اختراع الفن المعاصر

اختراع الفن المعاصر

بعد الحركة التشكيلية التي دُعيت «بالانطباعية»، ظهرت حركات تشكيلية عديدة في باريس وروما وبرلين وغيرها من المدن، وكل مدينة أعطت اسمًا لحركتها الفنية.

فتحت الانطباعية أبوابًا لمدارس وحركات، منها التعبيرية والتجريدية والوحشية وفن الملصقات.

التعبيرية انبثقت من فن فان غوغ Van gogh والتجريدية من لوحة بول سيزان Paul Cezanne، والوحشية Le fauvisine من بول غوغان Paul Geguin والملصقات من رسم تولوز لوتريك Toulous Lautrec.

بعد هذه الموجة الغنية التي مازالت مؤثرة حتى اليوم، ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية حركة «دادا» Dada التي اشترك في خلقها رسامون من مدن أوربية عدة، ولعل أوّل من أوجدها هو الفنان «إرب» Arp وقد نادوا بموت الفن ورفض كل ما رسم ولوّن قبلهم.

في ذلك الوقت، بقي الرسام الأندلسي الإسباني الباريسي بابلو بيكاسو Paplo Picasso سائرًا في خط خاص به، مؤثرًا بكل محيطه ومجموعة من الرسامين الباريسيين، هم يتبعونه متأثرين بفنه وهو لا يلبث أن يغيّر في اتجاهه موجدًا أشكالاً وطرقًا جديدة, ويكون الفنانون المتأثرون قد علقوا بما رأوه من بيكاسو، وكثيرون منهم من بقي طوال عمره الفني في الخط نفسه الذي أوجده، بينما هو بقي متنقلاً من طريقة وشكل إلى طرق مختلفة.

حركة دادا Dada، كانت تعني الثورة على ما كان يرسم ويلوّن، وكان أتباع هذه الحركة ينادون بموت الفن وبإحراق المتاحف، وفنهم الجديد هو تعبير عن عصر جديد ونظرة جديدة لفن حديث كما كانوا يزعمون.

في هذا الوقت كان الفن التجريدي art abes trait قد أخذ بالانتشار والروسي كاندنسكي Kandinsky هو أوّل من حقق لوحات ومائيات تجريدية، كذلك الهولندي مندرياو Mondriaw وغيرهما، وأصبح لهذا الفن مدافعون عنه ونقاده وصالات مختصة Galeries، ثم خصص لهذا الفن معرض Salon سنوي رسمي هو معرض الفن الحديث Salon de larealite Nouvelle وكانت أول رئيسة له هي الفنانة Sonia Delaunay صونيا ديلونيه، الروسية زوجة الرسام الفرنسي بولير ديلانوي Poliert Delaunoy.

في هذه الفترة، أتى المهندس الألماني Waltar Giopus «والتر غروبيوس» مؤسس «باوهاوس» Bauhaws وضم فيها كبار فناني ذلك الوقت أمثال كاندنسكي وبول كليه Paul Klee وكان ذلك عام 1919 وأصبحت مدينة وايمار Weimar هي مدينة الفن الخلاّق الجديد في العالم حيث غيّرت مؤسسة «باوهاوس» الشكل الهندسي للبناء، وأوجدت أشكالاً جديدة في كل ما يستعمله الإنسان في منزله، كما كان لكاندنسكي وبول كليه فيما كتباه وعلّماه الدور الأساس في تغيير وبعث فن جديد.

إلى أن ظهرت بوادر الحرب، واعتبرت النازية أن هذا الفن فن مريض، لاحقت فناني «باوهاوس» وأحرقت أعمالهم، وهرب كثيرون، منهم من هاجر إلى باريس ومنهم إلى أمريكا، أما والتر غروبيوس مؤسس هذه الحركة الكبرى فقد هاجر إلى أمريكا عام 1937 حيث درّس في جامعة هارفارد Harvard وأسّس مدرسة نموذجية للهندسة فيها.

***

اليوم، وبعد أن كان الفن في عزّه، أوجد تجّار الفن في أمريكا وأوربا شيئًا جديدًا، أقول «شيئًا» وليس فنًا، وسمّوه «الفن المعاصر» art contemporain انتشر هذا «الفن» في جميع أنحاء العالم كانتشار زجاجة الكوكاكولا. هو «فن سهل» يستطيع أي إنسان أن يكون أو أن يصير فنانًا، ويصفق له ويكتب عنه وتوضع صورته على الشاشات مالئًا الصفحات الثقافية الغربية «لعبقرية هذا الفن، فن الشباب»، المعبر عن الفوضى السائدة اليوم في العالم، إن في الثقافة أو في السياسة، أو في الذوق العام أو في الملبس. وكأن «فن الشباب» أو الفن المعاصر هو علم يمثل البشاعة المشجعة من قبل المتاحف المختصة بهذا الفن، وصالات العرض التي يزداد عددها من يوم إلى يوم لعرض هذه الخزعبلات.

أما «الأعمال الفنية» التي تُعرض فهي كل ما يريده هذا «الفنان» المعاصر، مثلاً بسط رمال على ساحة الصالة، أو صندوق أو أكثر من صناديق التلفزة حيث تسمع وترى خطابات سياسية قديمة مكررة طوال مدة المعرض، أو صور مجمعة لوجوه ولعراة وغيرها أو كومات من أوساخ الشارع، أو ثياب ممزقة وسخة منثورة على حبال،أو لوحات لا لون عليها ولا شكل، أو علب سردين فارغة وأكثر من هذا طبعًا.

إنه فن جديد، وفي يوم من هذه الأيام تظهر أشياء جديدة سرعان ما تنسى بعد أيام وتزيد في فوضى ذوق الإنسان المتلقّي الذي يتلقى غصبًا عنه كل ما يعطى إليه إن من التلفاز أو من الصحف «الثقافية» أو في صالات عرض الفن المعاصر كل ما يزيد ضياعه.

***

ما يسمى اليوم «بالحرية» ليس سوى فوضى، إذ إن الحرية المقدسة، لكثرة ما تردد اسمها فقدت معناها الحقيقي، فالذوق الذي ينبثق عن الثقافة والوعي يوصل إلى راحة فكرية ومتعة.

تدهور الفن اليوم يزيد من رداءة الذوق الشائع في كل مظاهر الحياة خاصة في عالمنا العربي حيث أكثر الشباب والشابات يتبعون ما يأتي من وراء البحار، إن في الموسيقى والغناء اللذين لا معنى لهما ولا دور سوى وجع الرأس والقلب.

كذلك، الموضة في كل نواحي الحياة، التي ترميها في أسواقنا، الدكاكين الأوربية والأمريكية، ويتلقفها الشباب قائلين إنها الحداثة، صندوق التلفزة أيضًا عندنا هو مدرسة الرداءة التي تدخل إلى كل بيت وغرفة وتبث سموم الجهل والبشاعة بمساعدة القيّمين على إدارة التلفزيونات العربية، وأكثر شبابنا يأخذون ما يعطى لهم بواسطة الإعلام من مواد مخدّرة للعين والأذن والرأس كله، وليس من ينتقد ويوقف هذه الأحداث الخطيرة التي تزيدنا جهلاً وتبعدنا أكثر عن كل ما يستطيع أن يسمو بأفكارنا ويدخل البهجة في نفوسنا ويعطينا بعض الراحة والفرح.

 

أمين الباشا