أين كتب ابن خلدون مقدمته؟

أين كتب ابن خلدون مقدمته؟

كثيرا ما يتساءل القارئ العربي عن المكان الذي كتب فيه ابن خلدون مقدمته، إذ إن جل الدراسات الخلدونية لا تعير اهتماما للمكان الذي سجل فيه ابن خلدون أفكاره في التاريخ، كما أن الحظ لم يحالف العديد من المهتمين بالشأن الخلدوني في تحديد موقع قلعة بني سلامة. ويسعى كاتب المقال للتعريف بمكان هذه القلعة وكيف أثرت في كاتب المقدمة.

تقع قلعة بني سلامة المعروفة بتاوغزوت أو توغزوت على بعد ستة كيلومترات من مدينة فرندة بالغرب الجزائري. وهي بموقعها هذا تحتل مكانا حصينا على شكل نتوء صخري بالحافة الشرقية لهضبة بلاد سبيبة، يعرف محليا بكاف الحمام (1030م) يشرف على منخفض وادي التحت أو حوض فرندة، ومكان القلعة اليوم يوجد ضريح سيدي خالد, وتنتشر عدة مغارات تعرف بموقع ترنانش الذي توجد به نقوش صخرية. تشهد على أنه كان موطنا مفضلا للسكن منذ فجر التاريخ، وغير بعيد عنها في الناحية الشرقية يوجد موقع أريرة (Arira) المعروف محليا بخربة سبيبة، حيث توجد آثار رومانية, منها بقايا حصن صغير ومعالم حمامات وخزانات ماء، كانت تشكل في القرن الثالث الميلادي إحدى النقاط الحصينة في خط الدفاع الروماني المعروف بالليمس (Limes).

إن هذا الموقع الذي تتميز به قلعة بني سلامة جعلها موطن استقرار بشري في مواجهة قبائل الرحل المنتشرة في السهوب العليا الوهرانية، فهي منطقة انتقال بين مجال الزراعة ونطاق الرعي، ونقطة اتصال بين نمط حياة الاستقرار وأسلوب حياة البداوة، اللذين كان لهما حضور في نظرة ابن خلدون عن نوعية النشاط الاقتصادي، والعلاقات الاجتماعية القائمة على مبدأ العصبية، والناتجة عن تبادل المصالح بين المزارعين والبدو، وبين رؤساء العشائر والحكام المحليين.

لقد كان موقع قلعة بني سلامة (تَاوَغْزُوت) منذ الفتح الإسلامي موطن تجمع لإحدى بطون زناتة، التي كانت في معزل عن الصراع المذهبي والنزاع القبلي بين زعماء زناتة ورؤساء صنهاجة، والذي تحول إلى مواجهة حربية شهدتها بلاد المغرب من أجل الاستحواذ على مناطق النفوذ, عقب سقوط الدولة الرستمية بتاهرت (296 هـ / 908م) وتحدي الفاطميين في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) لنفوذ الخلافة الأموية بالأندلس، المعتمد على مناصرة زعماء القبائل الزناتية بالغرب الجزائري. بعدها تحولت قلعة بني سلامة أثناء حكم المرابطين ثم الموحدين للمغرب الأوسط (القرنان 5 و 6 هـ) إلى ملجأ لبعض عشائر زناتة. ولعل هذا ما أبقى تاوغزوت - قلعة بني سلامة فيما بعد - بعيدة عن اهتمام المؤرخين والرحالة والجغرافيين, الذين كتبوا عن المغرب الأوسط، فلا نجد لها ذكرا في كتبهم، ولم تعرف أخبارها إلا مع استقرار القبائل الهلالية بمناطق السهوب الوهرانية، وسعي الحكام الزيانيين بتلمسان لاستمالتها والاستعانة بها في صراعهم المرير مع الحفصيين بتونس وبجاية، والحكام المرينيين بفاس ومراكش في القرن السابع الهجري، الثالث عشرالميلادي.

