اللغة حياة

اللغة حياة

الجرأة على اللغة

الجرأة قد تصبح اجتراء، والحماسة استخفافًا، عندما يتصدى الإنسان لأكبر القضايا، في علم من العلوم، وهو لايزال مبتدئًا فيه. ومن ذلك أن أحد الأطباء اعتقد أن «طريقة تعليم النحو»، لا قواعده، مريضة، فتبرع بمعالجتها، لكن بعد فراغه من سائر المرضى. بيد أن «طريقة التعليم» تعني عنده اختيار مصطلحات نحوية بديلة، وتقسيم الجمل تقسيمًا حديثًا، والنظر فيما يسميه «دَوْرًا» أي «عملاً» في مصطلح النحاة، ولا أدري كيف تكون القواعد غير تنظيم هذه الأمور وأمثالها!

اتفق أن أحد المعجبين به دعاني إلى العشاء في دارته، أنا وجماعة من أهل العلم والثقافة، وإذا بذلك الطبيب الفاضل يفجؤنا بشرح نظريته، فيرد عليه أحد الزملاء ردّا لطيفًا مقنعًا، يبرهن فيه على خطأ مدخله، وعلى بعض الأخطاء العلمية التي ارتكبها. أما أنا فاكتفيت بالترحيب بحماسته للغة العربية، وبدخوله ميدانها، لكن ليدْرسها، لا ليُعلِّمها، لأن حديثه في تلك الأمسية، وما قرأته له، يؤكدان أنه مفتقر إلى العلم الكافي الذي يؤهله للتصدي للقضايا اللغوية، وأن معرفته اللغوية مثل معرفتي في علاج السرطان (وهو يزعم اختصاصه به).

والمشكلة أن بعض الصحف والأوساط الاجتماعية والثقافية تروّج لأمثال هذا المتحمّس، الذي يوحي، سامحه الله، أنه يريد قطع رقاب أهل النحو والمشتغلين به وبتعليمه، وليس عنق الدجال. وليتهم يسألون أنفسهم: ماذا لو دخل دكتور في الآداب إلى بعض المستشفيات وأبرز شهادته، وطلب، بوصفه دكتورًا، أن يجري عملية جراحية لأحد المرضى، أو أن يعالجه بنفسه من داء عُضال، ألا تطلب له إدارة المستشفى الشرطة أو طبيب الأمراض النفسية؟ فلماذا يراد السماح للطبيب بأن يتجرّأ على اللغة بلا حسيب؟ ألا يعرف هذا الذي لا تضيق به خيمة اللغة، ولا يتجهمه شيوخها، أن اختراع أي دواء يقتضي اجتماع لجان اختصاصية مبرزة، ولمدة كافية، ثم تجربة الدواء المخترع على الحيوانات أو الحشرات، ثم على بعض المتطوعين من البشر، للتأكد من أنه ناجع غير ضار أو لا فائدة منه؟ ألا يعرف أنه ليس مسموحًا، من الناحية العلمية، أن يعلن شخص غير اختصاصي أنه اخترع من الأعشاب، مثلا، دواء يشفي من داء خطير كالسرطان أو الإيدز أو غيرهما، وغير مسموح قانونيًا لذلك المخترع أن يصف دواءه لبعض المرضى؟ فكيف يبيح هو لنفسه فعل شبه ذلك في ميدان النحو؟

إن أسطع دليل على ضرر التجربة الطبية في النحو، وعلى عدم اطّلاع صاحبها على الجهود العلمية التي بُذلت لخدمة اللغة في هذا المجال، دخوله من غير الباب الملائم، لأن أي تصحيح «لطريقة تعليم النحو»، لا يكون بتبديل المصطلحات والتقسيمات، بل بالتعويل على النص الصحيح، فاللغة تُتعلم بالاستعمال والسماع والقراءة، أكثر مما تتعلم بالقواعد، لأن المطلوب أن تتكوّن عند المتعلم سليقة لغوية صحيحة تجعله، بعد ذلك وبسببه، قادرًا على فهم النحو، عفوًا، أيّا كانت الطريقة وأيّا كان المصطلح، ونضرب على ذلك مثلين: الأول أن من العرب من يتعلم بعض اللغات الأجنبية ويبرع في قواعدها، لكنه حين يذهب إلى موطنها، يعجز عن التفاهم مع أهلها بسهولة، لأنه تعلم القواعد، وأهل اللغة يتحدّثون بلسان الحياة. والثاني أنني، في طفولتي، سمعت الأستاذ يقول في الصف: لا شجرةٌ في الحقل، فسألته إن لم يكن عليه فتح التاء المربوطة في كلمة شجرة، فهنّأني، لكنه رفض تعليل الفتح، لأن ذلك خارج عن المنهاج، وأنا أعلّل تلك الظاهرة بأنني تعلّمت ذلك بالسليقة، مما كنت أسمعه في البيت وأقرأه، من قرآن كريم وحديث نبويّ شريف، ونصوص أخرى راقية وصحيحة.

