أرقام محمود المراغي

أرقام

إنهم يعرفون أكثر!

المعرفة هي البداية!

والمعرفة أيضا هي النهاية!

فلكي تتقدم لا بد أن تكون مزودا بالمعرفة، ولكي "تعرف" لا بد أن تحرز شيئا من التقدم.

إنها الدائرة المغلقة التي تتفاعل أجزاؤها بالضرورة، والتي تلخص لنا قضية أساسية في عالم اليوم اسمها: الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية. أو بين الشمال والجنوب.

السؤال المطروح : هل تتسع الهوة أم تضيق ؟

وإذا أخذنا قضية المعرفة مؤشرا لاتساع الهوة أو ضيقها، وكان دليلنا في ذلك مدى انتشار أدوات الثقافة، فماذا يمكن أن نجد ؟

الأدوات الثقافية، أو أدوات المعرفة : كلمة منطوقة أو مسموعة أو مرئية، كتاب أو صحيفة أو جهاز المذياع أو التليفزيون، بالإضافة للوسائط الحديثة من الكمبيوتر، إلى شرائط الكاسيت، واسطوانات الموسيقى. ماذا حدث في هذا المجال.. هل يمكن أن تكون أرقام إنتاج أو استهلاك أو تداول هذه الأدوات مؤشرا حقيقيا لقياس ثغرة التخلف والتقدم .. أو الثغرة المعرفية كحد أدنى ؟

ثغرة تضيق

القراءة الأولى والسريعة للأرقام تقول: نعم، لقد ضاقت الهوة بين الفريقين، فريق الشمال وفريق الجنوب. كانت الهوة الأوسع في المجال الأكثر حداثة وهو التليفزيون، فضاقت المسافة إلى حد كبير. كانت النسبة بين من يملكون هذا الجهاز في البلدان النامية إلى من يملكونه في البلدان المتقدمة (1 : 26)، وكان ذلك عام 1970 ، فلما جاء عام 1992 ( وبعد ما يقرب من ربع قرن ) أصبحت النسبة ( 1 : 13).

نفس الشيء في مجال المذياع. كانت النسبة ( 1 : 13)، فأصبحت (1 : 8). ومن الكلمة المرئية والمسموعة إلى الكلمة المقروءة نلاحظ نفس الشيء.. فنسبة انتشار الصحف اليومية عام 1975 في الدول النامية كانت (1 : 10) بالقياس للدول المتقدمة.. وأصبحت النسبة عام (92) : (1 : 8).

حدث ذلك في مجال الصحف، لكن التقدم كان أكثر بطئا في مجال آخر للكلمة المكتوبة هو: الكتاب الذي كانت نسبته عام (70): (1 : 11)، فأصبحت عام 91 (1 : 10) فقط.

ثم، تجيء قضية التجارة الدولية في السلع الثقافية مثل الرسوم والتماثيل والأسطوانات وغيرها فنجد أن نصيب الدول النامية قد ارتفع من (10%) عام (75) إلى حوالي (30%) عام 1991. الثغرة إذن تضيق، لكن الثغرة أيضا قائمة، وبما يثير السؤال: من يعرف.. ماذا ؟ وما هو دور هذه المعرفة في تقدم الإنسان وتحقيق رفاهيته، بل للوفاء بحاجاته الأساسية المادية والمعنوية.. الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، فكما قلنا، فإنه "في البدء كانت المعرفة".

تقول الأرقام إنه في عام 1991 كان نصيب كل مليون من سكان الدول المتقدمة (513) عنوانا لكتاب جديد، و.. في المقابل كان نصيب كل مليون من سكان الدول النامية (55) كتابا فقط، وكانت المحصلة النهائية أن الدول المتقدمة التي لا تضم أكثر من (23%) من سكان العالم تقدم ( 73.6%) من إنتاج الكتب العالمية. و.. العكس صحيح في البلدان النامية، أما الأسباب فهي اقتصادية وثقافية".

نفس الشيء في مجال الصحف اليومية.

في عام 1992 كان نصيب كل ألف من سكان البلدان المتقدمة (350) نسخة من هذه الصحف، في مقابل (43) نسخة لنفس عدد السكان في البلدان النامية.

