مساحة ود

مساحة ود

بورتريه لعم حسان..

لم أكن أعرف من الكتب غير كتب الدراسة وبطاقة التموين. لكن ذاكرتي لا تزال تحتفظ وبوضوح بكل تفاصيل بيت عمي حسان الذي عرفت على يده الكنز.أستطيع على نحو كبير أن أتكهن بكيفية حصوله على الصفقة.. كل يوم يجلس على المقهى المقابل للعمارة ممسكا بصفحة الوفيات ليبحث عن خبر وفاة كاتب أو صحفي كبير أو مثقف ثقيل الوزن، ثم ينهض فجأة ويختفي عن الأنظار. في غيبته هذه يكون قد ذهب إلى الكاتب أو المثقف الذي سقط من صفحات الأدب والثقافة في أي جريدة إلى صفحة الوفيات ليقدم لأرملته أو ورثته واجب العزاء والسلوى، وزيارة أخرى ويعود بمغانمه، مكتبات خشبية فخيمة بنية اللون ومطعمة بالأرابيسك، وزاخرة بأمهات وآباء وأطفال الكتب.

ظللت لفترة طويلة لا أجرؤ على شراء الكتب. كنت أخشى أن أموت وتباع مكتبتي بكتبي، تخلصا من آثاري.. على الرغم من أنه لم يكن لي آثار سيئة ولا جيدة على الإطلاق، وكانت أمي المرأة الطيبة تعدني للعب الدور القديم نفسه، طبقا لقوانين وأعراف الأمهات والجدات والموروث الشعبى.

لم يكن مصرحًا لي إلا بقراءة الكتب الدراسية وبعض الكتب التي تغذى وتشبع رغبة أمي في إذكاء شرارة حلمها القديم بأن أصبح زوجة وأمًا وست بيت ممتازة.

ومن أجل ألا أظل بعيدة عن ذلك الكنز كان لا بد أن تصير بنات عم حسان صديقاتي، فكن جواز المرور الذي أكسبني شرعية النظر الى الكتب وفتحها ثم استعارتها. وكنت أدهش لهؤلاء البنات اللائي لا يأبهن بذلك الكنز.

كان عم حسان يلقي بالكتب فأنحني لألتقطها بعد إيهامه بأنني سوف أساعده في التخلص منها... في نهاية اليوم كنت أخرج من شقة عم حسان وذيل فستاني ملآن بالكتب لكتُاب لم أكن قد عرفتهم بعد حتى أدرك سر تعاطفي معهم، وتحت السرير ذي الأعمدة السوداء أقمت مكتبة فخيمة بعيدا عن عيون أبي وأمي وجدتي.

ولكي أبقى على علاقتي بمكتبات عم حسان كنت أقبل بصيغ استغلالية بسيطة. كنت أجلس مع بنات عم حسان في الشرفة لقراءة وتفسير وتحليل شخصية صاحب هذه أو حبيب تلك من مشيته ونظرته وحركاته وإيماءاته. الغريب أنهن كن يتوافقن تماما مع تحليلاتي وتفسيراتي، الأمر الذي أغراهن بطلب المزيد من تحليل وتفسير وقراءة شخصيات جميع شباب الحي وكذلك بناته اللائي لم نكن نصاحبهن لأسباب خاصة.

عمق هذا في نفسي إحساسا هائلا بالثقة فدفعني دفعا إلى حضن الكتابة لأكتب أشياء أخرى أسكب فيها مللي وضجري وقسوة الوجوه المفروضة على رأسي فرضا، فإذا بي أكتب شيئا ينضح بهذه المعانى، وبالمصادفة يتماهى مع معان أخرى وبشر آخرين، ويتم نشرها بمجلة أدبية يشرف عليها أحد النقاد المرموقين وحين قابلني أخبرني هو وزوجته وهي أستاذة بالجامعة أن القصة حين وصلتهما أقاما لها «كونسولتو» من الكتاب والنقاد والأساتذة لمناقشة الفكرة والبناء القصصي والسرد والرمز وتأمل مسألة اللعب بالزمن، فذهلت أن ما كنت أسكبه على الورق مثل «نكش فراخ» أبدد به ركاما من الأحاسيس السلبية بالفقد والوحدة والتجاهل والإهمال والتهميش، لا أعرف أن نكش الفراخ هذا صار قصة بها شيء من التجريب واللعب بالزمن كما قيل لي وقتئذ، ثم صارت الكتابة شيئًا من الفضفضة عن مكنون النفس وما يصلها من حلاوات ومرارات هذا العالم. ثم صارت مع الوقت أشبه بمن يعطي تقريرًا يوميًا عن رحلة حياة قاسية جدًا وجميلة جدًا... بدأت بوجه عم حسان جارنا الذي يتاجر في الكتب.

 

نعمات البحيرى