صلاح الدين الزعبلاوي سيرة حياة أديب

صلاح الدين الزعبلاوي سيرة حياة أديب

عَمَدْتُ أن أكتبَ هذه الكلمات الصادقة عن والدي فور وفاته، إلاّ أن انشغالي اليومي بأعباء مهنتي كان دائمًا يحول دون قيامي بهذه المهمة، التي طالما رأيتها من أدنى ما توجّب عليّ إنجازه، لإحياء ذكرى والدي العَطِرة بل وتخليدها.

وجدت في حديثي عن مناقب والدي وخصاله السبيل الوحيدة، كي أريح نفسي مما يخالجها من شعور كئيب، يعتصر القلب حزنًا والمقلة دمعًا على فراقه، شعور من أضاع كَنْـزًا ثمينًا لا يُرجى لقياه. قال والدي في ترجمة حياته: «فاللغة أداة الاتصال والتفاهم، ووسيلة للتعبير عما يخالجها... تلتقي بها الأرواح على سبب فتتقارب وتأتلف... تلك حاجة إنسانية تزيدها رهافة الحس اتقادًا، ورقته احتدامًا. وليس أروح للنفس وأجلب لسعادتها من إطلاق ما تزخر به من شعور وتطمو به وتفيض من حسّ»

كان محباً للعلم والمطالعة والبحث. قصد المعرفة من أبواب عدّة. فقد نال الإجازة الجامعية في الحقوق، إلا أنه لم يعمل في مجال المحاماة، بل عُرف أستاذًا ماهرًا لمادتي التاريخ والجغرافيا. وألّف كتبًا كثيرة في اللغة العربية أوّلها كتابه «أخطاؤنا في الصحف والدواوين»، الذي بدأ بتأليفه ولم يجاوز الرابعة والعشرين ربيعًا، وأتم نشره ولم يُتم السابعة والعشرين، وذلك في عام تسعة وثلاثين وتسعمائة وألف. وهو الكتاب الذي لمع اسمه به، وذاع بفضله صيته بين نحاة القرن الماضي. كما مارس والدي أعمالا إدارية وتربوية في مناصب كثيرة، فغدا مثال الإداري والمربي الناجح والمخلص في عمله.

انطوت مكتبته على نحو عشرة آلاف كتاب. لم يكن والدي مِمَّنْ يفخرون بكثرة الكتب، وهم يجهلون محتوى معظم ما جاء فيها. فالمتصفح لكتبه هذه يدرك يقيناً أنّه لابد أن يكون قد قرأها كلها. فأنت لا تتصفح كتابًا من مكتبته إلا وتجد تعليقات, وملاحظات, دُوّنت بقلمه على الهوامش. قال في ترجمة حياته (ص 296 ): «وهكذا جمعت في خزانتي كُل ما مسَّت إليه الحاجة من المراجع، وما يمكن أن تتسع به معرفتي، وتتأصل ثقافتي وتغني خبرتي في أداء رسالتي». وقد تنوعت مواضيع تلك الكتب لتشمل معظم الحقول العلمية، فقد كان واسع الاطلاع ومثالاً للإنسان المثقف في عصرنا هذا. تكتشف كل ذلك عند مجالسته فيروي لك قصصًا ونوادر مفصّلة ومتنوعة في مجالات كثيرة بطريقة سردية جذّابة تستأثر كل انتباهك وجوارحك، فأنت لا تَمل من حديثه أبدًا.

كان ينكبُّ على مطالعاته وكتاباته حتى ساعات متأخرة من الليل.كان يعمل بالحديث الشريف القائل: : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه». فلم يكن يبحث في موضوع من مواضيع اللغة العربية إلا واستقصاه إلى أبعد الحدود. كان ينتقد عبارات بعض الكتب اللغوية التي كانت تشجّع الكتّاب على ردّ كل ما جهلوه من سبب استخدام لفظ ما في اللغة العربية بالاكتفاء بقولهم «هكذا قالت العرب». فقد كان يعتقد أنه على اللغوي الضليع ألاّ يقف عند حدّ التسليم بعبارة «هكذا قالت العرب» بل عليه أن يجاوز ذلك بأن يجتهد ويدأب لاستقصاء السبب الحقيقي للفظ ما.

