قيم جديدة لعصر جديد.. د. أحمد أبوزيد

قيم جديدة لعصر جديد.. د. أحمد أبوزيد

المشكلة أن حاجتنا إلى الدهشة والافتتان اللذين يثيرهما التقدم المستمر فى مجالات العلم، لا تقل عن الحاجة إلى الطمأنينة، التي تنجم عن القيم الأصيلة الراسخة التى تمسك ببناء المجتمع.

كان الرأى السائد بين كثير من المفكرين حتى عهد قريب هو وجود عدد من القيم المطلقة مثل قيم الحق والخير والجمال فى كل المجتمعات الإنسانية، حتى وإن اختلفت مظاهر وأساليب التعبير عنها. ولكن فى أواخر القرن الماضى طرأت بعض التعديلات على هذه النظرة فى الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، تحت تأثير مبادئ ودعاوى مايطلق عليه اسم «العهد الجديد New Age»، التى سيطرت على الرأى العام الأمريكى بعد حرب فييتنام، وما تبعها من انحسار الإيمان بكثير من القيم والمبادئ الأخلاقية المتوارثة وانتشار الدعوة إلى مراجعة الذات وإعادة النظر فى القواعد والأسس التى يقوم عليها سلوك الدول الغربية المتقدمة، وضرورة تقبل مبادئ التعددية الثقافية والأخلاق الواقعية بدلا من التمسك بالأفكار النظرية المطلقة التى لا تلبث أن تنهار ويظهر زيفها أمام الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التى يتعرض لها العالم. فكل شىء يتغير بسرعة رهيبة وليس ثمة مفر من أن تدرك الدول والأفراد هذه الحقيقة وتقبلها، بل وأن تشارك فى تحقيق هذا التغيير ودفعه إلى الأمام والخضوع لسطوة المبادئ والقيم الجديدة التى يفرضها الواقع الحالى الذى تحكمه قوانين أخلاقية جديدة كثيرا ماتتعارض مع القيم التى درج عليها المجتمع الإنسانى خلال عقود طويلة ماضية. والمثال البسيط والواضح هو التغيرات التى طرأت على القيم التى تحكم العلاقات الجنسية المشروعة، التى يقوم عليها النظام العائلى وما ترتب على هذه التغيرات من ظهور أشكال جديدة مثل العائلة القائمة على (زواج) المثليين.

وقد اهتم بعض كبار المفكرين العاملين باليونسكو بهذه المشكلة فكتب جيروم باندى Jerome Binde مثلا هو وزميله جان جوزيف جو مقالا بعنوان «أين ذهبت القيم» نشرت جريدة «الأهرام ويكلى» صورة منه فى عددها بتاريخ 20 - 26 ديسمبر 2001 ذهبا فيه إلى أنه خلال عصر التنوير كان فولتير يقول إنه لاتوجد سوى أخلاقية واحدة، مثلما لاتوجد سوى هندسة واحدة. إلا أن هذا النوع من الأحكام المطلقة قد انتهى عهده، لأن مصادر الأخلاقيات متعددة. وانعكس ذلك فى ظهور مبدأ النسبية الثقافية للقيم وازدياد الشك حول المعنى المطلق للحق والخير والجمال. ثم تعرض المفهوم خلال القرنين الماضيين لكثير من الجدل حول أبعاد القيم ودورها فى المحافظة على كيان المجتمع، وقدرتها على الاستمرار فى الوجود والتغيرات التى يمكن أن تطرأ عليها نتيجة للاحتكاك الثقافى والاستعارات الثقافية والمفارقات بين متطلباتها وبعض الأوضاع القائمة بالفعل.