وأثناء ذلك أصبحت تاوغزوت ومنطقتها موطنا لقبيلة توجين المرتبطة بالولاء مع عشائر سويد الهلالية، الأمر الذي سمح لبعض العرب المنقطعين من سويد بالتوجه إليها، واتخاذها رباطا يقيمون به قبل أن يتمكن رجال بني يدللتن من توجين من امتلاكها، وهذا ما شجع زعيمهم الشيخ سلامة بن نصر بن سلطان على أن يتخذها مقرا له بعد أن اختط بها قلعة لتكون سكنا له فنسبت له وأصبحت تعرف بقلعة بني سلامة.

تحولت قلعة بني سلامة إلى سلطة ونزمار بن عريف بعد أن اقتطعها له السلطان المريني أبو عنان عند استيلائه على المغرب الأوسط، ومحاصرته لمدينة تلمسان (753 هـ / 1352م)، فاعتنى بها ابنه أبو بكر بن عريف، وبنى بها قصره الذي نزل به ابن خلدون، ولم تبق من آثار هذا القصر اليوم سوى بعض الكتل من الحجارة المتناثرة، بعد أن تهدم وهجره سكانه إثر سقوط الدولة الزيانية (أواسط القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي)، واشتداد الصراع القبلي على المراعي ونقاط المياه، ولم يعد يدل على قلعة بني سلامة سوى الاسم المحلي الذي أصبحت تعرف به وهو «تابراجت» التي تعني الأبراج باللهجة الزناتية، كما لم تبق من ذكريات إقامة ابن خلدون سوى بعض المغارات المشرفة على الحافة الصخرية، التي تعلو وادي التحت، والتي تذهب بعض الروايات الشفوية لسكان المنطقة إلى أنها كانت مكان خلوة ابن خلدون المفضلة، أثناء إقامته بقلعة بني سلامة، كما غدت اليوم المكان المفضل للزوار الذين يريدون التعرف على موقع قلعة بني سلامة.

حياة مضطربة

لقد عرف ابن خلدون قبل إقامته بقلعة بني سلامة حياة مضطربة اشتغل خلالها بالوظيف، وعاش حياة الترف ببلاطات حكام بجاية وتلمسان وفاس وغرناطة، كما خبر فيها محنة السجن وتنكر الأصدقاء. فقد بدأت رحلته في الحياة، التي انتهت به إلى قلعة بني سلامة، عند مغادرته لموطنه تونس ( 755 هـ/ 1354م)، مدفوعا بفورة الفتوة وطموح الشباب، فنزل تبسة، ثم حط رحاله ببسكرة وأسند إليه وظيف الحجابة لحاكم بجاية, وحاز منزلة مفضلة ببلاط الزيانيين بتلمسان, وحاشية السلاطين المرينيين بفاس.

واظب ابن خلدون على حضور مجالس العلماء والتمرس على شئون الحكم منذ شبابه الباكر، وهذا ما ساعده على استكمال ثقافته ونضج شخصيته وسمح له باكتساب الخبرة في تصريف شئون الحياة. ومع تقدمه في السن لم يعد ينجذب إلى بريق السلطة ويتعلق بأبهة المناصب، واشمأزت نفسه من ظروف عصره المضطرب وواقع مجتمعه المغاربي، وداخله اليأس بعد أن تراجعت الحياة الحضرية بأقطار المغرب أمام اجتياح البداوة للمناطق الزراعية وتحول شرائح واسعة من سكان المدن إلى حياة التصوف، في وقت كان فيه الحكام يتهافتون على تبوؤ المناصب الحكومية، على الرغم من فشلهم في وضع حد لحالة الفوضى والاضطراب, وعجزهم عن الوقوف في وجه رؤساء العشائر الهلالية, وزعماء القبائل الزناتية.

كل هذه الظروف جعلت عبد الرحمن بن خلدون يحن إلى حلقات الدرس ويميل إلى الانعزال عن شواغل الوظيف والانقطاع للتفكير والعبادة والانغماس في الكتابة، فأصبح هذا الميل قناعة راسخة لديه إثر أن توترت علاقته مع صديقه لسان الدين بن الخطيب، وبعد أن اضطر إلى مغادرة الأندلس للمرة الأولى تجنبا للحساد ( 766 هـ/ 1364م)، ثم للمرة الثانية بتدخل من رجال البلاط المريني ( 776هـ/ 1374م)، فحط رحاله في الأولى ببجاية، وفي الثانية نزل ميناء هنين بالغرب الجزائري، وهو متخوف من بطش سلطان تلمسان الزياني أبي حمو.