لم أشهده أضاع يوماً دون تخصيص حظ وافر من الوقت للقراءة والكتابة، ممتثلاً بذلك لمبدئه الذي ذكره في ترجمة حياته (ص 295) نقلا عن قول الحديث الشريف: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علماً يقرّبني إلى الله، فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم».

إخلاصه في مهنته

عمل الزعبلاوي مدرسًا للتاريخ والجغرافيا ومديراً لكثير من ثانويات دمشق في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. كان مخلصاً في تدريسه محباً لمهنته. لم يكن يكتفي بالكتاب المدرسي بل كان -وعلى عادته- يستقصي المادة العلمية من كل مرجع استطاع جاهدًا الحصول عليه، إذْ كانت المراجع آنذاك نادرة في كثير من الاختصاصات. كان يسرد كل المعلومات قبل أن يُمْلِيها على الطلاب بطريقة جذابة ومشوّقة تستحوذ على انتباه الطالب وتشغفه بالمادة. قال في ترجمة حياته (ص 296 ): «وقد اعتدت أن أعكف على إعداد الدرس وأصرّف الفكر فيه وألتمسه من مظانه فلا أكتفي بكتاب مدرسي أو أقتصر على مرجع فرد. بل أستفرغ في ذلك وسعي، وأبذل فيه جهد المستطيع فأرتاد المؤلفات المفصّلة والمصادر المطوّلة حيثما وجدت. وأقتنيها لتكون عُدتي في الاطلاع وأداتي في التبسّط، بل لتكون ذريعتي إلى تدبّر الرأي عن بصيرة واتخاذ المذهب عن حجة. هذا ما جعل طلابه محبين أوفياء حيثما لاقوه إلى آخر يوم في حياته. فكنت أصاحبه في كثير من الأوقات وأرى كيف كانوا يهرعون لإيقافه وإبداء كل استعداد لأداء أية خدمة، بل كانوا يقبّلونه أحيانا، ويذكّرونه بمواقف جليلة كان قد ضحّى من أجلهم فيها. كانوا يذكرون تلك الأيام بشوق وحنين.

كان والدي شخصية معروفة بين أهل الثقافة والعلم في دمشق. لا أذكره دخل مدرسة من مدارسنا أنا وإخوتي ونحن صغار في الإعدادية أو الثانوية إلاّ وبادره كل أساتذة المدرسة بالسلام والترحاب والاحترام، وهم يحملون في قلوبهم ذكرى طيبة عنه في أيامهم الماضية. أذكر حادثة طريفة أخرى، ذلك أنه دخلَ يوماً ما إحدى صيدليات دمشق ليسأل عن موضوع كان يتعلق بدراسة شقيقتي الصيدلانية آنذاك. فلمّا ذكر اسمها أمام صاحب الصيدلية، بادرَ الأخير وكله حنينٌ وشوقٌ ورجاءٌ ليسأل والدي إن كان على صلة بشخص يدعى «صلاح الدين الزعبلاوي». ففي بادئ الأمر ظنّ والدي أن ذاك الرجل كان يكلّمه مازحاً. وما أن أطلعه والدي على الحقيقة حتى أخذ يقبّل يديه، وعيناه تدمعان. وتبيّن له بعد ذلك أنّ صاحب الصيدلية هذا كان في الماضي تلميذاً يتيماً وهو صغير، عندما كان والدي مديراً «لميتم سيد قريش» في دمشق. وقد كان المربي الزعبلاوي يرعى هؤلاء الأيتام وكأنه أب لهمٌ بل أكثر من أب...؛ يحفّهم بالعناية ويدافع عنهم ويعدل بينهم ويشجعهم ويكافئهم، ويسعى جاهداً إلى تعويض ما افتقدوه من غياب أحد الوالدين أو كليهما. مازال اسم والدي مطبوعاً في مخيّلة ذاك الطالب إلاّ أنه نسي صورته، حيث كان غلاماً يافعاً في مقتبل عمره. كان موقفاً عاطفياً مباغتاً تقشعر له الجلود وتلين له أقسى القلوب.

