الثقافة في الكويت

الثقافة في الكويت

يغوص الشاعر والأديب الدكتور خليفة الوقيان عميقًا في تاريخ الكويت، ليستخرج منه لآلئ وأصدافًا ينثرها في صفحات أحد أهم الكتب التي صدرت في الكويت خلال السنوات الأخيرة، ويحمل عنوان «الثقافة في الكويت»، والذي يكشف فيه عن الجذور والبدايات الأولى لمسيرة الثقافة الكويتية، مستعينًا بكمّ كبير من المراجع والشخوص الذين عايشوا أو دونوا تلك الفترة.

عند قراءة الكتاب، سرعان ما نستشف أهمية الفرد في صنع ثقافة وطن ينتمي إليه، مؤديا دورا فاعلا بالتأثير والرصد لأحداث ماضية بنى عليها حاضر ومستقبل أمة. ففي بقعة جغرافية صغيرة، متواضعة الموارد، استقرت جماعات بشرية نزح بعضها من مناطق حضرية تزخر بالضالعين في علوم الدين والدنيا، وآخرون من ذوي حرف وصناعات كانوا متمرسين بعلوم الفلك والملاحة. مكونين مزيجا بشريا متنوعا يحمل أفكارًا ثقافية وأساليب حياتية مختلفة كان لها أثرها على السكان الذين تقبلوا الجديد وتعايشوا معه، سواء كان نتيجة لاحتكاك الكويتيين بالنازحين الجدد أو لعملهم الذي يتطلب السفر الدائم، متأثرين بثقافات أثرت في انشطتهم الثقافية والاجتماعية فيما بعد وكونت لهم قاعدة يتجذرون منها وينطلقون من خلالها إلى رحاب ثقافية واسعة. وكان هذا الأمر كفيلا لاندفاع الكويتيين لنهل العلم من منابعه، فمنذ القرن 18 والكويت تحتضن عددًا من الرحالة والأدباء ودعاة الإصلاح الذين مروا عليها أثناء رحلاتهم منهم الرحالة السوري «مرتضى بن علون»، كما اتجهوا إلى مصر والهند والعراق الدول التي كانت تزخر بالمنابر الإعلامية والثقافية آنذاك، مؤسسين طبقة مثقفة كويتية وخبرات متعلمة لها ثقل لا يستهان به في وقت تكاد تخلو دول الجوار منهم. حتى على صعيد الحكم وأمور الدولة، فقد حققت هذه الطبقة دورًا في فرض نظام سياسي حاكم مغاير عما هو سائد في منطقة الخليج، قائم على الشورى مناسب لتوجهاتهم وضامن لحقوقهم قبل واجباتهم. إن هذا الوعي الثقافي الوليد، كان له أثر بالغ في ترجمة الجانب الفكري للمجتمع الكويتي في مراحل مبكرة جدا، يمكن تتبعها من خلال ما قدمه الدكتور الوقيان من رصد متدرج تمثل في:

- تأليف الكتب: سبقه نسخ المخطوطات، والتي تعود إلى القرن 18، أما تأليف الكتب فقد غلبت مواضيع علوم الدين والملاحة على المؤلفات، ومن أهم الإنتاجات (تاريخ الكويت) للشيخ عبدالعزير الرشيد الذي يعد من أهم المراجع للمهتمين بتاريخ الكويت.

- الصحافة: في هذا الجانب، يتضح الدور النشط للشيخ عبدالعزيز الرشيد (رائد الصحافة الكويتية) لمحاولاته الدءوب لإصدار صحف محلية، فهو أول من أصدر مجلة باسم «مجلة الكويت» عام 1928، وتكررت محاولاته عدة مرات، كما كان للتوجهات الفكرية صحفها، فالاتجاة الإسلامي تمثل في (مجلة الإرشاد)، والاتجاة القومي في (مجلة الإيمان).

- المؤسسات الثقافية الأهلية: في ذكرها يتبين الوعي الثقافي المبكر بدور المجتمع المدني الذي اجتاح الكويتيين، فقد اعتمدوا على الجهود الفردية والتبرعات لإحياء منابر ثقافية فانشأ فرحان الخالد الجمعية الخيرية العربية عام 1913، أما المكتبة الأهلية فقد أنشئت في أحد الدكاكين التي تبرعت بها السيدة شاهه الصقر عام 1922. وتزامن ذلك مع انشاء المكتبات الخاصة مثل مكتبة الرويح التي لاتزال قائمة حتى الآن.

