عن البنوك والفائدة والربا

عن البنوك والفائدة والربا

إشارة إلى ما نشر في مجلتكم الغراء حول الربا والفائدة المصرفية للدكتور علي أحمد عتيقة في العدد رقم (568) مارس 2006، اقول إن البنوك قد انشئت على نظام مالي يكفل المنافع لكل الأطراف المودعة من جهة أو المقترضة من جهة أخرى، ومما لاشك فيه - في عالم الاقتصاد - أن أسوأ أنواع الاستثمار هو ذلك المتعلق بالادخار طمعاً بالفائدة المصرفية القانونية للمبالغ المودعة والاكتفاء به، ونحن نعلم أن معظم أسعار الفائدة المصرفية للمبالغ المودعة لا تتجاوز الـ 10%؛ في حين أن معظم النظريات الاقتصادية الاستثمارية؛ تحدد الأرباح بما لا يقل عن 20%، أي أن استرداد رأس المال يتم في فترة لا تزيد على خمس سنوات، أي أن أقل المشاريع الاستثمارية فائدة يحقق ربحاً يساوي ضعف أعلى فائدةٍ مصرفية، هذا من جهة, ومن جهة أخرى نحن نعلم أن أي مرابٍ لا يعطي قرضا فائدته تقل عن 40% سنوياً.

ومن جهة ثالثة؛ لا بد من طرح السؤال الأساس والأهم ! ماهو أصل تحريم الربا شرعيا وهل هو حد مطلق أم له نصاب معين وظروف تطبيق؟

عند البحث في النصوص الإسلامية نجد أن منافذ كسب المال يمكن ان تقسم إلى قسمين رئيسيين:

1- وسائل مشروعة: وهي كل وسيلة شرعية تََستخْدمَ جهداً حقيقياً مسموحاً به شرعاً - كالعمل المشروع الشريف والمعترف به اجتماعياً وشرعياً؛ أو قد يكون تحصيل المال ببعض الطرق الشرعية الواردة في التشريعات الدينية كالزكاة والصدقات والهبات والهدايا أو حتى اللقى بأنواعها بعد دخولها الفترات الشرعية وغيرها الكثير من طرق الكسب الحلال.

2. وسائل غير مشروعة: وهي كل وسيلة لا يعترف بها الشرع أو المجتمع - بقوانينه وأعرافه وتقاليده، والتي تتم بجهود غير شرعية أو تتم حيازتها بالطرق غير الشرعية كالسرقة والغصب والتحايل والربح الفاحش والغش والتدليس وأي وسيلة أخرى من تلك التي تتم دون أي جهد يبذل وبطريقة يسمح بها الشرع أو العرف والقانون الذي يمكن للأمة ان تجمع عليها.

وعلى هذا فأين تكمن القيمة الشرعية للربا أو الفائدة المصرفية فيها؟ وهل يحق لنا التساؤل عن حقيقة الفائدة المصرفية وهل هي أحد أنواع الربا بداهة أم علينا أن نعيد النظر في كشف حقيقتها والحكم عليها انطلاقاً من الأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:

1- أن المصارف بأنواعها هي حقيقة واقعة في الحياة العصرية من المستحيل تجاوزها في المعاملات المالية على اختلاف أنواعها.

2- هل حجم الفائدة الربوية هو ما يؤخذ من تعريفها الشرعي على إطلاقه؟ أي الزيادة في حجم المبلغ دون أن يمنح هذا المبلغ أي قيمة استثمارية لتبقى القيمة فقط للجهد البشري المبذول؟

3- هل توجد بدائل واقعية تحل بدل المصارف التي تتعامل بالفائدة تكون اكثر شرعية وبعداً عن الشبهة الربوية وضماناً لحقوق المودعين والمقترضين والحق العام.

4- ثم هل وصلنا بالبحث والاجتهاد في تحديد حقيقة هذه الفائدة وحدود الفصل بينها وبين الربا.

5- والسؤال الأخير والأهم؛ هل يمكن لنا أن ننجح في تأسيس َمجْمع فقهي اقتصادي على غرار المجامع اللغوية أو الفقهية أو العلمية للبحث في مثل هذه القضايا؛ بحيث تضم هذه المجامع علماء الشريعة والاقتصاد والسياسة والإدارة والمال؛ وكل ما يلزم من خبرات للبحث في مثل هذه المسائل المهمة والعمل كمؤسسات مع الابتعاد عن الاجتهادات الفردية هنا وهناك.