نظرته للحياة وخلقه

كان صلاح الدين الزعبلاوي مُدركاً لمعنى الحياة ومآلها منذ شبابه. كان ينظر إليها نظرة دينية عميقة بحتة. فهو على يقين من أن الحياة خُلقت لتكون دار عمل ودأب وإنتاج. لم تجذبه ملذاتها ولم تسترعِه زخارفها، بل ترفّع عن كل ذلك متجنبًا أي انزلاق قد يهوي به إلى مستنقعاتها. قال في ترجمة حياته (ص 288 ): «ولست أدري ما الذي أدّاني إلى مثل هذه الرؤية وأصارني إلى نظرة الجدّ في الحياة. لا أقف عند زينتها ولا أَحْفِلُ بزخرف يشغل الناظر عن لبّها ودلالاتها، لكني أشعر أني ورثت هذا الخط عن والديّ فسرى بي كل مسرى، أعقل الحياة وأؤمن بها، وأصطفيها هذا الاصطفاء. أسعى إلى هيكلها بفروضها وقربانها. أراها أصيلة في ذاتها، عريقة في جوهرها. سواء عندي: برزت في كأس من ذهب أو إناء من تراب، أستحبها على هذا الوجه، وأرى أنها تستحق الجهد والبذل. أريدها حياة العفة والطهر، حياة لاتنحدر انحدار دنياها، بل تستعلي استعلاء حقيقتها، لا تجمد في حق، ولا تذوب في باطل.

وعلى الرغم من اتّسام والدي بالجدية، فإنه لم يجد تناقضاً بين الجدية والفكاهة. فلو جالسته لخبرت روح الدعابة عنده. فطالما شاطرنا المزاح والابتسامة الجميلة، بل بادرنا إليها. لم نكن نرهبه، بل كنّا نحترمه. كان أخاً وصديقاً لنا. نبادله الحديث المسلّي والفَكِه، ولا نخشى من تصرف أو عبارة قد تصدر منا خطأّ. فلم يكن يتبنى نظرة الأب السُلطوي المتعالي المتكبَر الذي يقذف الرُّعبَ في نفوس أولاده، بل كان صديقاً نصوحاً مخلصاً ودوداً. كان يكتفي بتقديم النصح لنا ولم يكن يُكْرِهنا على مالا نرجوه.

شَغَلَ الأستاذ الزعبلاوي (رحمه الله) مناصب تنفيذية مختلفة. ففي بداية الستينيات من القرن الماضي عُيّن مديراً لتربية درعا، ومن ثم أصبح مديراً لتربية دمشق، ثم مديراً للكتب المدرسية في دمشق. أُوكلت له في كل هذه المناصب وغيرها مهمات ومسئوليات عدة. كان يحترم الناس عامة، وينهى عن تعيير الناس أو السخرية. فالناس عنده سواسية. فقد كان يردّد ما جاء في الحديث الشريف: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأشار بأصابعه إلى صدره»، بل كان في حكمه في كثير من المواقف محباً ومناصراً للفقراء ضد بعض الأغنياء المعتدين على حقوق غيرهم. كان يعتقد أن المجتمع الحضاري هو المجتمع الذي يسوده العدل والمساواة. كان يمقُتُ الظلم إلى أبعد الحدود، بل يتصدّى له حيثما حلّ، وبأي وجه كان. قال في ترجمة حياته (ص 298 ): «وكنت حرباً على المحاباة محاباة ذوي الشراء وأصحاب الجاه، وأهل الزلفة والحظوة. فلا ذريعة تُرعى ولا وسيلة تشفع، فإذا مضيت في إعمال قانون أو إجراء قاعدة فعلى ذوي اليسار قبل ذوي الحاجة والإعسار... أمضي بالعدالة حكمي، فلا تحامل ولا غضّ. فالعدل أسُّ كل نظام وقاعدة كل شرع. وكيف أظلم الفقراء وقد جاء في الحديث: (اتخذوا عند الفقراء أياديَ فإن لهم دولة يوم القيامة)... أو ليس تقويم الإنسان بغير كفايته الخلقية والعقلية والعلمية حيفاً، ووضعه غير الموضع الذي يُقدر به ويختبر فكره ويجرّب خلقه عبثاً وإثماً؟»

أذكر أن أحد الأقرباء في العائلة ذهب ليقابله لدى إدارته مديرية تربية دمشق ليرجوه أن يسعى لتوظيفه أستاذاً وكيلاً في إحدى المدارس، إلا أن والدي ردّ عليه قائلا: «بكل سرور، ولكن عليك الانتظار فالأولوية لمن حصل على معدل درجات عال، فإذا بلغنا حد درجاتك عيّنّاك. فالعدل لديه لا ينحرف عن مساره الأخلاقي فهو جار حتى على أقاربه.

