في انتظار يقظة الثقافة العربية

في انتظار يقظة الثقافة العربية

نشرت مجلة «العربي» في عدد أبريل 2006 مقالاً في باب «مستقبليات» للكاتب الدكتور أحمد أبو زيد تحت عنوان «الفُرادة - عالم ذو إمكانات غير محددة»، تحدث فيه الكاتب عن أحد أوجه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا مستقبلاً، والاحتمالات التي يترتب حصولها بناء على وقائع الحاضر. وقد دارت المقالة حول كتاب أحد كبار المفكرين الأمريكيين المهتمين بالدراسات المستقبلية وهو المفكر «راي كورزيل» وعنوان كتابه «اقترب عهد الفرادة: حين يتسامى البشر عن البيولوجيا»، والذي صدر في سبتمبر عام 2005. وقد كشفت المقالة -حسب قدرتها كجنس أدبي مختصر - عن بعض مرتكزات الساحة الثقافية العالمية كما هي في الولايات المتحدة الأمريكية.

وتعرض المقالة للجديد الذي تجتمع مياهه خلف سد القرن الحادي والعشرين، كاشفة عن طبيعة التقدم التكنولوجي الذي تحقق في القرن العشرين وكيف يشير في هذا القرن إلى ما سينتجه تقدم التكنولوجيا -الذي سيستمر وسيزداد قوة - من تغيير في الإنسان. وكيف أن إنسان المستقبل سيأخذ بالافتراق عن الإنسان الذي نمثله نحن؟ والذي ورثناه من التطور الاجتماعي الإنساني خلال زمن حركة التاريخ. وتخلص المقالة -نقلاً عن الكتاب المذكور- إلى مجموعة أحكام احتمالية تقول إن صورة إنسان المستقبل ستكون في حدودها.

ولاشك أن قارئ مقالة الدكتور «أحمد أبو زيد» الملخصة لكتاب المفكر الأمريكي «راي كورزيل» سيدهش لطبيعة ملامح المستقبل الذي ستظهر فيه الحياة الإنسانية بدءاً من القرن الحادي والعشرين، وسيجد أن غرابة الصورة وصعوبة فهم مكوناتها - على الرغم من أن الدكتور أبو زيد قد عرضها بأسلوب قريب وسهل التناول - تجعله يشيح بوجهه عن المقالة، ويدع مادتها الفكرية تغيب لتفتقد قدرة التأثير في حياته. وإذا كان مثل هذا السلوك مقبولاً من القارئ العادي لمجلة العربي فإنه لا يتوقع أن يكون مقبولاً، وأن يصدر عن قارئ مثقف يهتم بشأن الإنسان والحياة.

لا أحاول هنا أن أدخل في حوار مع مادة مقالة الدكتور أبو زيد والبحث في الجزئيات العلمية المأخوذة من كتاب «راي كورزيل»، بل ستكون محاولة لأن تتخطى هذه الساحة الحوارية إلى ساحة أخرى نراها أخطر بكثير. وتتحدد ساحة العرض التي تقدمها مقالتي حول مرتكزات التصورات التي قام عليها كتاب المفكر الأمريكي «راي كورزيل»، والتي تشكل الأساس لمجمل الأحكام التي توصل لها الكاتب المذكور، والتي لخصتها مقالة الدكتور أحمد أبو زيد. وهي أحكام تدور حول العلاقة بين الإنسان والآلة، وطبيعة هذه العلاقة، وصور التحقق الواقعي لخيارات هذه العلاقة.

منطقتنا لم تنتج -خلال قيادتها لحركة التاريخ - العلم التجريبي والتكنولوجيا كنوع من أنواع كشف الوجود الذي أنتجه الإنسان منذ وجوده على سطح الأرض. بل أنتجت منطقتنا مستوى آخر من الكشف وهو «الكشف المعرفي» الذي تشكَّل سابقاً على الكشف العلمي، وأسس بنجاح اكتماله في منطقتنا لإنتاج العلم كمرحلة نهائية في مادة الكشف الإنساني للوجود. وبما أن المادة الثقافية التي تعرضها المقالة في تلخيصها لكتاب المفكر «راي كورزيل» ليست علماً بحتاً، بل هي معرفة ترتبط بالإنسان يتحدد -من خلالها- موقعه الوجودي، فإن هذا البحث يأتي في صلب إنتاج منطقتنا خلال العصور الوسطى والقديمة، ويتناول البحث مادة قد أشبعتها أدبيات المنطقة دراسة وتنقيباً. إن المادة المعرفية التي أنتجتها منطقتنا في العصور الوسطى والقديمة هي الكشف الإنساني للوجود قبل ظهور العلم وقد تلا إنتاجنا للمعرفة مرحلة كشف الخرافة والأسطورة، وأسس لاحقاً لمرحلة الكشف العلمي التي بنى عليها الغرب قيادته لحركة التاريخ. وهذه المعرفة -والتي هي في جزء منها كشف الإنسان للوجود - رسم خريطة الوجود - قد بنيت أساساً على اللغة، وكانت خصائصها مرتبطة بطبيعة اللغة وقدرتها على مستوى الوضوح في عرض الكشف الوجودي. ومن هنا فحين حقق الكشف العلمي في غرب العالم قفزته بالانتقال إلى الشمولية والاكتمال عن طريق استخدامه للعدد - الرياضيات، فإن صياغات اللغة للكشف المعرفي أصبحت عاجزة عن مسايرة هذا المستوى من الوضوح، والذي يرتكز على الشمولية والاكتمال. ومن هنا زهد العالم بصياغات الكشف المعرفي، ونبذها جانباً، وأخذ يسلَّم تشكيل تصوراته عن العالم للكشف العلمي تحت اسم «العلموية».