- المنتديات الأدبية: تعتبر الديوانيات الثقافية أهمها، وأكثرها شيوعا حتى الآن، فهي تجسد الرأي العام، ومنها تنطلق أفكار تحدد ملامح المستقبل، فمن ديوان ناصر البدر تعالت الأصوات المطالبة بإنشاء مجلس الشورى الكويتي عام 1921، ومن ديوان محمد الجوعان بإنشاء النادي الأدبي 1924. كما عرفت بعض الديوانيات باستضافتها رموزًا ثقافية تعكس توجهات روادها الفكرية، فمثلا اعتادت ديوانية السيد خلف النقيب على استضافة الأدباء المستنيرين، ولايزال للديوانيات في الكويت دور كبير في الرصد والتشريع.

- المطابع: أغلب المحاولات كانت جهودًا فردية، بدأت بمطبعة السيد عمر عاصم، ومحاولات خالد الفرج في إنشائه للمطبعة العمومية أثناء فترة إقامته في الهند مابين 1917 و 1922، حتى عام 1958 حيث أنشئت مطبعة الحكومة.

- التوجهات الفكرية تشع في الأجواء الديمقراطية: بعد عرض المؤلف للأجواء الثقافية التي سادت الكويت منذ نشأتها، قدم مايمكن تسميته بتصنيف فكري لأبرز التيارات التي استمالت فئات المجتمع الكويتي، مستعينا بقصائد وأشعار كانت خير شاهد في تصوير الوضع الراهن في تلك الفترة، وقد نلاحظ أن هذه التيارات لاتزال مسيطرة ولكن بنسب متفاوتة عما كانت عليه في بداية ظهورها، وتندرج تحت:

- التيار الإصلاحي:

ياشيخنا أن الكويت لتشتكي من جور أفراد من الإخوان
جعلوا التفرق دأبهم فيها فماراموا سوى التخريب للأوطان


هذان البيتان للشاعر ناصر آل الغانم لخصا أسباب ظهور التيار الإصلاحي في الكويت، التي عاش أهلها منذ عقود متدينين بالفطرة، الا أن لكل عقيدة أناسًا يميلون إلى التطرف، وهذا ما عانى منه الكويتييون حين ظهرت بعض الدعاوى السلفية، الأمر الذي يتعارض وطبيعة المجتمع الكويتي القائم على التسامح والتعايش مع معتقدات الغير والتي اكتسبها من العقيدة الإسلامية، فما كان عليهم إلا مواجهة هذا التطرف بتيار شمل أغلبية الكويتيين آنذاك، وهو التيار الإصلاحي مستعينين بما يمكن تسميته بالمواجهة السلمية الفكرية حيث تصدت قصائد الكويتيين لاستنكار كل ما هو مستجد على المجتمع الكويتي، خاصة بعد أن حارب علماء التطرف رموز العلم في الكويت، مطلقين الأحكام التكفيرية ضدهم، وعلى سبيل المثال تكفير الشيخ عبدالعزيز العلجي للشيخ يوسف بن عيسى القناعي، الأمر الذي دفع بالعديد من المثقفين الى مغادرة الكويت مؤقتا مستعينين بالصحف والنوادي الأدبية العربية للتعبير عن آرائهم في رفض التعصب الديني، وهو الأمر ذاته الذي لجأ إليه من بقي في الكويت وهم من حافظوا على غلبة التوجه الإصلاحي في الداخل مستعينين بالشعراء، وكذلك بالأدباء من أمثال عبدالعزيز الرشيد الذي لم يوقف قلمه عن كتابة بعض الرسائل التي تحاكي عقلية هؤلاء المتعصبين، ومن امثلة هذة الرسائل محاورة اصلاحية 1923. ويذكر أن الشيخ مساعد العازمي وهو أحد أبرز علماء الكويت، كان من أشد المعرضين للتيار الديني المتطرف الذي ساد في شبه الجزيرة العربية، فمن خلال تنقله بين دول الخليج لمكافحة مرض الجدري واجه تساؤلات من إمارات الخليج حول مدى تقبل الكويت حاكما ومحكوما للفكر الديني المتشدد معلنا صراحة بأن « الشيخ يرى فيه رأي قومه لا أكثر».