وهكذا فقد اتّسم الزعبلاوي بالاستقامة (أرجو له من الله الرحمن الرحيم خالص الثواب وحُسن الجزاء). فلا يجري لسانه بغير الحق، فإنك لتتمثل قلبه في لسانه. كان صادقاً مع نفسه ومع الآخرين. لا مجال لديه للرياء والتملق وإرضاء رغبات الناس على حساب مبادئه. طالما سمعت منه عبارة : «أيغضب الله، أم يغضب فلان؟». فبالنسبة له «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». لذا فقد كان رجلاً شفافاً يقول ما يعتقده صواباّ دون الاكتراث بمواقف الآخرين الذين كانوا ينتقدون فيه هذا الطبع الذي فُطر عليه، ويطالبونه بما يدّعونَ أنه «مزيد من التعاون والمرونة والتيسير». قال في ترجمة حياته (ص 291 ): «فقد كنت في توافق ومواءمة بين ما أفكر فيه وأتخذه خلقاً، وبين ما أقول به وأمضي في تحقيقه. وكنت حريصا أن أدفع عني كل ما يُفسد عليّ هذه السكينة، ويُقلق مني هذا التوازن. وما أجملَ أن يسوّي المرء بَينَ قلبه ولسانه، وبين فكره ونهجه. ذلك ما سوّغ لي أن أطمح في أن أكون قدوة وأتطلع أن أجعل من نفسي مربّياً. وقال في عزة النفس (ص 297 ): «وما أجدَرَ العربيَّ المؤمنَ أن يكون إنسانَ العزةِ والقمةِ والغايةِ لا إنسان المهانةِ والمطيّةِ والوسيلةِ».

وفاؤه لأسرته

كان المربي الزعبلاوي وفياً لأسرته. استمرت عطاءاته وتضحياته لها نحو نصف قرن. وهبها كثيراً من الحب وأولاها كثيراً من الرعاية، واستطاع أن يخرّجَ منها أفراداً مثقفين وإنْ شاء الله مخلصين لله أولاً وللناس من حولهم ثانياً. لقد كان مثال الأب الرءوف العطوف ورب الأسرة القوي النشيط. كان يتبنى المبدأ القائل : «سيد القوم خادمهم». عانى خشونة الحياة لدى تقاعده وبلوغه الستين. إلاّ أنه لم ييأس، وكيف يقنط وكان مدرسةً في الأمل والرجاء والصبر، بل التمس لنفسه أعمالاً يسعفه أجرها في تلبية حاجياتنا حتى لو كان هذا زهيداً. استطاع الملاءمة بين اجتهاده على المطالعة والتأليف وبين السعي وراء كسب العيش الحلال. قال في ترجمة حياته (ص 301 ): «وهكذا كان قصاراي أن أوفق بين وجهتين: طلب العلم لإحكام التأليف، والسعي على العيال لكسب ما يجزي من المال، فلا أقعد عن واحدة منهما ولا أكسل وأعتقد أني جهدت في ذلك جهدي فأسعفني الله ببلوغ القصد، وما أضل سعيي ولا كَذَبَ رجائي».

