أشجار الياسمين

أشجار الياسمين

حين ابتعدت عن وشاح بيته العتيق، المكون من شوكيات الصبار، كانت الريح تهب في فوضى حتى كادت تخلع عنها رداءها وتستولي عليه. هذا الرداء الذي أهداه إليها هو...نعم هو... في ذلك الزمن... البعيد البعيد وفي يوم كانت فيه الشمس تلهث لكثرة ما اشتد لهيبها، كانا واقفين كشجرتي لوز متوحدتين مع الجبل، تأملها طويلاً:

- سآتيك بهدية.

-ولمَ؟ ما المناسبة؟

- لتضمك حين لا أكون موجودًا.

وبرّ بوعده، وأتاها بالرداء، كان لونه الذي لا لون يشبهه، يشبه قصة حبهما، فقد اتفقا دون أن يتفقا على الغوص في مستنقع الإيهام.

- لقد كنت صغيرة وقليلة الخبرة، كالبرعم أول الربيع يدهشه كل شيء، كنت أعتبر كل ما يقوله بديهة من بديهيات الطبيعة، وكان يدرك ذلك، فيملؤني بكل ما يريد، وفجأة أحسست بأنني لست أنا، نعم لست أنا، هذه المخلوقة التي أراها في مرآتي ليست أنا، هي سواي، لم أفكر إن كانت حسنة أم سيئة، فهذا لا يهمني في شيء طالما أنها ليست أنا.

وقتها، وقتها فقط أحسست بالغربة، ليس عمّا حولي أو عنه فقط، ولكن عن نفسي أيضًا.

أوشك الدرب المتفرج النازل عن الجبل أن ينتصف. ولكن الوحل يمسك بقدميها حتى كانت وهي ترفع قدمها عن الأرض، كأنها تسحب قدمها عن أرض مملوءة بالفراء.

- كنت كل الناس بالنسبة إليه، ولم لا؟

ألم أكنه هو، نسخة مطبوعة عنه، ورسمًا بلا حياة، ولا معارضة، وكيف لا يكون كذلك وهو المرسوم بأقلامه، وحين رفضت أن أبقى كذلك، صفعني، لم تكن الصفعة الأولى بالعدد، لكنها الأولى التي شعرت أنها ليست موجهة إلى خدي، بل روحي.

أنت تافهة...

كلمة صغيرة، ليست سوى بضعة حروف رقيقة، ولكن ترددها عبر ردهات روحي، كانت كصدى انفجار قنبلة.

نهشها التعب من كل جانب، الريح، الطين، والذكريات، قذفت نظراتها تحاول رؤية آخر الدرب، ولكن الغيوم المتظاهرة على ساحة السماء حجبت الكثير من نور الشمس الأصيل ففرقت الأرض بما يشبه الليل.

- هذا الوقت من الزمن، يشبه إلى حد بعيد علاقتنا، لا ليل ولا نهار، لا ضوء ولا ظلام، وجوده في التلاشي، وتلاشيه في الوجود.

طويلة مازالت درب الغابة، وبعيدة مازالت عنها البيوت.

- ذلك اليوم لن أنساه، يوم رأيت طريقي، وبدأت السير فيه، ويوم رأيته خلسة وهو يرش فوقه بذور الشوك، ويمدها بالسماد والماء والنار، منذ ذلك اليوم وقدماي داميتان تؤلماني.

أجل... منذ ذلك اليوم.

تأملت ما حولها، يجب أن تسرع، فلم يبق في الدور إلا شعاع واحد، وقريبًا تخبو، صفعت الباب خلفها، لن تعود، تذكرت أصص النباتات التي تدخرها خلف الشبابيك.

- سوف تموت. لن يتذكر أن يرويها.

تذكرت (طائر الكناري) في قفصه:

- سوف يموت، أيضًا لن يتذكر أن يطعمه أو يسقيه.

تذكرت... تذكرت.

طاف بخاطرها برد الليالي وهي وحيدة تغفو على ألم الصراخ بروحها، وحيدة تكلم الجدران وغطاؤها يغفو قلقًا فوق جسدها المحموم.

- إن بقيت سأموت...أنا أيضًا لن يتذكر أن يطعمني أو يسقيني.

بمزيد من الإصرار تشبثت بردائها القديم، ولم تسمح للريح بسحبه عنها.

- الريح لا تحتاج إليه.

أما هي فتحتاج إليه، لأنها لا تريد أن تخرج من كهفها دون أثر.

- لا... لا... أريد أن أندم...هو سيذكرني بضرورة القرار.

تكاثفت طبقات الوحل، واستقامت تريد قدميها، ولكنها مصممة على قهر تلك الأوحال.

- لا مجال... الوقوف الآن يعني الموت، هذه الأوحال لا تفهم، لا تعي بأنني لا أستطيع إعطاءها ما تريد، وهذه الريح قاسية القلب، فهي لا تفهم أيضًا ولا تعي... صحيح لا يترك بيته اليوم إلا المجنون، هكذا يقولون وأنا أضيف: المضطر أيضًا.

أخذ الظلام يلتحف المدى، وتعسرت الرؤية تلك البيوت البعيدة بدت كالأوهام، ولكنها قسّمت نظراتها: نظرة إلى الطريق حتى لا تضل، ونظرة نحو البيوت حتى لا تيأس، وحديثًا صغيرًا مع الرياح حتى لا تتراجع.