- التيار المحافظ: اذا كان التوجه الإصلاحي المنفتح يمثل غالبية الكويتين فإن التيار المحافظ يمثل البقية التي مثلها علماء دين أغلبهم تلقوا علومهم في دول إسلامية متشددة، إلا أنه يمكن التأكيد على أن درجة التعصب والتطرف في الكويت لم تصل إلى حد الغلو، وذلك لسيادة فكر فطري لدى الشعب عامة قائم على الانفتاح والوسطية، وإذا أردنا الاستشهاد بمن صنف بهذا التيار يمكن اعتبار الشيخ عبدالعزيز العلجي من أبرزهم إلا أن أفكاره كما ذكر د.الوقيان كانت مناسبه للأحساء أكثر منها للكويت، أخذ هذا التيار على عاتقه محاربة كل ما هو جديد على المجتمع بدءا من محاربة التعليم حتى إصدار الصحف وانشاء المطابع، ولم يقتصر هذا الأمر على الكويت بل إن هذا التفكير المحدود كان في مصر أيضًا.

- التيار الديمقراطي: بعد تأسيس الكويت كدولة ذات سيادة واختيار حاكم لها مع تحديد لسلطاته وصلاحياته، حدث ما عكر صفو المسيرة الديمقراطية الفطرية، فقد قام الشيخ مبارك الصباح (1896 - 1915) بتقليص مواسم الغوص الذي يعد المورد الاقتصادي الرئيسي للمواطنين وما صاحبه من فرض جزية - ضرائب - لم يعتادوها من قبل، إضافة إلى إبرام اتفاقية الحماية مع بريطانيا - بغض النظر عن رؤيته السياسية المستقبلية- في الوقت الذي كان فيه الكويتون يناضلون ماديا ومعنويا مع الشعوب العربية ضد المستعمر البريطاني، ويصف الشاعر عبداللطيف النصف الأوضاع السائدة في قصيدة قائلا:

ياللكويت وما ألم بشعبها فلقد رمته فأقصدته رماته
أسفي وهل يجدى عليه تأسفي شيئًا ولو قرنت به حسراته


وكان لهذه السياسات المخالفة لطبيعة المجتمع الكويتي، انعكاساتها على الكتاب والمثقفين فقد اتخذوا موقفا منها، فمنهم من غادر الكويت كنوع من الاحتجاج، ومنهم من لجأ إلى الكتابة في صحف بلدان عربية مثل مصر والعراق للتعبير عن امتعاضهم من سياسات لم يعتادوها وقوبلوا بالترحيب والتشجيع، كما لجأ من هم بالداخل ومن خلال الديوانيات الى المعارضة الصريحة للوضع القائم، فكوّن هؤلاء الرافضون للقرارات الفردية الاتجاه الديمقراطي المعارض لما يخالف توجهاتهم الفكرية التي أسسوها، وكان الانتصار الاول لهم في عهد الشيخ سالم المبارك عام 1921 مع تأسيس مجلس استشاري يحول دون تفرد الحاكم بالسلطة، إلا أن وفاته عرقلت إنشاءه ووسعت المطالبات الشعبية فيما يخص المشاركة السياسية، فكان المجلس البلدي في الثلاثينات ومن ثم اقامة مجلس الامة التشريعي عام 1938 وإقرار دستور للكويت تنطلق مادته الأولى لتؤكد أن « الأمة مصدر السلطات».

دعم الفكر الحر

من التوجه الديمقراطي في الكويت ومن مثله خلال عدة عقود يمكن القول إن هناك قوى ميزت الفكر الكويتي وكانت الداعم الأساسي له في رفض مايناقضه ومن أهمها اتباع الحلول السلمية بما فيها من مطالبات شفوية في الديوانيات والتجمعات داخل الكويت وخارجها، آراء مكتوبة صدحت في الصحف العربية والمحلية ترفض وتشجب أي تفرد سيادي، ولا يمكن إغفال الثقل الاقتصادي للأسر البارزة في الكويت التي كان ولازال لها دور بارز في الحياة السياسية.