وقد بلغت التغيرات التى شهدها العالم خلال القرن الماضى حدا من التنوع والعمق يثير الدهشة والإعجاب الممزوجين بالخوف من النتائج التى قد تنجم عنها، وبخاصة حين يمس التغيير بعض الثوابت المتوارثة والراسخة رسوخا شديدا فى بنية المجتمع الإنسانى، كما حدث أخيرًا لبعض النظم المستقرة والقيم الأخلاقية التقليدية مثل نظام وأخلاقيات الزواج والسلوك الجنسى والعلاقة بين الأجيال المتتالية واختفاء ظاهرة الاحترام لكبار السن. وصحيح أن التغير هو أحد مقومات الحياة ومظهر من مظاهر الحيوية والدينامية والريادة، وبداية لنشأة أوضاع جديدة قد تمثل كسرا وتحولا فى مسيرة المجتمع وتعديلا فى خط هذه المسيرة، ولكن حدوث مثل هذه الانكسارات والتحولات والتعديلات فى أنساق القيم يثير فى العادة انزعاج المهتمين بمستقبل المجتمع الإنسانى والعلاقات الإنسانية بوجه عام،لأنها تستدعى الشك فى مصداقية القيم ودورها فى توجيه سلوكيات الأفراد وعلاقاتهم بعضهم ببعض, ومدى تأثرها بالأوضاع السائدة فى المجتمع وقدرتها على الثبات والصمود والمقاومة فى عالم يموج بالتغيرات السريعة والتقلبات المتلاحقة، وظهور النزعات الفردية والتيارات الفكرية التى يرى فيها الكثيرون خروجا على المألوف وتهديدا للنظم الاجتماعية والأخلاقية القائمة، كما هو الحال بالنسبة لاتجاهات العولمة ونظريات مابعد الحداثة ودعاوى النسوية وغيرها.

الندوات وسيلة لإدراك حجم المشكلة

وقد استدعت هذه التساؤلات وأمثالها عقد عدد من الندوات والمؤتمرات وإجراء كثير من البحوث الميدانية والمسوح الاجتماعية، لرصد الواقع الحالى واستشراف مستقبل النظرة إلى القيم التقليدية, ومدى الإيمان بفاعليتها وجدواها فى توجيه الحياة العامة فى المجتمع المعاصر السريع التغير, ونوع القيم التى يحتمل ظهورها فى المستقبل نتيجة، واستجابة لهذه التغيرات. ففى خريف عام 2000 عقدت الدول الاسكندينافية مؤتمرا بعنوان (قيم ورؤى) Values and Visions لمناقشة موضوع أساليب وطرق المحافظة على القيم والأخلاقيات التقليدية، ونقلها إلى الأجيال التالية واحتمالات حدوث تغيرات أساسية فى تلك القيم والأخلاقيات وطبيعة هذه التغيرات، وأهم القيم التى يتوقع استمرارها أو ظهورها فى المستقبل وعلاقتها ببعض المفاهيم الأساسية التى يمكن اعتبارها قيما مثل الديمقراطية والتسامح الثقافى والاهتمام بالآخرين، بل وأساليب السلوك المهذب وغيرها من المشاكل التى تشغل الرأى العام فى الدول الغربية والتى نجمت إلى حد كبير عن الخوف من التأثيرات الثقافية للهجرات الأجنبية على منظومة القيم الغربية المتوارثة، وإمكان نقل هذه القيم للوافدين الأجانب لتحقيق الاندماج فى المجتمع الجديد وثقافته. والواقع أن الغرب يواجه الآن مشكلة إعادة تعريف وتحديد المقصود من لفظ (القيم) كمفهوم إنسانى عام، وإن كان يستمد قوته من الدين والتاريخ والتراث الثقافى والاجتماعى ويستند فى وجوده إلى النظم السائدة فى المجتمع.

على الجانب الآخر اهتمت بعض مراكز البحوث فى العالم الغربى بإجراء المسوح الميدانية التى شملت فى بعض الأحيان عددا كبيرا من المجتمعات فى شتى أنحاء العالم بقصد تعرف نظرة هذه المجتمعات إلى القيم التقليدية، التى وجهت الحياة العامة فيها خلال تاريخها، ومدى التغيرات التي طرأت عليها خلال العقود الأخيرة، وموقف الأجيال الجديدة من هذه القيم، وأي القيم ينبغى التمسك بها، والحفاظ عليها، والعمل على استمرارها وتطويرها والارتقاء بها وهل يوجد اتفاق عام فى أى ثقافةعلى ضرورة وجود قيم معينة بالذات فى المستقبل؟ وما هى هذه القيم؟ وهل هناك أرضية مشتركة بين أنساق القيم العليا تحتم على المجتمعات المختلفة التمسك بها هى بالذات؟ وتدفع إلى المحافظة عليها وتدعو إلى العمل على نقلها أو توريثها للأجيال التالية؟.. ومن أهم الدراسات التى أجريت فى هذا الشأن دراسة قام بها (معهد الأخلاقيات الكوكبية (The Institute of Global Ethics فى الولايات المتحدة أمكنه من خلالها تحديد خمس فئات من القيم المحورية اتفق عليها أفراد العينات المأخوذة من عدد كبير من المجتمعات فى مختلف دول العالم، ومن كل القارات والذين يمثلون مختلف التوجهات الفكرية والأيدلوجيات، وهذه الفئات الخمس هى : الحب / التعاطف، الصدق / الأمانة، الإنصاف / التسامح،المسئولية / المصداقية، احترام الحياة، مع الالتزام بمراعاة هذه القيم فى تنشئة الأجيال التالية.