نشاطاته في أوقات الفراغ

كان الزعبلاوي طروباً للموسيقى العربية الأصيلة. وقد وهبهُ الله صوتاً حنوناً عذباً. أذكر أننا طالما استيقظنا من النوم على صوته الرخيم وهو يغني إحدى أغاني الطرب العربي القديم. فقد وجد في الغناء العربي طرباً أصيلاً يبعث فيه ذكريات صدى السنين الماضية العزيزة على نفسه حتى كادت عيناه تدمعان أحياناً من فرط العاطفة، وكأنه تحوّل في نهاية عمره إلى إنسان تأجّجت بل استعرت في داخله العواطف الرقيقة والمشاعر المرهفة كلما اقترب من منيته، وكأنه يعلم أنه مفارقنا قريباً. وقد اعترف مرارًا في نهاية حياته - وقد باغتته الشيخوخة على حين غرة - أن جسمه لم يعد يتقبّل الغذاء المادي، بل تحوّل إلى الغذاء الروحيّ. أما في ليالي الشتاء الطويلة فقد كان يحلو له الجلوس إلى المدفأة في آخر الليل وإعمال الملقط بحبات من الكستناء تعمّ راحتها كل ركن من أركان البيت. فقد كانت فاكهة الشتاء المفضلة عنده. ولكني أودّ أن أذكر هنا أن هواياته هذه لم تكن لتصرفه عن العبادات. فقد كان رجلاً ورعاً تقياً فكراً وقلباً وعملاً.

دينه وتقواه

لم يكن الزعبلاوي في حياته محباً لجمع المال أو التباهي به. فالمال بالنسبة له ليس غاية بذاته بل وسيلة يحتاج إليها الإنسانُ لتيسير أموره المعيشية على نحو يرضي الله عزَّ وجلّ. لاقته المنيّة ولم يكن في جعبته أكثر مما يسد نفقات مراسم دفنه. والأمر الذي يواسينا في فقده هو أنه أمضى الحقبة الأخيرة من حياته يجود في سبيلين خيريين. فقد ألهمه الله الإغداق في دفع الصدقات (اللهم تقبّلها منه) والإكثار من قراءة القرآن. أما عن الصدقات، فلم يكن ينتظر الفقير ليأتي بنفسه ويرجوه بذلّا، بل كان هو الذي يتبعه أينما ألفاه. فما ردّ رجاءَ فقير، ولا خَذل أمل محتاج. ليس هناك من شيء كان يُبهجه كرسم ابتسامة جميلة على وجه محتاج. أمّا عن قراءته القرآن الكريم، فقد اعتاد أن يقرأ ما تيسّر له منه على صعيد يومي، حيث وَجَدَ فيه الأنس والسكينة والطمأنينة، فغدا القرآن صاحبه الأنيس الذي طالما واساه وقد أثقله المرض قابعًا على فراشه. قرأ بعض صفحاته يوم الجمعة قبل يوم واحد من وفاته. توفّي والقرآن على الوسادة فوق رأسه وكأنّه يعيده. كان مشهدًا مُؤثّرًا، جميلاً وكئيبًا معًا، تجزع له النفوس، وترقُّ له القلوب.

عُرف صلاح الدين الزعبلاوي خلال حياته بتقواه وانقطاعه إلى العبادة. كُنّا نشهده وهو يُصلّي جهرًا وله صوت عذب فريد يزيد من خشوعه في صلاته. كُنا نتمنى دائماً لو يختار الآيات الطوال في قراءته حتى يتسنّى لنا سماع صوته الحنون أطول وقت ممكن. كان دائما يحرص أشدَّ الحرص ألاّ تفوته أية صلاة. وهبه الله الجسم الرشيق فاستمر في مقدرته على الركوع في الصلاة إلى نحو السابعة والثمانين، وكان يفخر بذلك، إلى أن قَدّرَ الله بأن صدمته سيارة فخرّ على ركبتيه. ومنذ ذلك الحادث اضطُرّ آسفاً للصلاة جالسًا. كان كثير الدعاء والتضرّع إلى الله وهو يختم صلاته. كما كان مثابراً على صيامه. استطاع صيام آخر رمضان شهده في حياته. وكان يصطحبنا لزيارة مقابر ذويه بعد صلاة العيد بالرغم من وعورة الطريق المؤدّية إليها. وقد كان آخر زيارة قام بها هي بعد صلاة عيد الفطر السابق لوفاته.

كان الزعبلاوي ورعاً منذ شبابه. عاش حياة عِفَّة... وطُهْر.... على أنه بالرغم من ورعه كان في الوقت نفسه من أنصار الوسطية في الإسلام. فلم يكن يتفق مع بعض وجهات نظر دينية تُغالي في تطبيق الأحكام الشرعية إلى حدود قد تنفّر البعض من الالتزام بالدين الإسلامي.