- الاتجاه القومي: نشأ الكويتيون على أن يكونوا دوما امتدادًا للوطن العربي جغرافيا وفكريا، متفاعلين مع قضاياه، متعايشين مع همومه وآلامه، حتى بمعاناته ضد المستعمر أنوا معه وتألموا، ويمكن القول إن أغلبية الكويتيين هم قوميون بالفطرة. فقد انتظم المطالبون بالوحدة العربية من المحيط الى الخليج في التيار القومي، ففي المغرب دعموا ثورة الريف وأسدها عبدالكريم الخطابي، مشحونين بأقوال المـــناضل التونسي عبد العزيز الثعالبي، مهاجمين الاحتلال الايطالي لليبيا بكلمات عبر عنها عبدالله النوري بقوله:

قبحا لكم يابني روما فبغيكم جنيتم منه ياظلام شنآنا
سفكتم الدم عدوانا بلا سببً أيتمتم النشء طفلات وولدانا


كما اتخذوا من سعد زغلول ومصطفى كامل بمصر في مواجهة الظلم رمزا لهم، أما العمل التنظيمي القومي فقد تأطر بالكويت بكتلة الشباب الوطني عام 1938 وإن تضاربت الأقوال في أسباب نشأتها، فالجزم بالتواصل العربي مع سورية والعراق أفرز شبابًا مثقفًا من أمثال عبدالله الصقر وعبداللطيف الغانم متحمسًا للعمل النضالي القومي. هذا بالإضافة إلى تبني الكويتيين للقضية الفلسطينية منذ وعد بلفور حتى يومنا الحاضر، ففي عشرينيات القرن العشرين حظيت القضية بالدعم المادي من تبرعات مالية وتهريب أسلحة للمقاومة الفلسطينية، ومن الدعم المعنوي في استقبال أفواج من ابناء الشعب الفلسطيني والتغني بروح المقاومة والمواجهة لديهم، فقد كان للكويتيين عامة ولأصحاب هذا التيار خاصة وعي مبكر بأهمية التعاضد العربي لمواجهة محاولات التفريق والتشرذم.

من رموز العطاء اللامحدود

يختتم د. الوقيان كتابه بعرض لرواد الحركة الثقافية في الكويت منذ نشأتها في مختلف مجالات الإبداع ومنها: - الشعر: سيطرة بعض الافكار الرجعية آنذاك ساهم في فقدان كم هائل من الأشعار وإهمال لشعراء كان لهم ثقلهم الأدبي، ويعتبر عثمان بن سند (1766 - 1827) أبرز رواد الشعر الفصيح في الكويت، إلا أنه لم يصدر له ديوان، مما حال دون شهرته. وسعى المؤلف جاهدا إلى توثيق أوائل الشعراء الكويتيين إلا أن عدم استقرار بعضهم في أرض معينة وتنقلهم الدائم بين الدول المجاورة كان يحول دون تجنيسهم في دولة معينة، ومثال على هذا عثمان بن سند فقد تعددت ألقابه فمنهم من لقبه بالفيلكي وآخرون لقبوه بالبصري لشهرته هناك، في حين أن جذور أسرته تعود الى نجد.

- القصة القصيرة: تعتبر المجلات رحم القصص القصيرة، ففي مجلة الكويت نشرت أول قصة قصيرة «منيرة» - تضمنها الكتاب - للأديب خالد الفرج، مع ريادة نسائية للكاتبة ضياء هاشم البدر بقصة«نزهة فريد وليلى» في العام 1952.

- الرواية: يختلف النقاد في ريادة هذا المجال بين فرحان الفرحان عن روايته «آلام صديق» عام 1948، وعبدالله خلف في روايته «مدرسة في المرقاب» عام 1962.

- المسرح: انطلق من المسرح المدرسي، فشهدت المدرسة الأحمدية أول عرض مسرحي لمحاورة 1922، وبعد 17 عاما عرض طلاب مدرسة المباركية مسرحية «إسلام عمر».

- الموسيقى والغناء: ارتبط الغناء عند الكويتيين بالعمل، ولانفتاحهم على عدة ثقافات، نلحظ الخليط الموسيقي في الألحان والآلات، ويعد الفنان عبدالله الفرج (1836 - 1901) أول من وضع أصول الموسيقى الكويتية.

- الفنون التشكيلية: أول من اشتغل بالرسم كان عبدالله الفرج ويقول عنه أخوه آسفا على انتاجه «صور صورا عديدة، ذهبت فريسة الجهل بعد وفاته. فقد مزقت كلها لكونها حراما من المحرمات». أما معجب الدوسري فيمكن القول إنه رائد الحركة التشكيلية في الكويت، فهو أول من درس الفنون التشكيلية بصورة أكاديمية في مصر ولندن. في النهاية، فإن هذا الكتاب يؤكد أن الثقافة في الكويت ثرية بتنوعها، وأثرية بقدمها، فهي ثقافة الوجود الإنساني الذي يبنيها فكرا ويحفظها دهرا.

 

خليفة الوقيان