محمود الربيعي ومحمد حماسة عبد اللطيف
محمود الربيعي ومحمد حماسة عبد اللطيف
التعليم الجامعى العربي ودّع الخلق والابتكار!
الدكتور محمود الربيعي أحد الرموز النقدية والثقافية البارزة، بدأ إسهامه في مجال النقد الأدبي من منتصف الستينيات بعد عودته من بعثته التعليمية إلى لندن، وقد تنوع مجال إسهامه فشمل المقال الأدبي، والبحث الأكاديمي، وتأليف الكتب، والترجمة، والأحاديث الإذاعية، واللقاءات التليفزيونية، والمشاركة في لجان المجلس الأعلى للثقافة، والمجالس القومية المتخصصة، فضلا عن التدريس الجامعي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وجامعة الجزائر، وجامعة الكويت، واستقر به المقام أخيرًا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وأشرف على عدد من الرسائل العلمية، وشارك في ترقية عدد من أعضاء هيئة التدريس، وشغل بعض المناصب الإدارية بالجامعة، وهو إلى كل هذا صاحب منهج متميز في النظر إلى النص الأدبي، وصاحب رؤية في النظر إلى الحياة والأحداث، وقد انعكست هذه الرؤية في إنتاجه كله سواء أكان ذلك في كتبه التي جاوزت خمسة عشر كتابًا أم في مقالاته التي أربت على المائة. ويحاوره الدكتور محمد حماسة عبداللطيف الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية وهو واحد من الذين تلقوا العلم على يد د. الريبعي أثناء فترة الدراسة بكلية دار العلوم بالقاهرة.
- أرى «المشهد النقدي» الآن ينسحب - في تخاذل - إلى مجالات العلوم الإنسانية الأخرى، مخلفا وراءه أفضل ما يمتلك من رصيد، وهو الاستغراق في النص الأدبي. وهو يفعل هذا تحت أسماء براقة مثل «النقد الثقافي»، و«متطلبات العولمة»، وما أشبه، وعندي أنه يخسر بهذا كثيرًا، ويسلم نفسه دون أن يدري إلى أن يكون «خادمًا» بدل أن يكون «سيدًا». وعجبي لمن يتخلى طواعية عن ميدانه الأصيل، ويترك معقله الحصين، ويلهث للحاق بميادين كانت حتى الأمس خادمة ومساعدة له. وهذا عندي نوع من الاعتراف بخسران المعركة، وطلب النجاة عن طريق الالتحاق بمعسكرات «المنتصر»، وفي يقيني أن الأيام ستثبت سوء اختيار الناقد الأدبي حين يجعل من وثيقته الأولى وثيقة ثانية، أي حين يبدأ من النظرية لا من النص الإبداعي، كما ستثبت خطله حين يبدأ من إجراءات فروع العلوم الإنسانية الأخرى بدلا من تطوير أدوات نابعة من مادته الخام ذاتها، أي من الإبداع الأدبي. بناء لا قطيعة
- «القطيعة المعرفية للتراث العربي» لا، والبناء على ما فعله الآمدي والجرجاني، لا، وإنما المهم الاعتراف بقيمة ما فعله هذان الناقدان وغيرهما ممن يجري على طريقتهما، وما فعلاه هو الشيء الطبيعي، وهو جعل النص الإبداعي نقطة البدء في النظر - لا الأفكار المجلوبة من خارجه. وهذا هو الذي جرى عليه «النقد الجديد» في مقولة «النص - كل النص - ولا شيء غير النص» - وأنا أعتقد أن ما فعله هذان الناقدان في الماضي البعيد، وما فعله النقاد الجدد في الماضي القريب هو الشيء الفطري الطبيعي، ومن ثم فهو عين الصواب، ولنأخذ مثالاً عمليًا من الواقع: إذا تقدم شخص لوظيفة «طيار» فإن أول ما يسأل عنه: كم ساعة قضى في «الهواء»، وإذا تقدم شخص لوظيفة «سبّاح» فإن أول ما يسأل عنه كم ساعة قضى في «الماء»، أي ما كمّ الدربة التي حصل عليها مغرقًا يديه في مادة عمله الخام؟ أي إن المهارة إنما تكتسب من خلال العمل من داخل ما سيشتغل به صاحبها فيما بعد، وقس على ذلك ما نحن بصدده تجده صحيحًا مائة في المائة. أما القول بتقليد الناقد العربي الحديث للآمدي والجرجاني - حذوك النعل بالنعل - فغير وارد، وإلا فما فائدة السنين الألف التي مرت من عمر الزمن بينهما وبينه، وأما القول بالقطيعة لهما مع ما تبين من مصداقية ما فعلاه، وعدم اعتبارهما، فغير وارد في النظر الصحيح - أيضًا -.
- أعترف بأن إنجازي في النقد النظري قليل إذ قيس بإنجازي في النقد التطبيقي، لكني لا أرى ثمة خللا بين الجانبين، فالمعرفة النظرية محدودة، وتجلياتها التطبيقية غير محدودة، وما ينبغي لها أن تكون إلا كذلك. وخذ مثلاً أي نظرية في مجال الفن أو في مجال العلم، وانظر كيف أنها صيغت مرة واحدة (وقد تطور وتعدل في بعض صيغها، ولكن ذلك أمر محدود)، ولكنها إذ توضع موضع التطبيق ينبغي أن تكون فاعلة في مفردات لامتناهية مما يدخل في مجالها، هكذا يتولد عن النظر المختصر نماذج واسعة من التطبيق العملي، وينبغي في هذه الناحية أن نتذكر أن النظرية ذاتها مستنتجة من تطبيقات واسعة سابقة عليها، ولذلك فهي في الحقيقة تكثيف واختزال لعدد مهول من الجزئيات. وهذا هو معنى قابليتها للتطبيق على جزئيات أخرى مهولة تالية لها. أظن أنني حين أعمل قليلاً في مجال النظرية، وكثيرًا في مجال التطبيق، أستجيب في ذلك لما هو طبيعي ومعتمد في تاريخ المعرفة في الإنسانيات والعلوم على السواء. الصوت المتفرد
- ملاحظتك صحيحة، والسبب في ذلك أن النهج الذي أسير عليه في النقد الأدبي، ويسير عليه قليلون غيري، نهج فيه كثير من «الذاتية»، وهو نهج يهدف إلى خلط التحليل النصي بطبيعة الإبداع الأدبي ذاته، وأنت تقرأ النص قراءة ابتكارية فكأنك أبدعته، أو كتبت نصًا موازيًا له، وليس كل أحد مؤهلاً للكتابة «النقدية الإبداعية» على هذا النحو،، ولا أريد أن يتسرب إلى ذهنك - أو ذهن القراء - أنني بهذا أمدح هذه الطريقة، أو أقلل من شأنها، وإنما أنا أصفها فحسب، وهي عندي محتاجة إلى قدر كبير من الخبرة باللغة، والخبرة بصيغ البناء الفني، والخبرة بإنتاج الدلالات، وليس كثيرًا أبدًا على ناقد الأدب أن تتوافر فيه هذه الخبرات، بل إني لأعدها تقع في الحد الطبيعي - إن لم يكن في الحد الأدنى - لمؤهلات كل ناقد جدير بهذه التسمية، لكنني لا أقول إن هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة التي يكون ما عداها خارجًا عن حدود التناول الأدبي، وكل ميسّر لما خلق له، وقيمة كل امرئ ما يحسنه، وعلى ذلك، فالعبرة في مجال عملنا بالصدق والاجتهاد، وعدم ادّعاء ما ليس للمرء، وعدم احتكار الحقيقة.
- أوافق على هذه الفكرة كل الموافقة، وأراها لصيقة بالنقطة السابقة، كما أراها جديرة بأن تخرج النقد الأدبي من كثير من أزماته، وتحفظ عليه هويته في عالم تتصارع فيه القوى الثقافية، وتسعى إلى الهيمنة، وبعضها يفعل ذلك بطريقة غاية في الفجاجة، فإذا استطعنا أن نجعل من نقد الشعر في الأدب العربي مثلاً إبداعًا مكملاً للإبداع الشعري، وفعلنا ذلك في بقية الأنواع الإبداعية الأخرى، ثم تقدمنا خطوة فجعلنا لأعمال كل مبدع ذي قيمة نقدًا مكملاً لهذه الأعمال - نكون قد أنجزنا إنجازًا مدهشًا في النقد الأدبي. أما إذا بقينا ندخل على النص بنظريات متعالية مستوردة غالبًا من تراث الغرب الغالب، أو نتناوله بطرائق صدئة عفى عليها الزمن، بنثر الشعر أو تلخيص أحداث الروايات وما أشبه، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، ولن نصل إلى نتيجة مرضية في أمر النقد الأدبي، بل إنني أقول إن النتيجة ستكون ابتلاع النقد الأدبي في دوامة الحمى المتصاعدة للنقد الثقافي والعولمة وما بعد الكولونيالية ، وما إلى ذلك مما أشرت إليه من قبل. قيمة المرء فيما يحسنه
- لقد قلت منذ قليل إنني أثق في المقولة التي تقول إن قيمة كل امرئ ما يحسنه، وأنا لا أحسن الدخول في حلبة الصراعات والمهاترات، وهي بحمد الله وفيرة في عالمنا، وبخاصة في محيط ما يعرف بالحياة الثقافية. لذا فإنني عازف عن الإدلاء برأي في قضايا النقد «الساخنة»، وأفضل توفير الجهد والوقت للعمل في النطاق الذي أعتقد في جدواه. لكني مع ذلك لا أتردد في الإعلان عن رأيي صراحة كلما دعت الضرورة إلى ذلك وكلما كان الجو ملائمًا. وقد دعوت من قبل إلى مائدة مستديرة يناقش فيها المعنيون صيغ الشعر المزدحمة في المجال من «موزون مقفى» إلى «شعر تفعيلة» إلى «قصيدة نثر» فما استجاب لي أحد، كما أهبت بنقاد قصيدة النثر أن يحلوا لنا التناقض البادي في التسمية فلم يحفل بالرد عليّ أحد. وأستريح في كل الأحوال إلى المقياس التالي: إنني على استعداد للاستماع إلى كل من لديه صيغة جديدة يدعو لها إذا كان على معرفة حقة بالصيغة القديمة، وعنده أسبابه التي من أجلها يخرج عليها، لكني لست على استعداد مثلاً إلى من لا يستطيع قراءة أحمد شوقي ولذلك فهو يرتاح إلى أن يبدأ الشعر الحديث بصلاح عبدالصبور، أو من لا يستطيع تمييز الموزون من المختل في الشعر، ولذلك فهو يدعو إلى «قصيدة النثر».
- ظننت أن ذلك واضح في سيرتي الذاتية - بجزأيها - كل الوضوح، وهو وإن لم يكن مجموعًا برمته في مكان واحد فإن تجميعه لا يعز عليك، أو على غيرك من القراء. إن سيرتي الذاتية سيرة تعليمية، لذلك تجد فيها عناصر تكويني، ونظرتي إلى الحياة، كما تجد فيها نظرتي إلى مهنتي، ومجمل المادة التي تتكون منها كتبي وأبحاثي. وقد يكون «النقد الأدبي» فيها خافتًا لكن «نقد الحياة» - ونقد الأدب داخل فيه - لا يمكن أن يكون خافتًا، وقد يكون لازمًا أن نقرأ فيها السطور، وما بين السطور، كما أنه قد يكون لازمًا أن نستنطق المواقف. وقد كتبت لي مربية مصرية فاضلة - قرأت الجزء الثاني من السيرة المعنون «بعد الخمسين» - قائلة إنه مما يكمل موقفي النقدي عزوفي عن الظهور كثيرًا في وسائل الإعلام المرئية، مفسرة ذلك بأنني لم أرد أن أجعل من نفسي: «فرجة يتفرج عليها الناس» فلفت ذلك نظري إلى عنصر في شخصيتي لم أكن قد تنبهت له من قبل. على أن التحولات الذهنية والروحية في حياتي واضحة في سيرتي، وأعد إن شئت قراءة الفصل المعنون «لندن.. سنوات التحول الكبير في حياتي» من كتاب «في الخمسين عرفت طريقي» ففيه إجابة - أرجو أن تكون شافية - على تساؤلك. نقد الادب.. نقد الحياة
- لا أرى أن القول بأن «النقد الأدبي» فرع من «نقد الحياة» يعد تسليمًا بما يسمى «النقد الثقافي»، إنما يعد ذلك تسليمًا بأن الحياة معنى كلّي معرفي، والنقد الأدبي فرع معرفي من فروع ذلك الكل. وأنت محتاج إلى إعمار الكون في كل ناحية من نواحيه إلى امتلاك «عقلية ناقدة»، تستوعب ما هو كائن، لكنها لا تأخذه على علاّته، وإنما تقلبه على كل وجوهه، وتستخرج كل احتمالاته، وتعرض كل بدائله، بعقل مجرد، ونفس حساسة قادرة على السّبر، ومتقبلة للآخر، ومؤهلة لصياغة ما تجده من حقيقة في دقة ووضوح، يستوي في ذلك أن يكون الموضوع المطروح والمادة المتناولة جغرافية الأرض، أو تاريخ البشرية، أو علم الزراعة أو الاقتصاد، أو الاجتماع، أو الأدب، أو الفيزياء، أو الهندسة، أو الطب، أو الكمبيوتر، أو ما إلى ذلك من فروع المعرفة اللامتناهية. ذلك أمر لازم في إدراك معنى رؤية الحياة بعين ناقدة، وهو شيء مختلف عن القول بفكرة ما يسمى بالنقد الثقافي،أي رؤية النص الأدبي معتمدًا بالضرورة في صورته ومعناه على السياق الذي أنتجه، وبخاصة سياقه الثقافي. واعتراضي لا يتجه إلى المصطلح - فأنا غير معنيّ به - وإنما يتجه إلى تطبيقه الذي غالبًا ما ينتهي إلى تضخيم مفردات علوم أخرى، واختزال عناصر النص الأدبي إلى أقصى حد، وهذا عندي ظلم ما بعده ظلم.