قيم صالحة لكل العالم

وليست هذه على أية حال القائمة الوحيدة التى توصلت إليها البحوث والمؤتمرات وأوصت بالحفاظ عليها لأهميتها فى استمرار الحياة الاجتماعية والمحافظة على هوية المجتمع وتماسكه. فقد أعلن اجتماع «برلمان أديان العالم» فى عام 1992 اتفاق ممثلى الأديان الكبرى على عدد معين من القيم العليا مثل نبذ العنف والتسامح والصدق والإخلاص واحترام الحياة والمساواة فى الحقوق والتضامن، ووجود نظام اقتصادى عادل وشراكة المرأة والرجل فى كل جوانب الحياة. وثمة أمثلة أخرى كثيرة تكشف كلها عن مدى القلق الذى يبعث على الاهتمام بمشكلة القيم وموقف الأجيال الجديدة منها ومدى الاستعداد للتمسك بها أو نبذها واعتناق قيم جديدة بشروط ومواصفات جديدة تتلاءم مع التغيرات التى طرأت فى العقود القليلة الأخيرة على النظم الاجتماعية وأوضاع الحياة فى المجتمع المعاصر وأنماط التفكير لدى تلك الأجيال الجديدة ورؤيتهم للعالم.

وقد كشفت هذه الدراسات والمسوح المختلفة عن وجود مفارقات وتفاوتات جوهرية فى آراء الأجيال الشابة حول نوع القيم التى يؤمنون بها والتى تختلف فى كثير من الأحيان عن القيم التقليدية القائمة الآن والتى تتمسك بها الأجيال الأكثر تقدما فى السن مما يشير إلى وجود فجوة فكرية بين جيل الآباء وجيل الأبناء فى هذا المجال،كما هو الحال فى كثير من المجالات الأخرى، وأنه لم تعد هناك معايير ثابتة تعتبر بمنزلة قيم يمكن الرجوع إليها للحكم على العلاقات الاجتماعية أو السلوك الفردى. فلقد أصبحت المبادئ الاجتماعية والأخلاقية العامة عرضة لصدور أحكام فردية تخضع لمؤشرات وقتية وآنية ومتغيرة، كما اختفى مفهوم القيم (المطلقة) من قاموس الأجيال الجديدة, مما يدعو إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الأوضاع تسمح بقيام أنساق جديدة من القيم لها القدرة على الثبات والتأثير والمحافظة على التماسك الاجتماعى، وما نوع وخصائص ومصادر ومنابع هذه القيم الجديدة فى عصر تسوده النزعات الفردية المتقلبة، ويعانى من الانصراف عن المبادئ والتعاليم الدينية، ولا يكاد يحفل بالتعرف على مقومات التراث الثقافى والأخلاقى، بل ويعتبر ذلك التراث عبئا يجب التخلص منه لتحقيق التقدم الذى يستند إلى مبادئ العقلانية وإنجازات العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة.

تحديات من نوع خاص

و يواجه الإنسان المعاصر تحديات من نوع فريد لم تشهده الإنسانية من قبل، وهى تحديات عامة وشاملة وشائعة على نطاق واسع، ولها تأثيراتها السلبية على أنساق القيم المتوارثة. ويبدو الإنسان عاجزا - حتى الآن على الأقل - عن التعامل مع هذه التحديات بطريقة مجدية تكفل استمرار تلك القيم وعدم اندثارها أو تراجع دورها كعامل من عوامل الضبط الاجتماعى وتوجيه السلوك الفردى والعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع. وإزاء هذا العجز بدأ عدد من المفكرين يرون أنه قد يكون من الأجدى والأفضل أن يشغل الإنسان نفسه بالبحث عن منظومة جديدة من القيم يمكن لمجتمعات الغد أن تتقبلها برضا واطمئنان وتعيش وفق مبادئها، وتعمل على استمرار وجودها وفاعليتها حتى يمكن تحقيق الغاية منها وهى المحافظة على كيان المجتمع وترسيخ معنى الإنسانية فى أذهان الأجيال الناشئة، مع الأخذ فى الاعتبار التغيرات التى طرأت خلال العقود الأخيرة على السلوكيات الفردية والعلاقات الاجتماعية والتوجهات الذهنية لدى هذه الأجيال الجديدة، وتصورها الخاص للمستقبل الذى سوف يعاصرونه.