تلفتت حولها في فزع، فللمرة الأولى تشعر بأن الليل يريد أن يلبسها، وقد كانت في الماضي تلبسه، وهاهو يحاول فك أزرارها ليرتديها، وتلك النجوم، لقد كانت صديقة لها في الماضي، اليوم، ولأنها تحتاج إليه أكثر من أي يوم، مضى، تنام خلف الغيوم هانئة.

هل هذا هو حال الأصحاب دومًا؟!!

ولمَ لا؟ أليس هو حال الأحباب أيضًا؟

صوت غبي - هكذا يبدو - ينطلق من مكان ما، في هذا المكان المنفلت من السياج، لا تحديد، أضرمتها الريح والليل والخوف قوة وتصميمًا، تابعت قتالها العنيد مع الوحل:

- قريبة تلك الطريق المعبدة، المهم ألا أتوقف، وألا أتراجع، وألا أضل.

كانت تختال، وهي واقفة إلى جانبه، بثوبها الأبيض، مهرجان من الأضواء والموسيقى، آه ما أعذب الموسيقى! كانت تطير بالحفل والمحتفلين بجناحين كبيرين إلى فردوس من المشاعر.

لاتزال كل لحظة من ذلك اليوم، لقد أدهش الحضور جميعًا ثوب زفافها بذيله الطويل الطويل والذي وصل طوله إلى عشرة أمتار.

هكذا أراده، أراد ثوب زفاف، بذيل طويل جدًا.

لم تكن تفهم وقتئذ لماذا، بعد ذلك فهمت:

- الطاووس أجمل الطيور، وذيله أجمل الذيول وأطولها، ولكنه طائر غبي لا نفع فيه، فهو لا يحسن سوى التبختر، وعرض ذيله على كل من هب ودب، إنه للعرض فقط، وهذا ما كان يريده لها.

وهذا الثوب الأبيض، لماذا هو أبيض؟

- لم أكن أعرف، بعد ذلك عرفت، طبعًا ليبدأ الزوج بعد ذلك بتلوينه، وبكل الألوان المتاحة وغير المتاحة.

ولكن البنات غبيات، مثل الطاووس تمامًا، فهن لا يعتبرن الزواج فرحًا إلا بالثوب الأبيض، وبالذيل الطويل الطويل.

لقد ملكت الدنيا.

قال لها، وهو يضمها إلى صدره حين انفرد في غرفتهما، فرحت كثيرًا بهذه الكلمات، فهي لم تفطن إلى أنها كانت من ضمن متاع هذه الدنيا التي ملكها.

بعد ذلك... سمح لها أن تزرع الورد - طبعًا داخل الأصص، وأن تقتني الطيور طبعًا داخل أقفاص - كما سمح لها - وعن طيب خاطر أن تكنس، وتطبخ... و... وحتى أن تموت من الإرهاق، أو من الجفاف.

فرّخت غربة... والغربة فرخت غربة وغربة، والغبار هذا الذي لا ينتهي أبدًا، فكلما نظفته عن الأثاث والأرضيات ازداد وكأن التنظيف يعطي مفعولاً عكسيًا، وحتى أصبح القلب مجرد كثيب من رمال متحركة، لا تعرف الراحة ولا الري، ولا الشكل، فهي كالدمية في قبضة العواصف تحرّكها كيف تشاء، تشكّلها كيف تشاء، وإذا حاولت الاعتراض، تبددها أشلاء، وأيضا كيف تشاء.جف البئر النائم في حضن الحديقة، وجفت أشجار الصفصاف، واللوز، والسنديان.

حتى المطر لم يعد يزورها، وحده الباب العتيق بقي مزهرًا، وبقيت عيناها معلقتين على تلك الزهور.

اقترب ذلك الصوت الذي لا يشبه غيره، أو أنها هي التي اقتربت، امتزج الرعب بالتصميم فاستماتت لتخليص قدميها من الوحل، ولإبقاء ردائها ملتفًا حول جسدها.

- لا... ليس الآن... وليس هنا مكان وزمان الراحة... لا تخذليني يا قواي.

أوشكت الدرب أن تنتهي ولو ببطء، محال ألا تنتهي، إنني أسير ولو ببطء، أجل كالسلحفاة ولكن حتى السلحفاة حين لم تتوقف سبقت الأرنب، إذن سأصل، لابد.

صوت من بعيد يغني بحنان. آه ما أحلى الغناء بحنان.

استشرست الريح في قتالها للحصول على الرداء.

وأطبق الوحل المتجمد على قدميها وازداد وضوح صوت الغناء الحنون.

أرسلت نظرة نحو البيوت، وابتسمت:

- لا بأس أيتها الريح - وخلعت رداءها- خذيه... طوّحت به في الهواء فتلقفته الريح وهرولت مبتعدة، فرحة بصيدها الثمين، أما الوحل فقد أعطته حذاءها وانطلقت، فالفراشات لا يحتفلن بالأحذية، ولا يحتجنها... الدرب المعبدة بعد خطوة، خطوة واحدة، وهاهي البيوت، وأشجار الياسمين التي لاتزال تعاند البرد والليل وتطرح زهرها كالنجوم.

أصبح صوت الغناء الحنون قريبًا جدًا، فلم يعد يفصلها عنه سوى همسة واحدة.

أرَاهُنّ لا يُحْبِبنَ مَن قَلّ مَالُهُ ولا من رأينَ الشيبَ فيه وقسا
وما خفتُ تبريحَ الحياةِ كما أرى تَضِيقُ ذِرِاعي أنْ أقومَ فألبَسَا
فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعة وَلَكِنّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا


امرؤ القيس

 

خديجة الأطرش