- لقد ودع التعليم الجامعي في الوطن العربي كله الخلق والابتكار منذ زمن بعيد، وهو من يوم أن فعل ذلك كفّ عن أن يكون عنصرًا فعالاً في تكوين «الناقد» - أي ناقد. ولقد كان مرجوا أن يحقق هذا التعليم هدفه الطبيعي بتكوين عقلية ناقدة بصيرة تحلل الحياة - في شتى جوانبها - لتعيد تركيبها برؤية إيجابية تصل بها إلى صيغة ملائمة للعصر، ولكن هذا الهدف أفلت من هذا التعليم منذ رضي بأن يخبئ رأسه في الرمال، ويحل «التلقين» محل التعليم، و«المعلومات» محل «المعرفة». وبوسع كل أحد أن يعطي شهادته في ضوء هذه الأعداد الغفيرة الهائمة على وجوهها، والتي تحشر حشرًا في أماكن تنقصها كل المقومات اللازمة، والتي تكتفي في نهاية الأمر باستظهار قشور «المعلومات» ولا أقول حتى «قشور» المعرفة. إن البحث عن «العقلية النقدية» في هذا الجو الذي وصفته - ولستُ بعيدًا أبدًا عن واقعه - يعد ضربًا من خداع النفس، أو هو نوع من مطاردة السراب!
- نظام التعليم محتاج إلى ثورة حقيقية، ذلك أن عناصر «التلقين»، و«التكديس»، و«الاستظهار»، و«تقديس الامتحانات»، قد كرست، ونشأت حولها أسوار تحميها، منها عادات المتعلمين الضارة، ومصالح المعلمين، وأهداف السياسيين، وعلى ذلك أصبح «تفكيك» هذا الوضع القائم أمرًا في غاية الصعوبة. ويزيد في أمر هذه الصعوبة أنك محتاج إلى قوة قوامها في حدها الأدنى مبان تعليمية ملائمة، ومعلمون أكفاء بأعداد كافية، ومناهج صالحة للتكوين السليم، ورقابة دائمة مستنيرة على العمل، وفصل كامل بين الأهداف التعليمية والأهداف الشخصية، وأمور أخرى كثيرة تجري أمور التعليم لدينا حاليًا في تيار معاكس لها كلية. فإذا أضفت إلى هذا أن الأجيال التي تتدفق إلى العمل بشكل دائم تكونت على النظام الحالي ذاته تبيّنت أن كل أسلحتك مفلولة، كما صح عندك أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه. وأشك في أنه توجد مجرد النية لفتح صفحة جديدة تغير المسار الحالي للتعليم، وآسف لأن إجابتي عن سؤالك هذا متشائمة تمامًا.
- محمود شاكر والسعيد بدوي عالمان لغويان عربيان يختلفان في طريقتهما إذ ينزلان معترك الحياة، وفي منهجهما الإجرائي في المعرفة، لكنني وقد صحبتهما شطرًا طويلاً من حياتي أرى أنهما متفقان في استراتيجية المعرفة، وذلك لأن بنيتهما الثقافية العميقة بنية كلاسيكية عربية أصيلة، ثم إن كليهما يتصف بقدر هائل من الاكتراث بالآخر، وتحمل العمل البحثي الشاق، والسخاء في بذل المعرفة، والثبات على المبدأ والجهر بالرأي، وعلى ذلك فهما يسبحان معًا في التيارات العميقة البعيدة ذاتها، وهما لا يقبلان المصالحة فيما لا يقبل المصالحة، وقد ينشأ عن ذلك جفوة مع الآخر في أحيان كثيرة. لم أحاول التقريب الشخصي بينهما على الرغم من صحبتي شبه الدائمة للسعيد بدوي، وترددي المتكرر على مجلس محمود شاكر، وذلك لعلمي أن ما بينهما من صدع على السطح يصعب جبره، لكنني في جميع الأوقات والأحوال عرفت لكلّ قدره الرفيع في الناحيتين الشخصية والعلمية وتأثرت حياتي بهما إلى حد كبير، عبرت عن قدر محدود منه في بعض ما كتبت، وبقي قدر غير محدود يغمر ذكرياتي وحاضري. وأنا مدين لهذا القدر بكثير من الأفكار التي تلتمع في ذهني، وبكثير من ساعات البهجة التي ترطب حياتي. رحم الله محمود شاكر وأطال في عمر السعيد بدوي. |