اطمأن ابن خلدون بعد أن التحقت به أسرته, قادمة من فاس مع حلول عيد الفطر ( 776هـ/ 1374م). لكنه لم يهنأ بمقر إقامته بالعباد قرب تلمسان، فقد استدعاه مجددا السلطان أبو حمو للقيام بأمر الوساطة بينه وبين قبائل الذواودة لتوثيق التحالف معها في صراعه مع الحفصيين، فلم يجد بدا من تلبية الطلب، ردا للجميل ودفعا لغائلة رجال الدولة الزيانية.

التحق ابن خلدون بعد مغادرته تلمسان بالبطحاء (غليزان الحالية)، ومنها عدل عن السير إلى مواطن الذواودة بالشرق الجزائري، وتوجه جنوبا بعيدا عن تلمسان حيث أحياء أولاد عريف جنوب جبل كزول غرب تاهرت، فلقي الترحاب ووجد المساندة لدى شيوخ أولاد عريف الذين توسطوا له لدى السلطان أبي حمو حتى يصرف النظر عنه ويسمح بالتحاق أسرته التي تركها بتلمسان، فلم تمض أيام معدودة حتى التأم شمل أسرته مجددا وتوافرت له أسباب الراحة والهدوء بقلعة بني سلامة، وقد سجل ابن خلدون ذلك قائلا: «فالتحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول، فتلقوني بالتحفي والكرامة، وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا علي أهلي وولدي بتلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته, وأنزلوني بأهلي في قلعة بني سلامة من بلاد توجين التي صارت لهم بإقطاع السلطان».

خمس سنوات من العمل

طابت إقامة ابن خلدون بقصر قلعة بني سلامة الذي وصفه بأنه: «من أحفل المساكن وأوثقها»، فأقام به خمس سنوات متواصلة ( 776 - 780 هـ/ 1374 - 1378 م) يستعرض تجاربه ويتأمل واقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمغرب الإسلامي، فأمعن نظره في العلل المتحكمة في العلاقات الاجتماعية وأسلوب الحياة وطريقة العيش، وسجل ما انتهى إليه من آراء على اعتبارها مقدمة لما كان يعتزم الكتابة عنه من تاريخ المغرب الإسلامي.

حرص ابن خلدون بعد أن أنهى كتابة مقدمته - في السنة الرابعة من إقامته بقلعة بني سلامة (منتصف عام 779 هـ/ 1377م) - على تصحيحها وتهذيبها، فواجهته مشكلة المصادر والمراجع، ومالت نفسه إلى الخروج من عزلته وإلى تجديد الصلة بالمناخ العلمي والحياة الاجتماعية، وهزه الحنين إلى زيارة مسقط رأسه ومرتع صباه مدينة تونس، فهيأ نفسه للرحيل متعللا بأن الأوراق التي اصطحبها معه إلى قلعة بني سلامة لم تعد كافية لكتابة تاريخه، وقد وصف حالته هذه في سيرته بقوله: «وتشوقت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت الكثير من حفظي وأردت التنقيح والتصحيح». لكن المرض يفاجئه ويضطره إلى قضاء السنة الخامسة طريح الفراش يعاني الآلام التي اشتدت به وكادت أن تقضي عليه، وهذا ما عبر عنه بهذه العبارة: «ثم طرقني مرض أودى على الثنية، لولا تدارك من لطف الله».

وما إن تعافى ابن خلدون من مرضه حتى جهز نفسه للسفر مع أسرته إلى مسقط رأسه مدينة تونس، بعد أن تلقى جوابا من السلطان الحفصي أبي العباس أحمد ( 772 - 796 هـ/ 1370 - 1394 /م) يستحثه على القدوم ويرحب بوفادته عليه. وكان ابن خلدون قد راسله في شأن قدومه إلى تونس، وعلل ذلك بقوله: «فوجدت ميلا إلى مراجعة السلطان أبي العباس في الرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي وسالفهم وآثارهم وقبورهم، فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة، وانتظرت غير بعيد، وإذا خطابه وعهود بالأمان والاستحثاث للقدوم».

