قراءة في كتاب: تأملات إبداعية في أدب ليلى محمد صالح

قراءة في كتاب: تأملات إبداعية في أدب ليلى محمد صالح

هذا الكتاب هو تأملات ذهنية في كتابات تلك الأديبة الكويتية، يرصد فيه المؤلف سماتها الإبداعية وما تجسده من مواقف إنسانية.

الكتابات النقدية حول التجارب الإبداعية في الكويت تحتل اهتمامًا خاصًا من قبل النقاد والكتّاب العرب. ولذلك يجب أن نتابع تلك الكتابات حول الأدب الكويتي لعدة أسباب، منها:

- أننا لا نستطيع أن نفهم أو نتحقق من الخطوات التي أنجزناها خلال المسيرة الإبداعية إلا من خلال فكرة الآخرين عنا، ومدى إيمانهم العميق بالدور الريادي للأدب والفكر والثقافة.

- أن النقد اليوم ليس مجرد اشتباك ذهني مع المبدع. فالنقد الحقيقي هو الذي يلهم المتلقي بأفكار جديدة، لم يكن يتصورها وحده أو لم يستطع اكتشافها دون فكرة الناقد.

- قد يشير الناقد إلى ملامح فنية وإنسانية لدى المبدع، تثير دهشة المبدع أو المؤلف ذاته فيمكنه أن يثري تلك المواقف ويتعمق في بعض الاتجاهات التي لم يكن يتخيل أنها تسكنه بالفعل.

- النقد في المقام الأول متعة ذهنية مثل قراءة قصيدة أو متابعة رواية، بحيث يكون الناقد هنا فنانًا تشكيليًا ينقش عباراته بإحساس عميق ويستلهم فكرة مثيرة وموقفا مشحونًا بالمعاني وينثر أفكارًا تحرض المتلقي وتدفعه إلى التغيير والتحول من فكرة ضحلة إلى عميقة. وبمعنى آخر أن يرى الكون والطبيعة والعالم في ثوب آخر أكثر جمالاً وإشراقًا، بعيدًا عن القبح والجهامة واليأس والهزيمة.

ومازلت أذكر ما قاله الناقد الفرنسي رولان بارت في عبارته الشهيرة:

«النقد تشويق، ودراما للحواس، وانفعال، وإثارة للمشاعر، بحيث يتحول الإبداع إلى فيض من الحوار، والتحريض بين الناقد والقارئ والمؤلف».

ومن أهم الكتب النقدية التي صدرت أخيرًا كتاب للناقد علي عبدالفتاح بعنوان: تأملات إبداعية في أدب ليلى محمد صالح. والكتاب يتناول مؤلفات الأديبة الكويتية في القصة القصيرة والبحوث الميدانية حول أدب المرأة.

ويمكن أن نقرر أن علي عبدالفتاح يملك قدرة صادقة في التعبير عن أحاسيس الأبطال كما كانت تحلم المؤلفة - ويهتم بالتفاصيل الدقيقة، وإشارات اللغة، والدفقات الشعورية والرموز الخفية بين ثنايا المعاني، ويكشف عن طموحات اللغة الشاعرة التي تنثرها الكاتبة، ويمزج ذلك بمواقف المرأة الكويتية وصورتها عبر مراحل مختلفة من حياتها، وقضية المرأة العربية في مواجهة الرجل والحياة.

رحلة مشوقة

عند قراءة هذا الكتاب النقدي تشعر أنك مسافر في رحلة مشوّقة، حافلة بعالم رومانسي شفاف، بين آهات الليل ودموع القمر، وسحابات الحزن وأغلال الوطن، وقهر المرأة وتمردها وعذابات روحها مع السكون والمطر والحرب والضياع.

استطاع علي عبدالفتاح أن يرسم لكل كتاب من كتب ليلى محمد صالح لوحة فنية تشكيلية يرحل فيها القارئ وينساب دون توقف أو تراجع كنهر يتدفق ويركض في الحقول.

اعتمد الناقد في كتابه هذا على الإحساس الباطني للقارئ ومدى ما يثيره في ذهنه وخياله من تداعيات للمواقف، واسترجاع للتاريخ وإثارة الوجدان بشلالات من العبارات الشاعرية.

اقرأ كيف يصف ويعبر وينقد من خلال هذا النقد الرومانسي المثير للمشاعر والأفكار والخيال دون أن يلجأ إلى عبارات تقريرية مباشرة بل إلى الكتابة النقدية التي تنحاز في انسجام مع قصص ليلى صالح وتمازج آسر:

- قصص ليلى قصيدة طويلة، حكاية آسرة، نغمة سارية، وحروف شادية، ورؤى منفتحة على النفس بكل ما تعاني من آلام، وما تتشوق من أحلام، وما تترقب من آمال. (الكتاب ص 9 )

ومن هذا الأسلوب النقدي الشاعري يتبين مدى ما يطمح إليه الناقد، حيث يبتدع طريقة نقدية لا تهتم كثيرًا بالتقاليد السابقة للنقد وطرائقه، فلم يعد النقد يلهث وراء تقريع المؤلف أو مدحه ولم يعد بحثًا مؤلمًا عن الاتجاهات العرقية أو المذهبية، وكذلك لم يعد من طبيعة النقد الفني التأملي أن يكشف بعض أخطاء في اللغة أو رفض لمذهب يتبناه الكاتب أو دحض لبعض أفكاره.

