اللغة حياة: هل لبنان منصرف أم ممنوع من الصرف؟

اللغة حياة: هل لبنان منصرف أم ممنوع من الصرف؟

أيقظني الهاتف ليلًا: «ليتكَ اكتفيت في مقالتك بما يلتبس فيه وزن فَعّال بما تزاد فيه الألِف والنون، إذن لتحاشيت السقوط في تلك الهفوة، وهي قولك إنّهم منعوا كلمة عدنان من الصرف مع أنّ نونها أصليّة، وحقّها الصرف من أجل ذلك. والصحيح أنّ نون عدنان الأولى هي الأصليّة أمّا الثانية فزائدة، ولذلك كان المنع من الصرف». إنّه كان يومئ إلى مقالتي: «قد يعامَل الأصليّ معاملة الزائد» (العربيّ، العدد 618) التي أشرت فيها إلى أنّ منع اللغويّين لنحو حَسّان وغَسّان من الصرف مع تردّدهم بين كون النون أصليّة أو زائدة فيه، يسمح بالاستنتاج أنّ العرب تميل إلى منع الأعلام المذكّرة المنتهية بألِف ونون من الصرف سواء كانت نونها أصليّة أو زائدة.

وأَجبتُه: «إنّني أفرّق بين المكرّر والزائد، فالنون الثانية في عدنان مكرّرة، عندي، كتكرار الطاء في كلمة فسطاط والرّاء في كلمة ضِرار، وكلّ ذلك من قبيل الاشتقاق؛ أمّا الزيادة فليست اشتقاقًا، بل هي ضمّ شيء غريب عن أصل الكلمة إليها؛ فالألِف والنون في عُثْمان وقَحْطان، مثلًا، لا صلة بنيانيّة بينهما وبين العثم والقحط، على حين أنّ النون الثانية في عدنان مأخوذة من النون الأولى التي هي من بنية الكلمة». فصمتَ الهاتف قليلًا ثمّ قال: «طرْح يستحق التفكير».

نعم، لقد افترضت في مقالتي المشار إليها، ولو لم أصرّح بذلك، أنّ عدنان على وزن فَعْلال، بتكرار لام «عدن» وهي النون، وليس على وزن فَعْلان؛ ووزن فَعْلال ليس ممّا يمنع من الصرف، ومع ذلك وجدناهم لا يصرفون تلك الكلمة للسبب المومأ إليه. إلاّ أنّ ملحوظة الهاتف جعلتني أفكّر من جديد في الفرضيّة التي سقْتها، وكدت أقنع الهاتف بها، أو تركته متردّدًا بين قبولها ورفضها.

وما كان ذلك الهاتف إلاّ نفسي التي أقلقتني من نومي ودعتني إلى التدقيق والتحقيق, فطفقت أبحث عن وزن فَعْلال، وقلّبت النظر في كل ما استطعت استقصاءه من الكلمات التي تنتهي بنون بعدها ألف ونون أخرى، سواء كانت أعلامًا أو صفات، لأرى إن كانت حقًّا على وزن فَعْلال أو هي، خلافًا لزعمي، على وزن فَعْلان أو على قريب منه. وأوّل ما اكتشفته أنّ العرب لم تستعمل وزن فَعلال المكرّر اللام قطّ (وزن صَلْصال وخَلْخال ونحوهما هو فَعْفال وإنْ ألحقه اللغويّون بفَعْلال، وأمّا نحو قَرطاس - بفتح القاف - فلا تكرار فيه، وهو نادر)، وكادت العرب تهمل وزن فُعلال وفِعلال بلام مكرّرة، أي أنّها تحاشت تكرار لام الكلمة لاسيّما في الثلاثيّ؛ فالوزن الذي أزعمه مشتقًّا من الثلاثيّ لا يكاد يكون عربيًّا، إلاّ إذا صحّ أنّ النون في مثل عدنان مكرّرة، وصحّت إشارة ياقوت إلى تكرار النون في اثنين من أعلام الأمكنة هما: رُهْنان وسمْنان (بحركات السين الثلاث).