قد يظن بعضهم أن هذا سور يحاول أهل الاختصاص رفعه في وجه الآخرين، بنوع من التعصب المهني ومن خوف المنافسة، إذا صح التعبير، ويخفف بعضهم التهمة، فيجعل الأمر نزاعًا بين التقليد والتجديد. ومع أن ذلك السور مرفوع في كل الاختصاصات، وقد أنشئت لأجله النقابات، ووضعت القوانين، لكن أهل الاختصاص اللغوي متسامحون، لا يقفلون باب اللغة والأدب في وجه الناس، فلعل أحدهم يحذو حذو الإمام أبي حنيفة الذي كان يبيع الخزّ في الكوفة، ثم أصبح مع ذلك أحد أكبر الفقهاء. لكنه لم يبلغ هذه الدرجة عبثًا، بل بلغها بعدما تفرّغ لدراسة الفقه، وجعله غايته الكبرى، لا رديفًا لعلم آخر، ثم انقطع للتدريس، وقد قال ابن قتيبة: «من أراد أن يكون عالمًا فليطلب فنًا واحدًا»، أي اختصاصًا واحدًا، فشرطنا الوحيد إذن، هو أن يتفرّغ لدراسة اللغة من يريد التصدّي لإصلاحها، حتى يصبح عالمًا اختصاصيًا فيها، وبعد ذلك يقترح ما يشاء. أما أن يجعلها مشغلة لفراغه، وألا يفرق في كلامه بين الشاهد والقاعدة، فلا، وشيء آخر، هو أنه قل بين اللغويين من لا يدعو إلى تيسير النحو.

ولا يجوز هنا الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف: «فإذاحكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر»، لأن الاجتهاد رتبة عالية جدا لا يبلغها إلا كبار أهل الاختصاص، ولذلك لا يستطيع كل إنسان أن يفتي، والحماسة لا تكفي، وقد تؤدي إلى آراء غير دقيقة، كزعم ذلك الطبيب أن العربية أسهل اللغات في كل شيء، وأنه ليس فيها ما يكتب ولا يلفظ، لا العكس! مع أن العربية أصعب من الإنجليزية، مثلا، في الجموع وفي التأنيث والتذكير، وهي ككل اللغات، قد يخالف لفظها كتابتها والعكس.

والخلاصة أنه يحسن بالمتصدّين لخدمة اللغة، تطويرًا أو تيسيرًًا، مراعاة الاختصاص، ومعرفة الحدود، وعرفان قدر الذات وأقدار الآخرين، وأن تتريّث وسائل الإعلام والجمعيات والمؤسسات الثقافية في تبنّي المشاريع اللغوية الصادرة عن متطوعين، لم تثبت جدارتهم العلمية في هذا الميدان. أي أن تُغلب الاعتبارات العلمية، لا الحماسة ولا مقتضيات الصداقة وشبهها. وكما أنه لا يجوز لطبيب - مهما علا شأنه في الطب - أن يعد أطروحة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها ما لم يكن حائزًا إجازة ودبلوم دراسات عليا أو ماجستير في هذا الاختصاص، فمن الأولى ألا يتصدى هو نفسه لما هو أخطر من أطروحة الدكتوراه، فيحاول ابتكار نحو جديد، متجاوزًا آراء كبار النجاة، ساخرًا منهم، من غير الاطّلاع الصحيح على مؤلفاتهم، ومتجاهلاً الأبحاث الحديثة الكثيرة التي تناولت، في عمق ومنهجية دقيقة، كثيرًا من المسائل والمشاكل اللغوية العربية. إن من حق أي إنسان أن يسأل وأن يقترح، لكن لا يجمل به جهل الحدود.

 

مصطفى علي الجوزو