جمال العربية

جمال العربية

اعلمْ يا طالب الأدب لعبدالله بن المقفع

بين «الأدب الصغير» و«الأدب الكبير» تكمن عبقرية ابن المقفّع أمير الكتابة النثرية في عصره وزمانه، وصاحب اللغة السهلة الممتنعة، والأسلوب الذي يكاد - لتدفقه وانسيابه - يظن قارئه أنه ينتمي إلى عصرنا وزماننا، والفكر الذي استوعب تراث العرب والعجم، متكئًا على ثقافتين: عربية وفارسية، وحكمة عميقة نافذة، صافية التأمل، قريبة المأخذ والمأتى.

وهو في «الأدب الصغير» يوجه لقارئه رسالة عامرة بالوصايا والنصائح، وكأنها موعظة جامعة، لكلّ من يشاغله طموحه إلى ارتقاء المناصب وتسنّم درجات المجد والكمال، جامعًا بين أدب الدنيا والدين، وأساليب السعي في الحياة، بحثًا عن الرفعة والسعادة.

أما رسالته في «الأدب الكبير» أو «الدرة اليتيمة» كما سمّاها المؤرخون والباحثون، فتتضمن طبقًا لما ذكره في تقديمه لها: «بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس»، مركّزا - غاية التركيز - على المشورة وكيفية التماس رضا الناس، فيما يشبه الموعظة الجامعة، ومتوقفًا عند النصح لكل من يدفعه طموحه - من الكُتاب والأدباء - إلى التقرب من السلطان، وما ينبغي له في هذه الحال من اجتناب الأصحاب غير الثقات، والحذر من الوقوع في شَرَك أصحاب المنزلة والمنصب الرفيع، متوقفا - بصفة خاصة - عند صحبة السلطان، لأنها باب لافتقاد الأمان، والتعرض لمفاجآت الأيام، وتقلّب الأمور من حالٍ إلى حال.

يقول ابن المقفع في باب أصول الأدب: «يا طالب الأدب: اعرف الأصول ثم اطلب الفصول، فإن كثيرًا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول، فلا يكون دَرَكُهُم. ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول، وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل.

فأصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة. فالزم ذلك لزوم من لا غناءَ به عنه طرفة عين، ومن يعلم أنه إن حُرمه هلك. ثم إن قدرت على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة، فهو أفضل.

وأصل الأمر في إصلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والمياه إلا خفافًا، وإن قَدرْت على أن تعمل جميع منافع الجسد ومضاره، والانتفاع بذلك، فهو أفضل.

وأصل الأمر في البأس ألا تُحدّث نفسك بالإدبار وأصحابك مقبلون على عدوهم، ثم إن قدرتَ على أن تكون أول حاملٍ وآخر منصرف، من غير تضييع للحذر، فهو أفضل.

وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق عن أهلها، ثم إن قدرت على أن تزيد ذا الحق على حقه، وتطول على من لا حق له، فهو أفضل.

وأصل الأمر في الكلام أن تَسْلَم من السقط بالتحفظ، ثم إن قدرت على بلوغ الصواب فهو أفضل.

وأصل الأمر في المعيشة ألا تني عن طلب الحلال، وأن تُحس التقدير لما تفيد وما تنفق.

ولا يغرنّك من ذلك سعة تكون فيها، فإن أعظم الناس في الدنيا خطرًا أحوجهم إلى التقدير.

ثم يقول ابن المقفع في درّته اليتيمة: الأدب الكبير: «وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة، والأمور الغامضة، التي لو حنكتك سنٌ كنت خليقا أن تعلمها إن لم تخبر عنها، ولكني أحببت أن أقدم إليك فيها قولاً لتروض نفسك على محاسنها، قبل أن تجري على عادة مساويها، فإن الإنسان تبدر إليه في شبيبته المساوي، وقد يغلب عليه ما يبدر إليه منها».

ثم يقول ابن المقفع في وصف الحذر لطالب الأدب - أي من هو بسبيله ليصبح أديبًا وكاتبًا - إذا تقلّد شيئًا من أمر السلطان وغيره: «إن ابتليت بالسلطان فتعوّذ بالعلماء. واعلم أن من العُجْب إن يُبتلى الرجل بالسلطان، فيريد أن ينقص من ساعات نَصَبه وعمله، فيزيدها في ساعات دعته وشهوته. وإنما الرأي له والحقّ عليه، أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه - قدْر ما يكون به إصلاح جسمه وتقويةٌ له على إتمام عمله. وإنما تكون الدّعة بعد الترفع.

فإذا تقلّدت شيئًا من أمر السلطان فكن فيه أحد رجلين: إما رجلاً مغتبطًا به، فحافظ عليه مخافة أن يزول عنه، وإما رجلاً كارها له، فالكاره عامل في سخرة: إما للسلطان إن كان هو سلطه، وإما لله تعالى إن كان ليس فوقه غيره».

ثم يزداد ابن المقفع إمعانًا في عُمق النصيحة والوصية، واقترابًا من حدّ المكاشفة الباترة والرأي الواضح النافذ، وهو يقول:

«إياك، إذا كنت واليًا، أن يكون من شأنك حبّ المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثلمة، من الثلم، يتقحمون عليك منها، وبابًا يفتتحونك منه، وغيبةً يغتابون بها، ويضحكون منك لها.

واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح، هو الذي يحمله على ردّه، فإنّ الراد له محمود، والقابل له معيب.

ثم ينتقل ابن المقفع إلى ما يلزم لطالب الولاية -في كنف السلطان من صفات وخصال، وما تتطلبه ولايته من مشورة والتماس لرضا الناس، فيقول: «لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال رضا ربك ورضا سلطان إن كان فوقك، ورضا صالح من تلي عليه. ولا عليك أن تلهى عن المال والذكر، فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب. واجعل الخصال الثلاث بمكان ما لا بد لك منه، والمال والذكر بمكان ما أنت واجدْ منه بدًا.

اعرف أهل الدين والمروءة في كل كورة (صقع أو مدينة) وقرية وقبيلة، فيكونوا إخوانك وأعوانك وبطانتك وثقاتك.

ولا تقذفن في روعك أنك إن استشرت الرجال ظهرت منك الحاجة إلى رأي غيرك، فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكن تريده للانتفاع به ولو أنك مع ذلك أردْت الذكر كان أحسن الذّكرين وأفضلهما عند أهل الفضل أن يقال: لا ينفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي.

وفي التماس رضا الناس يقول ابن المقفع: إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس مالا يدرك. وكيف يتفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجتك إلى رضا من رضاه الجوْر، وإلى موافقة مَنْ موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل، فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه.

لا تُمكّن أهل البلاء الحسن عندك من التذلل، ولا تمكّن مَنْ سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم.

لتُعرّف رعيّتك أبوابك التي لا يُنال ماعندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها، احرص الحرص كله على أن تكون خبيرًا بأمور عُمّالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإنّ المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك. ليعرفِ الناسُ فيما يعرفون من أخلاقك أنك لا تُعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإنّ ذلك أدوم لخوف الخائف، ورجاء الراجي.

وتحت عنوان «موعظة جامعة» - وكأن ابن المقفع يركّز فيها كلّ ما يريد أن ينصح به الكاتب والأديب: «عوّد نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة، والتجرّع لمرارة قولهم وعذلهم. ولاتسهلّن سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسنّ والمروءة، لئلا ينتشر من ذلك، ما يجترئ به سفيه، أو يستخف به شانئ.

لا تتركنّ مباشرة جسيم أمرك، فيعود شأنك صغيرًا، ولا تُلزم نفسك مباشرة الصغير، فيصير الكبير ضائعا.

اعلم أنّ رأيك لا يتسع لكل شيء، ففرغه للمهم، وأن مالك لا يُغني الناس كلهم، فاختص به ذوي الحقوق، وأن كرامتك لا تُطيق العامة، فتوخّ بها أهل الفضائل، وأنّ ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما. وأنه ليس لك إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة، فأحسن قسمتها بين دعتك وعملك.

واعلم أنك ما شغلْت من رأيك في غيرالمهم أزرى بالمهم، وما صرفْت من مالك بالباطل، فقدته حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرّ بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.

اعلم أن من الناس ناسًا كثيرًا يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب أن يحمله ذلك على الكلوح (أي العبوس وتغيّر الوجه)، والتقطيب في غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنْبَ له)، والعقوبة لمن لم يكن يهمّ بعقوبته، وشدّة المعاقبة باليد واللسان، لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك. ثم يبلغ به الرضا إذا رضا أن يتبرّع بالأمر ذي الخطر، لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويُعطى من لم يكن يريد إعطاءه، ويكرم من لا حقّ له ولا مودة.

فاحذرْ هذا الباب الحذر كله، فإنه ليس أحد أسوأ حالاً من أهل القدرة الذين يُفرطون باقتدارهم في غضبهم ورضاهم، فإنه لو وصف بهذه الصفة من يُلتبس بعقله، أو يتخبّطه المسّ، أن يعاقب في غضبه غير من أغضبه، ويحبو عند رضاه غير مَن أرضاه، لكان جائزًا في صفته.