أصاب والدي خلال السنتين الأخيرتين من عمره، أو يزيد على ذلك، شئٌ من النسيان. فكان ينسى أحياناً إن كان قد قام بصلاة وقت ما أم لم يقم، مما كان يضطرَه إلى إعادة بعض الصلوات. وكان يتناول أحيانا أدوية منشطة للذّاكرة ومعالجة للنسيان. وأذكر هنا حادثة طريفة. فقد سأل والدتي مرّة إن كانت قد رأته وهو يصلّي. فعاتبته بسؤالها: «لِمَ لا تداوم على تناول دواء النسيان وأنتَ تملكه؟». فأجابها قائلا: «وهل من أحد يذكّرني بأن أتناوله!».

مرضه ووفاته

اشتدَّ المرض على الزعبلاوي وطرحه فراشاً في الشهر الأخير قبل وفاته، إلاّ أنه لم يتمكن من صرفه عن صلاته، فقد شهده شقيقي يقوم بإيماءات وهو يصلّي مستلقياً. فتك به المرض بالرغم من كل ما ذَكرتُ من اتّباعهِ للقواعد الصحية طوال حياته، وهو ابن الطبيب الشهير، والرجل النّاصح المُثقّف الذي طالما حدّثنا عن تناول الأغذية المفيدة وامتثال القواعد الصحيّة فيها؛ ولكن لابُدّ للقدر أن يجد سبيلاً ما يتسلل عبره ويُنهي حياة الإنسان. فقد أصيب بداء التشمّع الكبدي. بتنا نعالجه ما يقارب السنة قبل وفاته. إلاّ أن حالته كانت تسوءُ يوماً بعد يوم. وأضحى أعظم ما يكره هو ذكر كلمة «طبيب» أمامه. كان يمقت الذهاب إليه أو حتى استقباله في البيت، وهو الرجل القوي الذي لم يشتكِ من وعكة صحية عويصة طوال حياته. كانت والدتي - وقد دعاها آنذاك «أم المؤمنين» - تسهر الليالي الطويلة، وقد تصل ليلها بنهارها، قائمة على خدمته وتلبية طلباته. كانت كما عَهِدَها دائما زوجة صالحة وفية مخلصة. كنا نقف أمام والدي في حيرة: هل نمتثل لرجائه في عدم اصطحاب الطبيب؟ أم نحاكي العقل ونحرص على شِفائه فنستدعي الطبيب؟ وكنّا بالطبع نُؤثر الحل الثاني على الأول فهو ما كُنا نرى فيه المنطق والصواب.

ضعفت شهيّة والدي عن الأكل في الأشهر الأخيرة، وأخذت بالاضمحلال يوماً بعد يوم. استمر وضعه بالتدهور بالرغم من مراجعة الطبيب وتناوله الدواء إلى أن انقطع عن الأكل تماما، واعتمد على الشراب وحسب قبل شهر من وفاته. وفي الأسبوع الأخير من حياته امتنع عن شرب السوائل حتى الماء، ولكن الغريب أنه ظلَّ منتصب القامة عالي الرأس. وافته المنيّة صباح يوم السبت عن عمر يناهز التسعين عاماً. تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جنانه. وأخيراً أودّ الإشارة إلى أن والدي كان يدعى «صَلاحًا» وقد اقتدى باسمه، حيث كان كل من قلبه وعقله وفعله مفعماً بالصلاح والخير والاستقامة. فقد كان، ومازال، وسيبقى قدوة لنا نحتذي بها ومشعلاً لنا نقتدي بنوره. وأرجو أن أختتم سيرة حياة والدي هذه بدعاء جميل كان قد اختتم به سيرة حياته حيث قال: «زيّن الله عملنا بالتقوى فإنها الحظ الأوفر والذخر الأنفس، وأخلص سعينا لوجهه، وأوسعنا من عافيته وعفوه، وكفانا ما أهمنا في الدنيا والآخرة، إنّه سميع مجيب».

 

رافع صلاح الدين الزعبلاوي 





 





يجلس في المنتصف الزعبلاوي مدير ثانوية أمية بدمشق مع مجموعة من الاساتذه والطلاب





مدير دار المعلمات بدمشق مايو 1963 في توزيع الجوائز على المتسابقات





 





مدير ثانوية جوده الهاشمي بدمشق 1959