إلى أن نلتقي
الإنسان والمكان
في مدينة مسقط، قبل سنوات، وعدني صديقي كوجي نايتو، قنصل اليابان في سلطنة عُمان، برحلة مغايرة، وطلب مني أن أستعد لها بارتداء ملابس تحمي من البرد! الطلب كان غريبا، فلم يكن الطقسُ يوحي بدرجة حرارة أقل من الثلاثين، أو رطوبة بعيدة عن مؤشر الثمانين. لكن حسب الكاتالوج الياباني: كل شيء يجوز.
مع الصباح جاء نايتو بصحبة زوجته ماساكو وطفلهما الذي لم يكمل العامين. وانطلقت بنا سيارة الدفع الرباعي خارج مسقط، باتجاه إحدى القمم الجبلية التي تعلو في شرق السلطنة، لتبلغ أقصاها في الجبل الأخضر.
بمنتصف الطريق الجبلية، التي خلتُها تصل القمر لطولها، وكنتُ أمسك القلب من ارتفاعها خوفا، قلتُ لصديقي متسائلا: هذه ليست سيارتك! فأجابني: أنت على حق، لقد استأجرتها، وهي أول مرة أركب سيارة دفع رباعي مثلها، ولكنني أمشي بها حسب الكاتالوج!
كان علي أن أشغل نفسي بالورود الجبلية حتى لا تأخذني «الخضة» ونحن نعبرُ السحاب إلى أعالي الجبل. حين بدأ الجو يعتدل، والبردُ يلوحُ، وكأننا تركنا كتاب الحرارة والرطوبة للأبد، لندخل معجما سحريا من مفردات الجنة الملونة، وأدهشني أننا بعد ذلك الصعود نصل إلى قرية، تتوسط الطريق للسماء.
على الرغم من سحر المشهد الجبلي بنباتاته البرية، وفصائلها التي تطلعُ في كتب الأساطير، إلا أن أكثر المناظر جمالا كان للمياه التي انسابت تبث الحياة في شرايين القرية وأهلها. كنت رأيتُ أفلاجا كثيرة - وهي غدران صغيرة تصل بالماء إلى غايات بعيدة - إلا أنني لم أكن أعرف أن عبقرية البشر يمكن أن تصعد بهذه الأفلاج إلى ذلك الارتفاع، مؤمنًا بالمثل القائل، الميه ما تجري في العالي!
المهم أن ذلك المشهد نفسه تذكرته، وأنا أزور متحف الحضارة الأندلسية في مدينة قرطبة، حين وجدت مجسما كاملا لرحلة المياه عبر الأفلاج، من أسفل الوديان إلى أعالي الجبال التي خضّرتها أيدي المسلمين وعمّرتها عقولهم. لقد ألهمت عبقرية المكان، في جنوب الجزيرة العربية - وفي شبه الجزيرة الأيبيرية بالأندلس أيضا - الإنسان ليبتكر نظامًا للري يوفر الخصب للبساتين لتكبر في كنفها الحياة.
لابد لعبقرية البشر من ملازمة عبقرية المكان، حتى تجعله ينبض بالأمل. لا يكفي أن تكون السماء محملة بسحب الخير، وأن يجري النهر بطمي الخصب، بل على السواعد أن تكد، وعلى العقول أن تجد، لتجري المياه في الأعالي، وينمو التمر في أكف النخيل.