الصمود في مواجهة الوحشة

الصمود في مواجهة الوحشة

أن تُقبل على مرفأ ما, يقتضي أحد أمرين: إما قدوماً ورسواً, وإما إبحارا وسفرا, فأيهما أختار وأنا الآن في مرحلة متقدمة من العمر (أربعة وستون عاماً)?

هل أبدأ من موقعي الراهن وقد نيّفت كتبي المنشورة على الخمسين, وأمضيتُ في مهنة التدريس, في جميع مراحله, اثنتين وأربعين سنة?

أم, من ذلك الزمان الغابر الذي كنت فيه أسلةً رقيقة, على ضفاف طفولة باهتة, خافتة?

وأراني منقاداً للاتجاه الأخير, لأن واضع هذا العنوان, كان يرمي إلى كشف الصفحات المخبوءة في حياة هذه الشخصية أو تلك, من شخصيات المجتمع بعد أن اتخذتْ لها موقعاً مميزاً في حاضرها.

فإلى هاتيك الكوى الموصدة في جدران الماضي السحيق, وإلى أبرز المحطات الفارقة التي تشكّلت فيها شخصيتي الأدبية, وارتسمتْ ملامحي وقسماتي الخاصة!!

طفولة خجولة

ـ ولدت في بلدة (الهري = El-Hہry) التي تقع على الساحل الشمالي لقضاء البترون في محافظة لبنان الشمالي, عند سفح جبل يعلو ما بين مائتين إلى ثلاثمائة متر عن سطح البحر, هو جبل الشقعة الذي يعتبر أطول الرءوس الجبلية الداخلة في البحر, على طول الساحل اللبناني من جنوبه إلى شماله.

ونشأتُ في بيت يقع وسط سهل أخضر من بساتين التفاح والرمان وكروم التين والعنب والزيتون, وتشكيل آخر من الفواكه اللبنانية. إضافة إلى مساحات متنوعة من الخضار والحقول التي كانت تُزرع فيها الحنطة والشعير والتبغ والتنباك. وأكاد أقول, لم يكن هناك شيء من الفواكه والخضار والحبوب إلا كان له حضوره الموسمي في تلك الحقول والبساتين. فنعْم الطفولة, ونعم النشأة الغنّاء!

ـ تلقيت علومي الأولى في مدرسة القرية التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت, وهي كناية عن غرفة كبيرة, تنتهي لجهة القبلة, بتجويف جداري لإقامة الصلاة, وكثيراً ما كنت أؤمُّ رفاقي في أوقات الصلاة.

وتضم المدرسة في داخلها خمسة صفوف ابتدائية, ومعلما واحدا لا يحمل غير شهادة واحدة هي الإعدادية الأولى (السرتفيكا) لكنه أفضل من كثيرين غيره من حملة الشهادات العليا اليوم.

فقد تعلمت عليه قواعد العربية, وختمت قراءة القرآن الكريم أربع مرات وأنا دون الثالثة عشرة من عمري.

ـ أسهمت حياة القرية, بحقولها وبراريها, وبساتينها, وشاطئها البحري الساحر, في إغناء الطبع الأدبي, وتلوينه الرومانسي, فعرفت الحب مبكراً, في حدود الثانية عشرة.

كان ذلك وأنا أرشف القُبلة الأولى البريئة من على شرفة منزلي.

من هاتيك الشرفة, خرجتُ إلى الكون أبحث عن معنى الحياة وطعمها ووقعها.

أمام هذه الشرفة, منحتني الحبيبة الأولى شرف الانتساب إلى صفوة الخلق.

نقتاتُ بالبوح, ونستـــظلّ بالخفق, ونبتـــرد بالوصــــال, ونتراشف برذاذ الشخوص إلى لقاء أزلي عابق بشذا كل الحفافي والأودية.

مرحلة جديدة

ـ بعد ذلك بقليل, انتقلت إلى طرابلس الفيحاء, وانتسبتُ إلى مدرسة النموذج الرسمية للصبيان, ومديرها آنذاك, المربي الكبير أنور المقدِّم, وناظرها العام الشيخ نصوُّح البارودي شيخ المقرئين الذي توج ثقافتي القرآنية بأصول التجويد والقراءات المعروفة.

أمضيت في طرابلس ست سنوات حزتُ في نهايتها الشهادة الإعدادية العالية (البروفيه), ثم انتقلت إلى بيروت ودار المعلمين والمعلمات, أتيح لي فيها تحصيل قدر كبير من العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنية, على أساتذة كبار أمثال المربي العالم ورائد التأليف التربوي في لبنان, واصف البارودي, والباحث الفلسفي الدكتور خليل الحرّ, والشاعر سعيد عقل, والشاعر جوزيف نجيم (اللذين أثّرا تأثيراً عميقاً ومباشراً في إبداعاتي الشعرية) والملّحنَيْن, المقدَّم محمد فليفل وجورج فرح, والرسام الطبيعي قيصر الجميّل, والأديب الموسوعي فؤاد أفرام البستاني, وغيرهم الكثير ممن ترك غير بصمة في حياتي وتكويني الأدبي والفكري.

ـ في هذه المرحلة عرف القلب مرحلةً جديدة من الحياة العاطفية المشبوبة.