وثمة شيء من المفارقة فى هذه الرؤية لأن تشكيل القيم لايخضع لقرارات الأفراد أو يتم وفق رغباتهم الخاصة، وإنما يتم خلال عصور طويلة من التطور الاجتماعى والثقافى، وتدخل فيه عناصر كثيرة تاريخية وعرقية ولغوية ودينية بل وبيئية، وهذا ما يعطى القيم أهميتها فى حياة الفرد والمجتمع، وإن كانت الأوضاع المتغيرة فى العالم المعاصر أدت إلى تعديل النظرة إلى أنساق القيم المتوارثة، بحيث أصبحت الأجيال الحديثة تنظر إلى تلك القيم بقدر من الاستخفاف على أنها مجرد اتجاهات ذهنية تقليدية وقديمة، مما يوحى ضمنا بضرورة البحث عن بدائل تتلاءم مع الأوضاع والظروف المستجدة.

التكنولوجيا والقيم

وقد أدت التكنولوجيات الجديدة إلى استبدال علاقة الإنسان بالآلة بعلاقة البشر بعضهم ببعض، وأسهمت بذلك فى تغيير النظرة إلى القيم التى تحكم السلوك الاجتماعى واقتضت - فى رأى الكثيرين - قيام قيم جديدة تراعى الاتجاهات والأفكار والعلاقات القائمة الآن والتى تختلف فى جوانب عديدة عما كان سائدًا فى الماضى غير البعيد، فقد غيرت هذه التكنولوجيات أساليب التفكير والطرق التى يتعرف بها المرء على ذاته وإدراك هويته وتقدير معايير الحكم على تصرفاته فى عالم يعانى من كثير من مظاهر التفكك والتفسخ وانعدام التوازن واضمحلال دور ووظيفة عدد من النظم والمؤسسات الاجتماعية الأساسية، بما فيها مؤسسة العائلة التى ظلت تعتبر حتى وقت قريب الركيزة الأساسية، التى يقوم عليها البناء الاجتماعى بأسره. وقد ساعد التقدم الهائل فى وسائل وأساليب الاتصال، وبخاصة بعد انتشار الإنترنت وما ترتب عليه من تدفق المعلومات من كل أنحاء العالم بغير توقف ودون قيود، على تأثرأنساق القيم التقليدية فى كثير من المجتمعات على مستوى العالم بأفكار واتجاهات غريبة على تراثها التقليدى، وانحازت الأجيال الجديدة إلى جانب التيارات الفكرية الحديثة التى أخذت تفرض هيمنتها على المناخ الثقافى العام وهى تيارات تتميز بالجرأة والتمرد على الموروث التقليدى، وتتعارض فى كثير من الأحيان مع الثوابت التاريخية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية وتتنكر لها على زعم أن الزمن تجاوزها مع بداية عهد جديد له اتجاهاته وأفكاره وتصوراته ومفاهيمه ورؤاه الخاصة التى يجب الالتزام بها ونبذ كل ما عداها.