غادر ابن خلدون مواطن أولاد عريف بقلعة بني سلامة مع حلول شهر رجب من سنة 780 هـ/ 1378م، فالتحق بعشيرة الأخضر، أحد بطون قبيلة رياح أثناء قدومهم إلى منداس للتزود بالحبوب، وصاحبهم في عودتهم إلى مواطنهم بالدوسن من أرض الزاب، وهذا ما سجله بقوله: «فكان الخفوف للرحلة فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الأخضر رياح كانوا هناك ينتجعون الميرة بمنداس، وارتحلنا وسلكنا المقفر إلى الدوسن من أطراف الزاب». وبعد هذه الرحلة الطويلة نزل ابن خلدون بمضارب الشيخ يعقوب بن علي بالقرفار من أرض الزاب، ومنها انتقل إلى قسنطينة، حيث مكث بعض الوقت عند أميرها الحفصي إبراهيم بن أبي العباس الحفصي الذي كفل له أسرته أثناء توجهه إلى تونس.

لم يطب المقام لابن خلدون بمدينة تونس، فقد تخوف منه رجال حاشية السلطان الحفصي أبي العباس أحمد، وعمل بعض رجال الحاشية على الكيد له وأظهروه لدى السلطان على أنه رجل داهية ومصدر دسائس ومؤامرات، فلم يجد عبدالرحمن بن خلدون بدا والحالة هذه من مغادرة مسقط رأسه متحججا لدى السلطان بأداء فريضة الحج، وأبحر من ميناء تونس نحو الإسكندرية على ظهر إحدى سفن الحجاج ليصلها بعد خمسة وثلاثين يوما في البحر يوم 8 ديسمبر 1382 م (784 هـ).

لقد طوى ابن خلدون برحيله من بلاد المغرب واستقراره بالقاهرة صفحة مضطربة من حياته بأقطار المغرب عرف فيها أيام عزه وكانت مصدر إلهامه، لتتحول بقية سنوات عمره في دار الهجرة بمصر إلى حياة أحد رجال العلم الذين كانت تعج بهم مصر المملوكية، ولم يعد يربطه ببلاد المغرب سوى ذكريات انقضت وآمال انطوت وطموحات خبت حاول الاشتغال بالتدريس وامتهن وظيفة القضاء، فتولى قضاء المالكية بالقاهرة خمس مرات، وأدى فريضة الحج، وأصبح من رجال الدولة المملوكية المقربين، فصاحب السلطان برقوق ( 784 - 801 هـ) عند خروجه إلى دمشق أثناء تعرضها لهجوم تيمورلنك سنة 803 هـ/ 1400م، فكانت له مقابلة مشهورة مع هذا الفاتح العظيم الذي قدر في ابن خلدون مواهبه وحسن تصرفه ورغبه في الانتقال معه إلى سمرقند، لكن ابن خلدون أحسن التملص من عرض تيمورلنك ليعود إلى القاهرة، حيث وافته المنية سنة 808 هـ/ 1406 م عن سن تناهز الخامسة والسبعين عاما.

ثلاثة عوامل مهمة

لقد احتل ابن خلدون مكانة مرموقة في سجل التاريخ بعلمه وأفكاره، وأبقى ذكراه حية لدى الأجيال ومكانته محفوظة في سجل التراث الفكري العربي بما سجله من آراء ومفاهيم تاريخية ضمنها مقدمته، فأتى فيها بشيء جديد لم يسبقه إليه الكتاب السابقون ولم يحسن تقليده الكتاب المتأخرون، وهذا ما تنبه إليه ابن خلدون وأشار إليه بهذه العبارة: «وشرعت تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها - أي قلعة بني سلامة - وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها».