ويقول ابن المقفع في باب معاملة الصديق، وهو باب انفرد فيه ابن المقفع بفطنته النافذة، وخبرته العميقة بالحياة والناس، وامتلاء وجدانه بصنوف من التجارب جعلته أكثر وعيًا وبصيرة، وقدرة على التحليل والاستبصار والتأمل:

«ابذل لصديقك دمّك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومَحْضرك، وللعامّة بِشْرك وتحننك، ولعدوّك عدْلك وإنصافَك، واضنُنْ بدينك وعرضك عن كلّ أحد، إلا أن تُضطرْ إلى بذل العِرض لوالٍ أو والدٍ، فأمّا للولد فمن سواه فلا.

إن سمعْتَ من صاحبك كلامًا أو رأيًا يُعجبك، فلا تنتحلْه تزيّنا به عند الناس، واكتفِ من التزيّن بأن تجتني الصواب إذا سمعْته، وتنسبه إلى صاحبه.

واعلم أن انتحالَك ذاك مسخطة لصاحبك، وأنّ فيه مع ذلك عارًا أو سخْفًا.

فإنّ بلغ ذلك بك أن تُشير برأي الرجل، وتتكلّم بكلامه وهو يسمع، جمعْت مع الظلم قلّة الحياء، وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس.

ومن تمام حُسن الخلق والأدب، أن تَسخُوَ نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتُزيّنه مع ذلك ما استطعْت.

لا يكونّن من خُلقك أن تبتدئ حديثًا ثم تقطعه وتقول: سوف، كأنّك روّأْتَ فيه بعد ابتدائه. وليكن ترويّك فيه قبل التفوّه، فإن احتجان الحديث بعد افتتاحه سُخفْ وغمّ.

اخزُنْ عقْلَك وكلامَك، إلا عند إصابةَ الموضع، فإنه ليس في كلّ حين يحسّن كل الصواب، وإنما تمام إصابةَ الرأي والقول بإصابة الموضع. فإن أخطأْتَ ذلك أدخلْتَ المحنة (أي الامتحان والاختبار) على علمك، حتى تأتي به، إن أتيْت، في موضعه، وهو لا بهاءَ له ولا طلاوة.

ولتعرف - حين تُجالس العلماء - أنك على أن تسمع أحرصُ منك على أن تقول. إن آثرت أن تفاخر أحدًا ممن تستأنسُ إليه في لهوٍ الحديث، فاجعل غاية ذلك الجِدّ، ولا تعتدْ أن تتكلّم فيه بما كان هزْلا، فإذا بلغ الجِدّ أو قاربه فدعْه. ولا تخلطنّ بالجدّ هزلاً ولا بالهزل جدًا، فإنك إن خلطْتَ بالجدّ هزلاً هجّنته، وإن خلطْت بالهزل جدًا كدّرته، غير أني قد علمت موطنًا واحدًا، إن قدرْت أن تستقبل فيه الجدّ بالهزل أصبْت الرأي وظهرت على الأقران، وذلك أن يتورّدك متورّد بالسّفه والغضب وسوء اللفظ، فتجيبه إجابةَ الهازل المداعب، برُحْبٍ من الذّرْع، وطلاقةِ من الوجه، وثباتٍ من المنطق.

إن رأيت صاحبك مع عدوّك فلا يُغضبنّك ذلك، فإنما هو أحدُ رجلين:

إن كان رجلاً من إخوان الثقة، فأنفعُ مواطنِه لك أقربها من عدوّك، لشرّ يكفّه عنك، وعورةٍ يسترها منك، وغائبةٍ يطلع عليها لك.

فأما صديقُك فما أغْناك أن يحضره ذو ثقتك.

وإن كان رجلاً من غير خاصّة إخوانك، فبأيّ حق تقطعه عن الناس وتُكلّفه أن لا يصاحبَ ولا يُجالسَ إلا من تهوى. تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نَفْسك عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي مُداراةً، لئلاّ يظنّ أصحابُك أنّ دأبك التطاول عليهم.

وليعرف إخوانك، والعامّة إن استطعْت، أنك إلى أن تفعل مالا تقول أقربُ منك إلى أن تقول ما لاتفعل، فإن فضل القول على الفعل عارْ وهجنة، وفضل الفعل على القول زينة.

احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوّك العدل، وفيما بيْنَك وبين صديقك الرّضا. وذلك أن العدوّ خصم تضربُه بالحجة، وتغلبُه بالحكمة، وأنّ الصديق ليس بينك وبينه قاضٍ، فإنما حُكْمك رضاه.

 

فاروق شوشة