بطبيعة الحال، فإنه تأتي نفس الأسباب، الأمية، والقوة الشرائية، ولكن يضاف لها مجموع السياسات التي تنتجها الكثير من بلدان العالم الثالث والتي تفرض ضرائب ورسوما على الواردات ومن بينها: ورق الصحف. كما تدخل في قائمة الأسباب لعدم انتشار الصحف في الدول النامية: صعوبات النقل، وضعف المورد الإعلاني الذي تعيش عليه اقتصادات الصحيفة، ولنتصور دولة مثل الفلبين التي تتكون من مئات الجزر ، وينعزل بعضها عن العاصمة وعن العالم عدة شهور في السنة بسبب رداءة الطقس. في مثل هذا البلد : كيف تنقل الصحيفة ؟

إن شبكة المواصلات أيضا تلعب دورا في انتشار أو عدم انتشار الصحف، والتي ينبغي أن تصل للقارئ في يوم صدورها وقد عالجت بعض الدول ذلك بمنح إعانات لنقل الصحف. ولكن بعض الحكومات عجزت عن ذلك، فكانت النتيجة كما نرى : سكان الدول المتقدمة عام (92) أقل من (30%) من تعداد العالم لكنهم يحظون بحوالي 70% من توزيع صحفه، والعكس في الدول النامية.

المذياع شيء آخر!

التليفزيون هو الأكثر تأثيرا، وعلماء الرأي العام وخبراؤه يقولون: إن الكلمة المسموعة عندما تكون مصحوبة بالصورة المتحركة تترك أثرا أعمق وأسرع في المتلقي. إنها لا تحتاج إلى جهد يبذله القارئ، بل إنها تقدم مادة أكثر إمتاعا وحيوية وإقناعا، فالأحداث على شاشة التليفزيون متحركة. كانت الدول المتقدمة قد قفزت فأصبح كل ألف منها يمتلك (259) جهازا للتليفزيون، أي أن هناك - تقريبا - جهازا واحدا لكل أسرة، وذلك مقابل عشرة أجهزة فقط لكل ألف من سكان الدول النامية، أي : جهاز واحد لكل مائة أو لكل (20) أسرة أو يزيد.

الصورة تغيرت - وفق إحصاءات 92 - فقفز الجنوب، وبعد أن كانت النسبة بين من يمتلكون جهازا مرئيا في (1970) (1) للدول النامية و (26) للدول المتقدمة، أصبحت النسبة (1 : 8). التقدم كبير، لكن المذياع هو الأساس في الدول النامية والفقيرة.. فقد ظل استخدام التليفزيون مرتبطا إلى حد كبير بالانتقال إلى الحضر، وظل مرتبطا بتوافر الكهرباء، ( المذياع - الترانزستور - البطاريات )، معادلة ساعدت على انتشار المذياع، حتى في الحقل، وفي الطريق، فكان هو الأكثر تأثيرا وانتشارا في الجنوب. ضاقت الثغرة إذن في هذا المجال، ولكن بقي الاعتماد على برامج الشمال كبيرا وواضحا، ويزيد وضوحا في أرقام التجارة الدولية لمجموع ما يمكن تسميتها : السلع الثقافية والتي تشمل : المواد المطبوعة، أسطوانات وشرائط الموسيقى، اللوحات الفنية، الصور الفوتوغرافية وغيرها من أدوات نقل الثقافة.

في هذا المجال أيضا يستمر قانون العلاقة بين الشمال والجنوب ساريا، نعم، هناك تقدم، لكن الثغرة قائمة.

كانت الدول النامية تقدم 10% من التجارة الدولية في هذا المجال عام (75) ، فأصبحت تقدم - في عام 91 - (30%) لكن المعادلة ما زالت مختلة بالقياس لعدد السكان.

السؤال: أي قدر من التقدم تعكسه هذه الأرقام ؟ والجواب : إنه "بعض التقدم" فالصورة الكاملة تشمل "الكم" و "الكيف"، فأي نوع من المعرفة يزداد انتشارا في الدول النامية ؟.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات