العنوان بحد ذاته يثير سؤالاً: لماذا تواضعت أحلام سعدية كثيرًا؟ هل
تراها يئست من تحقيق الأحلام السابقة، أم أن شيئًا كسر تلك الأحلام الكبيرة فاضطرها
أن تتواضع بأحلام اليوم إلى الزمن الآتي؟ شيء من الفضول يدفعنا أن نفتش بين القصائد
لعلنا نعثر على الأسباب، التي دفعت بأحلامها أن تتواضع. في الصفحة الثانية من
الديوان - الإهداء - لكنها تترك المكان شاغرًا وتعلق تحته: «سأملأ هذا الفراغ
يومًا»، ويثير هذا العزوف عن تحديد شيء ما أو اسم ما سؤالاً آخر: أليس من أحد يستحق
هذه الباقة المنسقة الفوّاحة من قصائدها لتهديها إليه؟ أم أن من بعض أحلامها
المتواضعة انتظار فارس يأتي ليملأ فراغ القلب، وبالتالي يملأ المكان الشاغر؟
كعادة سعدية دائمًا لا تُصدر ديوانًا جديدًا إلا ويكون مختلفًا عن
الآخر، فهي شاعرة متجددة في لغتها ومضامينها، وفي هذا الديوان استطاعت أن تتحرر من
حالتين يلمسهما المتابع لأعمالها. أولاً: تحررت من التعلق باللغة الحداثية الصعبة،
وانطلقت بلغة شفافة حائدة بها عن المنعطفات المتعرجة وعوائق الانزواء خلف الأقنعة.
لغة تقطر رقة تلامس شغاف القلب وتدخله بلا تباطؤ ولا صعوبة. لكن الرقة لم تخل من
معاناة وحزن وأمنيات ورغبات في التمني بأشياء وإن كانت بسيطة، إلا أنها مشحونة
بالشجن والحرقة. أما الحالة الثانية، التي استطاعت سعدية أن تتحرر منها، فهي حالة
الخوف، تلك التي جعلتها في دواوينها السابقة تخشى الإفضاء المباشر بعواطفها ورفات
قلبها، فلا تبوح هذا البوح الشجاع الذي جعلها تكسر حدود الصمت كفراشة تتوق أن تفرد
ألوان أجنحتها في الضوء وترسم شارعها على هواها:
(كل يوم أرسم شارعًا جديدًا
أظلل امتداده بالنخيل
ألوّن رصيفه
حجرًا حجرًا
أسوي إسفلته بحنين أصابعي
وأروي حشائشه بفيض قصيدي
أتممه خلوا
من أي إشارة مرور).
وهنا يتأكد لنا أنها تنشدحرية لا تحدها أسيجة ولا إشارة مرور حتى وإن
كانت خضراء لتصرخ بملء حريتها:
(أريد غواية جديدة لأيام فقط).
وفي قصيدة - الحب كده -تعلن:
(مثل رسالة حب أولى جاء
رسم نخلة على جدار قلبي ومضى
يهزها).
إلى أن تقول:
(كلما اندلق الحرف الأول من اسمه الغريب
في صحن الأحاديث
العائلية
نبتت في قلبي شجيرة جديدة للذهول
بانتظار سقيا
الحلول).
أما بدء الغواية فيأتي من:
(لسيجارته المشتهاة غواية البدء
ولرائحتها اعتذارات
الضالين
نعيقها في نسيج دهشتي
حكمة الغيم في سماء الشتاء).
ولأجله تحب قصيدها لأنه وسيلتها إلى البوح الذي يستطيع المحبوب أن
يقرأه:
(سأحبك أيها القصيد
سأكتبك كلما انتشيت
وسيقرؤك الرجل البعيد
وحده
ويقول يا الله).
وإن كان ذلك الرجل البعيد أشبه بالمستحيل، فإنها في قصيدة «قطة خزفية
جميلة» تقول:
(أسميه الرجل المستحيل
لعله لا يتحقق أبدًا).
لكنها بالرغم من هذا الهاجس النازح إلى اليأس تعترف:
(لكنه راود أمنياتي المستحيلة
وصار واقعي الكبير... مميتًا
ويقينًا).
لذلك لا تنكر أنها باحت له:
(قلت له إنني أحبه... فابتسم في خجل).
متواضعة .. وفيها يكمن المستحيل
أما أحلام الشاعرة التي تواضعت كثيرًا فإنها بالرغم من تواضعها تبدو
كثيرة وغير سهلة، وربما في بعضها يكمن المستحيل. ففي قصيدتها الأولى التي تحمل
عنوان الديوان نجدها تريد أشياء كثيرة وكل شيء تريده يرتبط بسبب أو بشرط، فهي
تريد:
(مجرد جناحين أو يكف روحي عن توقه للطيران).