وقد أطلق أبو العلم الحديث الفيزيائي ألبرت أينشتاين صرخة استغاثة في منتصف القرن العشرين، حدد فيها أزمة الكشف العلمي وحاجته إلى مادة الكشف المعرفي في قوله المشهور «العلم من دون نظرية معرفية منهج بدائي ومشوش» وبذلك أشار بشكل مختصر ومركز إلى ضرورة الكشف المعرفي لكي يتأسس الكشف العلمي عليه، وأوضح أن مخاطر نبذ الكشف المعرفي ستجعل العلم ضعيف الفائدة من خلال كونه «منهجًا بدائيًا ومشوشًا». وبذلك استحث أينشتاين الباحثين في العالم كله لإطلاق محور دراسي جديد يقيم تواصلاً بين العلم والمعرفة، مما يسهل إنتاج نظرية معرفية يتأسس العلم عليها. وقد كتب الفيزيائي الأمريكي «فريتجوف كابرا» كتابه «الطاوية والفيزياء الحديثة - نشر دار طلاس» في هذا السياق، محاولاً تلمس العلاقة في مستوى إنشاء التصورات بين الفيزياء الحديثة وبين -ما يطلق عليه - التقاليد الصوفية الشرقية ممثلة بالطاوية.

وكتاب المفكر الأمريكي «راي كورزيل» عن اقتراب الفُرادة - الذي لخصه الدكتور أحمد أبو زيد في مجلة العربي - هو إبراز لوجه من وجوه أزمة الكشف العلمي، وذلك لأن الكتاب - في حدود ما تناولته مقالة أبوزيد - يحاول أن يعتمد على خصائص الكشف العلمي ومجمل أحكامه التي راكمها في القرنين الماضيين، متجاوزاً مرحلة الكشف المعرفي ومتجنباً الاستفادة من خصائصها. ولو أن سائلاً سأل المفكر الأمريكي «راي كورزيل» عن أسباب هذا الموقف السلبي من مادة الكشف المعرفي، لأجابه بأن مادة المعرفة لا تتناسب أبداً مع مادة العلم وأنه لا يمكن الجمع بينهما.

إن منطقتنا العربية هي التي تسلمت محور الكشف ممن سبقها حين كان هذا الكشف يعتمد آليات الخرافة، وانتقلت من خلال أساطيرها لإنتاج الكشف المعرفي وإنضاجه. وهي بحكم هذه العلاقة التاريخية تمتلك قدرة التعامل مع مادة الكشف المعرفي، وتستطيع - بجَد مفكريها ومثقفيها - أن تقدم الكشف المعرفي في خطاب معرفي جديد، يتجاوز حالة التقاطع بين المعرفة وخطاب العلم المنتج حالياً بسبب اختلاف الأداة المستخدمة في إنتاج الخطاب، وأن تقوم بتقديم نظرية معرفية - كما طلب أينشتاين - تظهر الرابطة بين العلم والمعرفة، مقدمة لإظهار وحدة الكشف الإنساني عبر تاريخ الإنسان كله. لا يؤدي التفاخر والتباهي «بدورنا التاريخي حين أنتجنا المعرفة خلال آلاف السنوات وكذلك لا يحقق ذكر أسماء مفكرينا وعارفينا» أن يكون طريقاً لإنتاج النظرية المعرفية العتيدة التي سيشكل إنتاجها مهمة منطقتنا في القرن الحادي والعشرين، بل إن طريق إنتاج هذه النظرية لن يتحقق إلا بالانكباب على كامل أدبيات منطقتنا، ودراستها واستخلاص خصائصها ومكوناتها الأساس، وضبط هذا كله بأحكام «العلموية»، ثم صياغة بناء فكري معرفي «نظرية معرفية» يستخدم خطاباً حداثوياً ويمتزج بالعلم لكي يبرز علاقة الأساس بالبناء. وهذه الصرخة تأتي في هذا السياق.

محمد ياسين الأخرس
دمشق - سورية