هذا التركيب «البارد» هو على مستوى عالٍ من العبقرية.

فوسط هذا الديكور المسرحي هناك ثلاث قناطر، والأشخاص السبعة يتوزعون على ثلاث مجموعات. الأشقّاء الثلاثة إلى اليسار، الأب في الوسط، والنسوة الثلاث إلى اليمين، أما منتصف اللوحة تماماً فتحتله يد الأب التي تحمل السيوف الثلاثة.

ولو تطلّعنا عن قرب إلى وجوه النساء لظهرن وكأنّهن نائمات أكثر مما هنّ منتحبات. ولكن مقابل ارتخاء أذرعهن وتكومهن بعضهن فوق بعض نرى الشبّان الثلاثة بعضلات مشدودة، وأذرع ممدودة في إيقاع يشبه إيقاع السيوف. ولو تأمّلنا وجوههم عن كثب لوجدنا أنها تشبه التماثيل الرومانية فعلاً الخالية من كل تعبير غير الجديّة والصرامة العسكرية.

وفي هذه العبقرية المتمثلة بالتركيب الذكي، والأمانة للنماذج القديمة في رسم الملابس والخوذ والأسلحة وحتى العمارة، إضافة إلى الحساسية اللونية، تكمن أهميّة هذه اللوحة على الصعيد الفني.

فعلى الرغم من وجود مساحات كبيرة غير مشغولة بدقة مثل الخلفية المظلمة داخل القناطر الثلاث، يمكن للمشاهد أن يلحظ عناية الرسام الفائقة في رسم التفاصيل والزخارف الصغيرة بإحساس فائق بالأناقة. وليس أدلّ على ذلك من تنويعه لألوان خوذ العسكريين الثلاثة، فاختار اثنتين بلون الحديد الرمادي، وواحدة في الوسط بلون النحاس الأصفر.

وفي حين يسهل اكتشاف المراسلة ما بين اللون الأحمر في ثوب الوالد ولباس أحد أبنائه، قد يحتاج المشاهد إلى بعض الوقت لاكتشاف كل عوامل التجانس اللوني والتناغم ما بين الأقمشة ولون الحجارة على الأرض. وحدها السيوف تقفز أمام العين مضاءة على خلفية داكنة، لتشد الأبصار إليها وتضفي على هذه اللوحة مزيداً من الدرامية الحربية.

ويبقى السؤال: ما الذي دفع الملك لويس السادس عشر الى أن يطلب من دافيد رسم هذه اللوحة التي كانت ذات مفعول معاكس تماماً لما شاءه الملك؟ أو كيف يمكن للسحر أن ينقلب على الساحر بمثل هذه الحدة؟

الجواب الوحيد الذي نعرف أنه خطأ هو الاعتقاد أن الرسام خدع الملك... فالمثل الوطنية غالبا ما تكون مشتركة ما بين السلطة والمعارضة. أما الأداء السياسي في خدمة هذه المثل فيختلف من جهة الى أخرى. والفن النبيل الذي يستحق فعلاً هذا الاسم، هو ذاك الذي يعبّر عن هذه المثل، ويدعم بشكل غير مباشر الأداء «الأفضل»، من دون أن يتورط بالتعبير المباشر والرخيص عنه.

 

عبود عطية

 




جاك - لوي دافيد: «قَسم الأخوة هوراسيو»، (330 - 425 سم)، 1785، متحف اللوفر، باريس