وتريد أن تصرخ، أن تتخلص من كل ما يعيق دمعتها، أن تغني، وأن ترتجل
لحنًا دون أن تضطر لتأليف الكلام، تريد خريطتين واحدة ترسمها وفق تضاريس وجهها
وأخرى:
(أخبئها في صدري
كلما أردت الخروج من البيت دون عباءة)
هي هنا تبحث عن شرط الحرية، أما الشجرة التي تريدها فهي شجرة تغني،
وتريد عصفورة تهادن الريح، وبحرًا:
(يكتب مذكراته كل فجر).
وتريد مظلة، مخدة، كتابًا، أصابع، إطارًا جميلاً، ذكرى حلوة، أغنية،
ليلاً قصيرًا، نهارًا طويلاً، غواية و...و... أشياء كثيرة. فتحسها في رغباتها كطفلة
تبحث عن أشياء تفرحها، وفي الوقت ذاته تحقق لها بضعة أحلام. لكنها في بعض ما تريده
تستوقفنا لترى روح الشاعرة المحاصرة بالوقت فهي تريد:
(نهارًا قصيرًا جدًا يكفي لكتابة قصيدة
أكتبها كما أشتهي على
مهل
دون رتوش ولا مسودة).
أما الليل القصير فتريده:
(مؤطرًا بالهدوء... ينتهي بموت لا يعني أحدًا).
وتتكرر الرغبة في الموت:
(أريد أن أموت دون أن أضطر لذلك أحيانًا)
وقد تكون الرغبة في الموت الذي لا يعني أحدًا أو الذي لا تضطر إليه
نوعًا من البحث عن خلاص لمشكلات متأزمة لا تريد أن يشاركها بأساها أحد، تلك
المشكلات ربما هي التي تعترض سير نهر أحلامها فتفضل انزياح الأحلام بالموت. حتى وهي
تريد أن تحيا تشترط:
(أريد أن أحيا
دون أن يكون ذلك قدري الأزلي حين تعز
الخيارات).
وبات أكثر ما تريده العصفورة وتحلم به:
(جواز سفر صالحًا في كل المطارات).
فلاشيء بنظرها وإحساسها يضاهي الحرية في زمن يفرض القيود الظالمة
وتخنق قوانينه أجنحة العصافير المنتمية إلى وطنها - السماء الواسعة - حين تعز
الأوطان. إن تلك الحرية التي تنشدها الشاعرة في أكثر من موقع في الديوان تجعلها
تبدو كالمهرة الباحثة عن البراري الشاسعة بلا حدود ولذلك هي دائبة البحث عن خرائطها
الخاصة:
(أريد كرة أرضية
أرسم خريطتها وفقًا لتضاريس وجهي)
وهي تريد:
(رحلات لا خرائط لخط سيرها)
وتريد أن تهيم في شوارع كينونتها:
(أتمشى دون خريطة).
إن رغبتها في إلغاء الخرائط تنبئ عن روح سجينة ربما في:
(عتمة تلف غرفة روحي
عتمة جبارة تمارس جبروتها
رغم كل محاولاتي
لعرقلة محاولاتها
عتمة سادرة في الظلمة والظلم).
شجن العتمة
وبالرغم من شجن العتمة، ظلمتها وظلمها فإن الشاعرة تغيّب كل هذا
ونراها طفلة صاخبة تفرح بالعيد وتنبش نكهته الأخرى وعُلبهُ المليئة بالمسرات
المعتقة:
(سرني أن يأتي غرة
حاملاً في جيبه الشيكولاته التي
أفضلها).
وهي في غمرة انشغالاتها المتعددة لا تغفل عن بعض أشياء صغيرة قد يعبر
عليها العابرون، فلا تلفتهم لكنها بحسّها الشاعري وروحها المتآلفة مع الطبيعة
تجعلها تتوقف عند نبتة صغيرة:
(رأيتها في الصباح تتسلق جذع نخلة
لم أعرف اسمها، لكن أوراقها
الخضراء
اقترحت لها حياة فائضة وأسماء مغرية).
وتلفتها العصفورة في:
(مشيتها الأنيقة في ظل إشارة المرور
أنبأتني أنها مازالت تبحث عن
رفيقها
في رحلة طيرانها المقبلة).
وفي حالة وجدٍ خاصة تفتح الشاعرة ألبومات الصور عائدة لزمن سجلت فيه
صورها، مرة بالأبيض والأسود وثانية:
(صورة بيضاء مطرزة بالغيوم الصيفية)
وثالثة:
(صورة ملونة دهشة الأعين فيها
تكاد تفضح سرّ المكان).
إن البحث هنا لا يكون لأجل التقاط صورتها فقط فالمساحة تسجل خلف
الصورة تاريخًا للأمكنة والأشياء:
(خيام على أطراف صحراء ربيعية
وبيضة وضعتها حمامة).
إنها ترى الصور بالرغم من فوارق ألوانها، تواريخها، وذكرياتها الحلوة
وربما المرة أيضًا تراها وكأنها:
(قصيدة دون كلمات
وموسيقى فائضة بالحنين
وصوت مرتبك
وخضرة مطلة
من شرفة عالية جدًا
ولها شغف ما).