لكل فرد حقيقته

يتمثل هذا التمرد بصورة جلية فى اتجاهات مابعد الحداثة التى شُغفت بها الأجيال الجديدة من شباب المثقفين فى العالم دون أن يأخذوا فى الاعتبار فى معظم الأحيان ماذا سيكون عليه الوضع فى المستقبل إذا تنكر الجميع للماضى والحاضر، ورفضوا الخضوع للمعايير التى درج عليها المجتمع الإنسانى بوجه عام، والتى لاتزال الأجيال الأكثر تقدما فى السن متمسكة بها حتى الآن بالفعل؟! والواقع أن هناك من يشبه ما بعد الحداثة بشاب متمرد وثائر على الواقع القائم الذى يحيط به من كل جانب، ولكنه يرفض الاعتراف به ويعارض كل مااصطلح عليه الناس ويقدم الحجج والبراهين على زيف هذا الواقع، وعلى تهافت الأسلوب المتبع فى تسيير الأمور ولكنه يعجز عن تقديم أية بدائل لما يرفضه ويتنكر له. ولذا يرى البعض أن خطاب مابعد الحداثة يؤازرالاتجاهات العدمية والنسبية والبراجماتية حين يدعى عدم وجود مايسمى بالصدق أو (الحقيقة) وأن لكل فرد الحق فى تكوين حقيقة خاصة به هو وحده فى ضوء علاقاته وتجربته الذاتية. فما بعد الحداثة تعطى أهمية خاصة للعقلانية (الفردية) على اعتبار أن الفرد هو مصدر الفعل والمستفيد من نتائج ذلك الفعل. ولذا نجد أن أحد أهم الدعاوى التى ينادى بها المجتمع الغربى المعاصر والتى تنتشر تدريجيا وفى هدوء إلى بقية أنحاء العالم تدور حول ضرورة اعتبار أن الفرد هو المسئول الوحيد عن أفعاله وأنه عنصر فعال فى تشكيل المستقبل وأن ليس لأية قوة أخرى خارجية أن تتدخل فى ذلك، وبخاصة القوى الغيبية التى تؤمن بها الأجيال السابقة فى بعض الثقافات والتى تسلب الفرد إرادته مثل عامل الحظ أو القدر أو «القسمة والنصيب» وما إلى ذلك. فالمهم هو إعلاء شأن الفرد، مما قد يعنى فى آخر الأمر أن فى استطاعة كل فرد إقامة وتشييد نسق للقيم خاص به هو وحده دون غيره من أعضاء المجتمع، وأنه من الأفضل أن يختار الفرد لنفسه الطريق الذى يسير فيه ويحدد بنفسه المبادئ التى يعتبرها قيما توجه حياته ويستطيع أن يتعايش معها ويعيش بها.

أولاد الفضاء المعلوماتى

وواضح أن ثمة اختلافات أساسية فى النظرة إلى القيم لدى الأجيال السابقة والأجيال الجديدة التى تنظر إلى المستقبل وتدير ظهرها إلى الماضى وتكاد تجهل عنه كل شيء بل ولا يهمها مثل هذه المعرفة التى قد تحجب عنها رؤية الأشياء فى ضوء الحاضر الذى يحيط بها والمستقبل الذى تريد أن تحياه بطريقتها الخاصة.. فالأجيال الجديدة التى يطلق عليها أحيانا اسم (أولاد الفضاء المعلوماتى)، الذين نشأوا مع الإنترتت والثورة الإلكترونية يأخذون القيم الاجتماعية المتوارثة والتى تحكم غالبية الناس الآن على أنها مجرد شعارات - أو على أفضل تقدير- مبادئ استاتيكية تفرض على الناس والمجتمع السكون والجمود فى عصر ملئ بالحركة والتغير المستمر، وتنسى أن الأفراد هم القوة الدافعة إلى الحركة والعنصر المنفذ لها، وأن لهم الحق على هذا الأساس فى اختيار نوع الحياة التى يحيونها وتحديد الصورة النهائية لهذه الحياة التى تموج بالحركة والتغيير الذى هو سمة التقدم. فالقيم التقليدية ترجع إلى عصور سابقة كان يغلب عليها السكون والاستقرار والجمود مما أعطى لتلك القيم صفة الاستمرار بحيث أصبحت قيدا على حرية الحركة والانطلاق بالنسبة للأفراد الذين كان عليهم الالتزام بها والخضوع لتعاليمها أو قيودها دون أن يجرؤ أحد منهم على الخروج عليها، ولذا يطلق على تلك الأجيال السابقة اسم (الأجيال الصامتة Silent Generations)، وذلك بخلاف الأجيال الجديدة التى تعرف التمرد والرفض والتعبير العلنى عن الرأى، بالرغم من كل عوامل القهر والكبت، مستفيدة فى ذلك من سهولة الاتصال وتعدد وسائله فى نشر أفكارها المتباينة والثائرة والرافضة. وقد يكون فى ذلك كله إعلاء لشأن الفرد والاعتراف بحقه فى الاختيار. ولكن المشكلة التى تواجه الجميع هى: هل تصلح هذه النزعات الفردية فى إقامة حياة اجتماعية متماسكة؟ وما نوع المجتمع الذى سوف تتجاذبه تلك النزعات؟.

 

أحمد أبوزيد