وقد أغراني الاحتمال الأخير، لأنّه يمنحني مزيّة المكتشف لوزن عربيّ لم يتنبّه له أحد من اللغويّين، وإن أوحى به ياقوت. لكنّني وجدت في الوقت نفسه صفات مشبّهة على وزن فَعلان، وآخِرُ أصلها نون، نحو: وَسْنان، وحَزْنان، وسَخْنان، وفَيْنان، وقَرْنان (ذي قرون)؛ ووجدت اسمين أصلهما صفة مشبّهة، على الأغلب، وعلى الوزن نفسه، هما: عَكنان (كثير، وتقال للأَنعام)، ومَكْنان (نوع من النبات). والألِف والنون في الصفة المشبّهة زائدتان، بلا خلاف، فينبغي أن يكونا كذلك في عدنان، لأنّ أصله صفة مشبّهة بمعنى مقيم، إذا صحّ ما استنتجناه من شرح المعاجم. فاعتراض مقلقتي صحيح، وقول ياقوت الحمويّ في «معجم البلدان» بتكرار النون مراد به، على الأرجح، لفظُها في موضعين، وليس اشتقاقها من النون الأخرى؛ ففرضيّتي غير دقيقة.. لكنّ هذا لا ينقض القاعدة التي استنتجتُها في المقالة الآنفة الذكر، بل يُخرج عدنان من الأمثلة المؤيّدة لها.

غير أنّ استقصائي أدّى فوائدَ أخرى، قد يصحّ أن تكون إضافات مهمة على قواعد الممنوع من الصرف؛ وذلك أنّ بين أعلام الأماكن التي مرّ ذكرها: رُهْنان وعِرْنان، وقد منعهما ياقوت من الصرف وأشار إلى جواز أن يكون الأوّل تثنية لرُهْن، أي تثنية للجمع (رُهْنٌ هو جمع رَهْن)، وأن يكون الثاني جمعًا لعِرْن (ضرب من الشجر)، وشبَّه ذلك بصِنْوان، جمع صِنْو. والحقيقة أنّ صِنوان تقال لمثنّى صِنْو فتُكسر نونها، وتقال لجمعه فتكون حركة النون بحسب محلّ الكلمة من الإعراب. وجمع التكسير لا يمنع من الصرف إلاّ إذا كان من منتهى الجموع، وليس رُهْنان كذلك، فيبقى احتمال التثنية. وقد انقسم اللغويّون بين عدم صرف العَلَم المفرد المأخوذ من مثنّى وصرفه، أي رفعه بالألِف ونصبه وجره بالياء؛ ولعلّ علّة منعه من الصرف أنّ نون المثنّى لا تحتمل الحركة المنوّنة، فالمثنّى أشبه بالممنوع من الصرف، فإذا دخل في العلميّة ظلّ التنوين ممتنعًا عليه، لكنّه عُدّ اسمًا مفردًا فأدرج في غير المنصرف.

والحقيقة أنّ العرب درجت على منع بعض الأعلام المأخوذة من المثنّى من الصرف، مثل: حَكَمان (وكانت ضيعة بالبصرة) تشبيهًا لها بما ألِفُه ونونه زائدتان؛ وعلى معاملة بعضها الآخر معاملة المثنّى المنصرف، ولا سيّما إذا دلّ على شيئين حقيقيّين مثل الأَبْرَقَيْن. وقد قصر الخليل المنع من الصرف على ما فيه ألِف ونون ونفاه عما فيه ياء ونون، لأنّ وزنه لا نظير له في الأسماء المفردة؛ لكنّ بعض الأعلام الشائعة قديمًا وحديثًا تنتهي بياء ونون، مثل: مُحَمّدين وحَسَنَيْن، ولا يساغ صرفها. أمّا البحرين فحالة أخرى لكونها معرّفة بالألف واللام، وقد نسب اللسان إلى الليث رفعها بالضمّ وجرّها بالكسر، واستنتاجًا نصبها بالفتح، وأمّا بناؤها على الكسر فلا مسوّغ له. فصرف المثنّى أو منعه من الصرف راجع إلى الاستعمال، ولا قاعدة تضبطه، لكن يرجح، عندنا، صرف ما دلّ على شيئين حقيقيّين، وفق ما قدّمنا.

وممّا ظفرنا به صرف ابن الأعرابيّ والأزهريّ لاسم «لبنان»، خلافًا للرأي الشائع. لكنّهما يجعلان الكلمة على وزن فُعْلان، وذلك يعني أنّها استثناء على القاعدة التي تقضي بمنع صرف العَلَم الذي تزاد فيه الألِف والنون. وعليه فإنّ نحو قول المتنبي:

وعِقابُ لُبنانٍ، وكَيْفَ بِقَطْعِها
وَهوَ الشِّتاءُ وصَيْفَهُنَّ شِتاءُ

ليس لجوءًا إلى الضرورة الشعريّة. على أنّ بعض الشعراء منعوا «لبنان» من الصرف، كالشاعر الإسلاميّ أبي دَهْبَل الجُمَحيّ في قوله:

فإنَّ شُكرَكَ عندي لا انْقِضاءَ لَهُ
ما دامَ بالجَزْعِ مِنْ لُبْنانَ جُلْمودُ

ويرجح عندنا المنع من الصرف، هنا، للعلميّة وزيادة الألِف والنون، وربّما للأعجميّة.
-----------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

مصطفى عليّ الجوزو*