إن الآراء الجديدة والمنهج المبتكر الذي أخذ به ابن خلدون في مقدمته والذي تميز به عن غيره من العلماء الذين سبقوه أو الذين أتوا بعده، يعود في نظرنا إلى تفاعل ثلاثة عوامل قلما اجتمعت لغيره من ذوي المعرفة، أولها يتعلق بثقافة ابن خلدون نفسه والتي تعتبر بحق حصيلة التراكم المعرفي لعصره والعطاء العلمي لبيئته بأصالتها المشرقية وحيويتها الأندلسية وعمقها المغاربي، وهذا ما يجعل من ابن خلدون النموذج المعبر عن الحضارة العربية الإسلامية بالمغرب في فترة بلغت فيها أوجها على عهد الموحدين وبدأت في التراجع والجمود، بعد أن انقسمت بلاد المغرب إلى الدول الإقليمية التي حكمت من بعد انقسام دولة الموحدين ( 668 هـ / 1269م). ففي هذا الوقت الذي أعقب العصر الذهبي للثقافة المغاربية والذي عاش فيه ابن خلدون تم جمع التراث العربي الإسلامي بالمغرب، وتمت المحافظة عليه بفضل حلقات الدروس ومجالس العلم بتونس وبجاية وتلمسان وفاس ومراكش وغرناطة، هذه الحلقات التي ظلت لفترة طويلة منارات علم ومعرفة وأماكن إسهام وعطاء للثقافة العربية الإسلامية ببلاد المغرب.

أما العامل الثاني فهو حنكة ابن خلدون وخبرته بأمور الحياة وتجربته العملية في ممارسة الوظائف السلطانية والقيام بالمهام الإدارية ببجاية وتلمسان وفاس، وهذا ما جعله يتجاوز الرؤية المحدودة والنظرة القاصرة والموقف الذاتي في فهمه لواقع الحياة وتحليله للظواهر الاجتماعية المتحكمة في المجتمع المغاربي، والتي أحسن التعبير عنها بمصطلح «الاجتماع الإنساني». فقد أكسبته خدمته لحكام بجاية وتلمسان وتعامله مع حكام فاس وغرناطة وارتباطه بصداقة عميقة مع شيوخ القبائل العربية بالمغرب الأوسط من بني مزني ببسكرة، وحتى أولاد عريف بقلعة بني سلامة خبرة وتجربة كانت نعم العون له في تحديد علل الأحداث التاريخية وفهم تطور المجتمع.

ويتمثل العامل الثالث في تأثر ابن خلدون بالبيئة المغاربية وخاصة منها الشروط الطبيعية والواقع البشري السائد بالمغرب الأوسط (الجزائر)، فكان لهذا الوسط تأثير على مزاجه الشخصي وعلى توجهاته الفكرية. ومما يؤكد الحضور الجزائري في فكر وعطاء ابن خلدون كون جل الأحداث المهمة التي عاشها في حياته قبل هجرته إلى المشرق ارتبطت بالبلاد الجزائرية منذ قدومه إلى تبسة عام 755 هـ/ 1354 م وحتى مغادرته قسنطينة سنة 780 هـ/ 1378م، وأن أغلب ملاحظاته عن المجتمع والسلطة والاقتصاد استقاها من واقع الحياة في المغرب الأوسط (الجزائر)، فلاحظ في هذه البيئة تباين أسلوب العيش واختلاف السلوك والمعاملة بين سكان الحواضر وخاصة بجاية وتلمسان وقسنطينة، وبين أهالي الريف بالمناطق الساحلية، حيث ظل أغلب السكان يشتغلون بالزراعة، وبين العشائر البدوية بالهضاب العليا وأطراف الصحراء, فلمس في هؤلاء البدو الغلظة التي أوقعته في مشاكل معهم حيث تعرض للتعنيف والضرب في سوق بسكرة وجرد من ملابسه ونهب متاعه عندما كان متوجها من مدينة تلمسان نحو فاس، كما عرف فيهم الشهامة والأريحية والإخلاص، فطابت إقامته لدى شيوخ بني مزني بالزيبان ورياح وأولاد عريف بقلعة بني سلامة.

إن العوامل التي سبقت الإشارة إليها تؤكد لنا أهمية دراسة التوجهات الفكرية الخلدونية انطلاقا من رصيد ثقافة ابن خلدون وحصيلة خبرته وتأثير بيئته، بحيث لا نكتفي بعرض الأحداث في سياقها التاريخي، ومناقشة الأفكار والمفاهيم في إطارها النظري فقط، كما هو ملاحظ اليوم في أغلب الدراسات المتعلقة بابن خلدون والتي يكاد يقتصر اهتمامها على العرض التاريخي والتعليق النظري، بعيدا عن تحليل الدوافع النفسية والظروف المعيشية والثقافية التي كانت سائدة في حواضر المغرب العربي. وهذا ما تسبب في القصور الملاحظ في تعاملنا وفهمنا للنظريات الخلدونية، فأصبحت نظرتنا لهذا الفكر - لسوء الحظ - لا تتجاوز المعطيات النظرية بعيدا عن الظروف التاريخية التي أفرزتها، وفي معزل عن البيئة التي أوجدتها، على الرغم من كون الفكر الخلدوني - كما عبرت عنه المقدمة - إسهاما إنسانيا خالدا يعكس خبرة ومعرفة بواقع المجتمعات الحضرية والبدوية بالمغرب الإسلامي.