فعلى ضوء ما تقدم نجد أن هناك غيابًا لتعريف نصابٍ للربا إن وجد حيث إن تحريمه في نص القرآن الكريم كان مطلقاً وحداً شرعياً وكبيرة من الكبائر وعليه فإن كل زيادة في رأس المال نتيجة الإقراض على إطلاقها هي ربا محرم. ولم يوضع نصاب لها وهي كحدود القتل والزنا والقذف وغيرها من الكبائر أم هي حد يمكن أن يوضع له نصاب - بحد أدنى وحدٍ أعلى كحد الزكاة والسرقة وحدود الربح وغيرها - وتطبيق مبدأ المصلحة العامة كما تمت ممارسة ذلك في العصور الاسلامية الأولى من تعطيل لحد السرقة وعدم تنفيذ حد الخمس لانتفاء ضرورته في ظرف من الظروف.

المتتبع للنصوص الشرعية والأحكام التي تتناول الحدود الشرعية التي تتناول العقائد والعبادات والعلاقات الاجتماعية العامة يجد أن جميع الكبائر قد وضع لها حد فاصل بين الحلال والحرام كلاً لا يتجزأ ولا يجوز التعدي عليه بأي ظرف زماني أو مكاني كان؛ بينما جميع الحدود المتعلقة بالمعاملات المالية كان يحكمها نصاب معين؛ حيث يوضع في أحكامها حد أعلى وحد أدنى لاستعمال الحدود في الحكم عليها.

وبالتالي فهل علينا أن نبحث ونجتهد في هذا المجال؛ مع الأخذ بعين الاعتبار التطور المطرد والمتجدد بين الحين والآخر والمستجدات في الاقتصاد والسياسة والمصالح العليا للأمة وتغير الكثير من المفاهيم العملية للاقتصاد والسياسة.

وكذلك فهل يمكن أن نتعامل مع البنوك جميعها كبنوك ذات طبيعة تعاملية واحدة ربوية - كالبنوك الزراعية والصناعية والعقارية التي أنشئت لغايات خدمة شرائح معينة من الناس؛ والتي تتقاضى فوائد وعمولات مصرفية لا تتجاوز قيمتها 5% - هي بنوك استثمارية ربوية يحرم التعامل معها أم هي بنوك خدمية تقدم خدمات لمجموع من الناس هم الأحوج للمساعدة المالية من أي فئة اجتماعية ميسورة.

وهل أنواع التعامل الأخرى جائزة، كالمضاربة والبيع الآجل والإقراض بالبيع والشراء الوهميين - كما يجري في بعض البلدان الاسلامية في هذه الأيام؟ وهل البنوك الإسلامية المحدثة في البلاد الإسلامية والتي قد أصبحت تنتشر حتى في البلاد الغربية لاستقطاب الرساميل الاسلامية هي في منأى عن شبهة التعامل الربوي؟ أعتقد أن جميع هذه الطرق المذكورة إنما هي تحايل غير كامل على النصوص الشرعية، فالمضاربة أليست هي توظيفًا لرأس المال دون تدخل جهد صاحبه لتنميته والبيع الآجل أليس هو الربا بعينه؛ ومن حيث الجوهر ما هو الفرق بين بيع سلعٍ نقداً بقيمة ألف ليرة وآجلا بألف ومائة ليرة، وبين من يقرض مالاً مقابل زيادة مقدارها 10% للمدة نفسها من الزمن؛ فمن حيث الجوهر ومهما اختلفت التسميات لا يوجد في هذه الحالة أي فرق واضح من غير شبهة واضحة.

ثمة مسألة أخرى: هل عائدية ملكية البنوك تبدل من صفة حقوقها? أي: هل لملكية المصرف من قبل الدولة القيمة نفسها كما لو كانت ملكيته لفرد أو مجموعة من الأفراد؟

أعتقد ان البحث الفردي في هذا المجال - والاجتهادات كثيرة فيه - في بيئتنا لن يجدي دون رعايته من مؤسسة متخصصة في التعاملات المالية المصرفية تعتمد على خبراء في الاقتصاد والسياسة وغير ذلك. إن الموضوع يستحق البحث فيه أكثر مما هو كائن؛ وعلى هذا أقترح إنشاء مجمع فقه اقتصادي إسلامي يضم جميع الخبرات اللازمة من مصرفية ومالية وفقهية ولغوية مع الاستعانة بأي خبرة لازمة لذلك.

يونس الشلبي
[email protected]