وفي قصيدتها «قهوة وبريد» تعيدنا الشاعرة إلى زمن الرسائل التي كان
ساعي البريد ينقلها بين الأحباب وترى فيها الوسيلة الحنونة للتعبير الشجاع:
(في الرسائل وحدها
نمارس شجاعتنا المتمناة
دون خوف من دمعة
مفاجئة).
أين رائحة الحبيب؟
لكن زمن الرسائل المكتوبة بخط اليد انتهى أو كاد، فقد طغت عليه
تكنولوجيا البريد الإلكتروني ولم نعد نشمّ فيها رائحة الحبيب:
(كيف لي أن أشم رائحة الدخان المستكينة
على الورقة المطوية
كيف
أتمم رسومات الهامش الكاريكاتورية
كيف أخمن المشطوب).
ولا تغيب القهوة برائحتها أو طعمها عن لحظة كتابة الرسائل أو قراءتها
حين تجيء:
(مثل فنجان قهوة صباحي
أفضل شربه على مهل
بقيت نكهة الرسالة
الأولى
وتلاشى خدري اللذيذ بحضورها).
وحين تتأخر الرسائل يفقدها الانتظار طزاجتها فتصير:
(للرسائل المتأخرة رائحة القهوة الباردة
بلا نكهة، بلا طعم
لكنها
قهوة).
في تلك القصيدة الجميلة تعزف الشاعرة على وتر حنون لكل الذين لايزالون
يمارسون كتابة الرسائل لمن يحبون بخط اليد.
لا تستطيع وأنت تقرأ هذا الديوان إلا أن تتوقف طويلاً أمام قصيدتين
رائعتين، الأولى بعنوان (غواية الصوف أم نزهة الذاكرة)، وفيها ينجلي الحب العظيم
للأم المتعبة، التي تلازمها الشاعرة، فتصفها وهي في مرضها وتفصح عن مشاعر الابنة
الوفية وخوفها من الفراق:
(تجاعيد وجهك تسرق من قسوته رهبتها
يذوب خوفي القديم في خطوط
الزمن
فتغالبني رهبة جديدة
كلما همس طبيبك في أذني بمعلومة جديدة
أو وصية
إضافية).
إن القصيدة معبأة بالمشاعر الرهيفة وحيرة الابنة وهي تتابع تدهور حالة
الأم الصحية فلا يتصل بينهما حبل الكلام:
(كيف أحكي حكايتي الصغيرة
دون أن تسأليني عن التفاصيل غير
المهمة؟
آآه يا أمي
كيف أحب لأول مرة وأنت هكذا أبدًا؟
ولا تقصف الحيرة حبل الكلام وحده، إن الألم يكون أشد حين تكتب الشاعرة
قصيدة جديدة فلا تستطيع إسماعها للأم:
(كيف أقرأ لك هذه القصيدة
فتعرفين أنها قصيدة جديدة؟
كيف
أقرؤها
في بهو انتظارك العليل؟).
ونستشعر حزن الشاعرة المضني ونتلمس دموعها وهي تنظر إلى الأم وتدرك
أنها قد تخسرها في لحظة ما:
(ليقيني بخسارتك أخيرًا
أصلي كي تتأخر النهاية)
دروب الكتابة
أما القصيدة الثانية (البطل الحقيقي يلهو وحيدًا) فقد عبرت فيها
الشاعرة عن الارتباط الحميم والجاد بالكتابة ومزاجها الذي يمكن أن تسيل فكرة
الكتابة على ضفتيه. والحيرة التي تنتاب الكاتب حين يبدأ، فقد تسعفه الكلمات أو
تشاكسه وتسعتصي عليه، إنه العذاب الذي يعانيه كل مبدع كما تعانيه الشاعرة:
(كما يحدث دائمًا
اغرق في لجة الكتابة فأنساها
أتوارى بين الأوراق
فتبيض مفرداتي).
وبالرغم من أنها قطعت من دروب الكتابة أشواطًا طويلة فإن شيئا ما
يداهمها لحظة العناق بالكتابة قد يكون حلمًا، وهمًا، أو أعداء يشنون المكر
والخديعة، لكنها تصرّ دائمًا ألا تكون البطل الذي يلهو مع القطيع بل تلهو وحيدة
كالبطل الحقيقي.
وبعد: هذا ديوان جميل يشدنا لنغرق في بحوره الغنية، ونحلق في سماواته
الواسعة دون تعب أو ملل، ولأنني لا أمتلك موهبة نقد الشعر ولا أدّعيها، فقد قرأته
لا بعين الناقد القادر على التحليل إنما قرأته بعين وقلب الصديقة المحبة المتذوقة
والمتابعة لإبداع هذه الشاعرة - المهرة - كما أسميها. والتي أتمنى أن تكبر أحلامها
ولا تتواضع.