إنما النقد - كما يعبر عنه علي عبدالفتاح - نوع من التأمل الشاعري والتدفق في فكر وخيال المؤلف، بحيث يمكن للناقد على الرغم من تعبيره عما كتبه المؤلف أن يكشف حقائق مازالت في ذهن المؤلف لم يعبر عنها صراحة وبطريقة مباشرة، وإنما الناقد يضيئها ويحللها ويمنحها أبعادًا جديدة لتصبح قيمة من القيم أمام القارئ، وموقفا يثير دهشة المؤلف ذاته، لم يكن يتوقع أن هناك أسرارًا أخرى مختبئة خلف سطوره واستطاع الناقد بحسه العميق، وثقافته الثرية، وفيض مشاعره أن يلمسها ويجسدها.

وهذا ما تمكن منه الناقد علي عبدالفتاح فهو كاتب وصحفي في الكويت منذ أكثر من ثلاثين عامًا، قدم خلالها للمكتبة العربية مجموعة كبيرة من المؤلفات النقدية حول أدب الكويت والأدب العربي والشخصيات العالمية وتجاوزت مؤلفاته أكثر من ثلاثين كتابًا.

وأنا أتفق تمامًا مع المنهج التأملي الرومانسي الذي لجأ إليه الناقد في تحليل قصص ليلى محمد صالح وأفضل أن أستعين بعبارة ذكرها الكاتب الفرنسي والشاعر فيكتور هوجو في مقدمته الشهيرة لمسرحية: كرومويل، حيث قال موضحًا نظرته لهذا النوع من النقد التأملي الرومانسي:

- يجب اختيار لغة جديدة تعبر عن شدة الانفعال من غير اهتمام بالتقاليد السابقة، لغة تسمو لتؤثر وتحلق لتبدع، وتسحر لتكشف، وتثير لتُدهش وتتناغم لتؤسس قيمة، وتحدد موقفًا.

تقمص وجداني

ويبدو أن علي عبدالفتاح متأثر حقًا بالعبارات الشعرية التي وظفها في النقد الفني بعيدًا عن التكلف أو الجمود أو الغموض، بل إنه تمكن من كتابة نقدية بسيطة معبّرة خالية من عقدة المصطلحات ولكن تستخدم عبارات شعرية غير عادية.

ومن الحيل النقدية التي وظفها الناقد في كتابه هذا محاولته التقمص والذوبان العميق في قصص الأديبة ليلى صالح، وهذه الطريقة يتبعها الرومانسيون في التعبير عن مشاعرهم وأحلامهم وثورتهم وأحزانهم، بحيث يمتلكون القدرة على التقمص الوجداني في نظرتهم للحياة.

وأقرر ببساطة أن هناك حالة من التقمص الوجداني بين الناقد وموضوعه الذي يكتب عنه، وهو قصص الكاتبة التي تميّزت بسمو عال في المشاعر والرومانسية الرفيعة للمرأة. وقد يشير البعض إلى غلبة القصص على ذهن الناقد أو مدى تأثر الناقد بموضوعه، ولكن هذا لا يعد عيبًا في الكتابة النقدية لأنه كلما توغل الناقد وتأثر وأسهب وانساب في حبه العميق لموضوعه، فسوف يكشف لنا عن أعماق إنسانية كبيرة وقيمة عظيمة.

وهذا ما تشعر به، بل إن الناقد قسم كتابه إلى قسمين: الأول تأملات، والثاني بحث خلف السمات الفنية. في القسم الأول كان يحلق بين ثنايا القصص بطريقته الرومانسية الشاعرية وفي القسم الثاني اتجه إلى الوقوف على المصطلح العلمي والفني في ثبات ووقار.

وعندما انتهيت من قراءة كتاب علي عبدالفتاح عن الأديبة الكويتية ليلى محمد صالح شعرت بأنه لم يكتب عنها بذاتية مفرطة، بل إنني عشت تاريخ الحياة الرومانسية للمرأة العربية وموقفها تجاه أحداث العالم والوطن، لاسيما تجربة المرأة الكويتية خلال الغزو العراقي، وكانت هناك مقارنات مبدعة مع كتابات أخرى نسائية في الكويت والعالم العربي، وقدمها الكاتب بطريقة تنسجم مع أفكار ليلى وأبطال قصصها ومن هؤلاء الكاتبات: عالية شعيب وليلى العثمان وبزة الباطني وخولة القزويني وثريا البقصمي وفاطمة يوسف العلي ومنى الشافعي، هذا إلى جانب مقارنات من الأدب العالمي أضافت رونقًا للكتابة النقدية وموضوعية وقيمًا جمالية مثيرة للقارئ.

وقبيل أن أختم مقالي هذا أود أن أطرح تساؤلي على الناقد علي عبدالفتاح، أنني لاحظت وجود عنوان خارجيّ للكتاب وهو: تأملات إبداعية وفي الداخل عنوان آخر: الفراشة عاشقة الضوء. وكنت أتمنى لو ظل العنوان الثاني على الغلاف الخارجي، ولكن يبدو أن هذا العنوان قد يثير نوعًا من الخلط بين كون الكتاب رواية أو شعرا يمكن أن يحير القارئ، ولذلك فضل الناقد العنوان الأول وهو تأملات وليته ما لجأ إلى ذلك لأن الكتاب حقًا يتحدث عن الفراشة عاشقة الضوء تلك المرأة الكويتية والعربية، التي تسعى للنور والقيم والحرية، ومن أجل ذلك قد تحترق وتهوي صريعة رومانسيتها وخيالها الجامح، وكم من النساء ذهبن ضحية أحلامهن ونضالهن الكبير.

تحية حب للكاتب الناقد علي عبدالفتاح لهذا الكتاب التأملي عن الفراشة عاشقة الضوء الأديبة ليلى محمد صالح.

 

فاضل خلف