منطق الفكر الخلدوني

وفي هذا الصدد لا يفوتنا أن نلاحظ أن منطلق الفكر الخلدوني والإطار المحدد لنظريته في مجال علوم التاريخ والاجتماع والسياسة يكمن في دراسة مجتمع المغرب الأوسط وتحليل الواقع الذي عاشه ابن خلدون بقلعة بني سلامة لكونها المختبر الذي رصد فيه ملاحظاته، انطلاقا من الشروط الطبيعية ومتطلبات الحياة اليومية القائم على جدلية الصراع بين نمط الاستقرار وممارسة الزراعة، وبين أسلوب البداوة ومزاولة الرعي.

لقد كانت منطقة قلعة بني سلامة البيئة المثالية لتشكل العصبية القبلية القائمة، الساعية لاكتساب النفوذ وحيازة الثروة، وهذا ما جعل ابن خلدون يقتنع بأن ممارسة السلطة أساسها قوة العصبية سواء بالنسبة لشيوخ العشائر العربية أو زعماء القبائل الزناتية، أو حكام تلمسان الزيانية، ما دامت شروط البيئة وطبيعة العلاقات الاجتماعية هي التي تفرض رابطة العصبية، وتحدد موازين القوى بين الحاكم والمحكوم، وبين الممارسة الفعلية للسلطة والسعي الحثيث للحصول عليها.

ولعل هذا ما جعل قلعة بني سلامة مقصد المستشرق الفرنسي أوجستن بيرك وابنه جاك بيرك، اللذين وقفا بها مرارا متسائلين عن مدى ارتباط موقعها بخصوصية الفكر الخلدوني وتأثيرها على ملاحظات ابن خلدون حول العلاقة بين حياة الاستقرار والبداوة، لأن قلعة بني سلامة- من حيث شروط النظر الجغرافية والاجتماعية- تمثل البيئة المثالية لتفاعل أسلوبين مختلفين، من حيث نمط العيش وطريقة الحياة، فالفلاحون بالجهات الواقعة إلى الشمال منها كانوا في مواجهة زحف القبائل الهلالية والعشائر الزناتية القادمة من السهوب الواقعة إلى الجنوب، للاستحواذ على المزيد من المراعي الخصبة الواقعة في الشمال، حيث تشكلت الأحلاف القبلية في مواجهة نفوذ حكام تلمسان.

وفي ختام هذه الكلمة لا يفوتنا أن نلاحظ أن ابن خلدون ما كان في استطاعته أن يكتب مقدمته لولا رجوعه لنفسه وانقطاعه للتأمل في قلعة بني سلامة بأرض المغرب الأوسط (الجزائر). وهذا ما يجعل المقدمة بحق حصيلة الثقافة التي اكتسبها، والتجارب التي عاشها والمجتمع الذي تأثر به، فظلت إنجازا متميزا لم يرق ابن خلدون إلى مستواه فيما سجله من أحداث في تاريخه (كتاب العبر)، بعد أن افتقد برحيله من قلعة بني سلامة الهدوء العقلي والحافز النفسي ؛ ولعل هذا ما يفسر التباين بين المقدمة وكتاب العبر، فالمقدمة تتميز بوضوح النظرة والعمق والسمو في طرح قضايا التاريخ، بينما كتاب العبر يغلب عليه العرض والوصف والرواية.

كُفِّي الملامَ وعلليني فالشكُ أودى باليقينِ
وتناهبت كَبِدي الشجون فمن مُجِيري؟ مِن شجوني
وأمضَّنِي الداءُ العياءُ فمن مغيثيي؟ مَنْ مُعِيني؟


فهد العسكر

 

ناصر الدين سعيدوني