هناك ولجت صرح الحب, ونهلت من معينه الرقراق, وصدح صوتي عاليا, أغني مواجع الأصيل, ولطائف الأنسام ترتاد أعطاف الجداول والسواقي. ورقيت الدرجة فوق الدرجة, نحو قمم الارتواء, وأبهاء العناق البيلساني.

سنوات خمسٌ عمرناها بشذا رياحين المرج وأعشابه الدائمة الخضرة التي كانت تضُّمنا بين أحضانها هُزُعا (ج: هزيع) من الليالي, وتمنحنا الدعة والأمان!..

خمسة أصياف متتابعة, أنا و(فتاة المروج), لم نُلْق فيها مرساة, ولم نُبْحر بعيداً.

حبنا البحر, وقُبَلُنا المجاذيف, وانعصاراتنا المختنقة, قبيل الرواح: رذاذ الموج المتكسّر عند أقدام الشاطئ قبالتنا, متنهدا من خدر الأحداق وتزاحم الأنفاس.

أأعيد الآن وقع خطاي الليلي الوئيد, قاطعا بُعيد العشاء, انطلاقا من (الشاطئ الأزرق), مسافة رملية طويلة, ثم انحرف صعدا في رحاب المرجة الداكنة, وأمكث ردحا أنتظرها, حتى يمثل شخصها في الأفق البعيد, عنقود دالية جبلية, وحفيف قمرية برّحها الشوق وشفّها الوصال?

دعيني يا نفسي! فأنا لا أملك من طاقات التعبير وأفانين التصور, ما يرقى إلى حقيقة ذلك المهرجان الفردوسي الخالص!

دعيني, لا توقظي فيّ مواجع هاتيك الليالي الهاجعة في أقبية الذاكرة, تضوى شيئاً فشيئاً في سباتها الموحش!!

انتماء قومي

ـ في خريف سنة 1959 تخرجت في دار المعلمين, والتحقت بكلية الآداب في الجامعة اللبنانية, ثم بمعهد الآداب الشرقية في جامعة القديس يوسف, ثم بمدرسة الآداب العليا التابعة لجامعة ليون بفرنسا.

وسبب هذا التنقل والتغيير, رسوبي المفاجئ في الامتحان الأخير للسنة الأولى في كلية الآداب, أو ما يعرف آنذاك بـ (الثقافة العامة). فأحببت أن أعوض هذا الرسوب بشهادات أخرى معادلة, وأحوز في نهاية العام 1965 إجازة تعليمية في اللغة العربية وآدابها. وقبلها: شهادتين عاليتين في علم النفس العام وعلم نفس الطفل والمراهق وأربع شهادات عليا من الجامعة اليسوعية.

ـ طبعت هذه المرحلة بطابعين متوازيين, الأول: طابع التحصيل العلمي, والثاني: طابع النضال الفكري القومي, المتجسد بانخراطي في صفوف القوميين العرب الذين خاضوا حركة نضالية منظمة في مختلف أرجاء الوطن العربي بهدف استرجاع الأرض السليبة في فلسطين.

أضافت التجربة الحزبية هذه بعداً فكرياً في حياتي, ألا وهو الإحساس العميق بانتماء قومي جعلني أرنو إلى وطنٍ عربي كبير تمَّحي فيه الحدود وتنصهر الإقليمية والقطرية, ونغدو مواطنين موحّدين في دولة كبرى يحكمها نظام سياسي واحد, ويعمل على تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.

ولكنّ ذلك تلاشى في نهاية المطاف, عندما انشقّتْ (حركة القوميين العرب) إلى جبهتين أو جناحين: جبهة قومية, وأخرى ماركسية.. فخرجتُ منها وأنا خالي الوفاض إلا من إيماني الراسخ بوحدة الشعب العربي, وعراقة تاريخه وتراثه, وقيمه الإنسانية التي لا تزال حاضرة في وجداني, في كل كلمة أكتبها وألقيها, وفي كل كتاب أنشره.

ـ في هذه الأثناء أي نهاية العام 1966 ومطلع عام 1967, دخلت ملاك التعليم الثانوي, بعد قضاء سبع سنوات في التعليم الابتدائي والمتوسط, كما انتسبتُ مجدداً إلى جامعة القديس يوسف لإعداد دبلوم دراسات عليا في الأدب العربي. تخرجتُ في الجامعة صيف سنة 1969 بعد مناقشة رسالتي الموسومة: (صفي الدين الحلّي: قطب شعراء العصرين المغولي والمملوكي).. ولهذه الرسالة ذكرى طريفة ومعبّرة وهي أن الدرجة العلمية التقديرية التي مُنحتها عليها هي: (حسن) أي 12 ـ 13 من عشرين. وهي درجة لا تومئ إلى التفوق.

ومع ذلك, فاجأني الأستاذ المشرف, في اليوم التالي, وهو الدكتور سعيد البستاني, بخبر سار مفاده: ضرورة الذهاب فوراً إلى دار الكتاب اللبناني للتعاقد معها لنشر الرسالة في كتاب. فقلتُ مبهوتاً: كيف تمنحني درجة متواضعة هي: (حسن) ثم تسعى جاهداً لنشر مخطوطتي? فقال: لأنك كنت عنيداً في مواقفك وطروحك الفكرية. أما الرسالة فهي في غاية الحسن والجودة.

ـ لم يمض عام على تخرجي هذا, حتى وجدتُني مسافرا بحرا وبرا إلى فرنسا لملاقاة المستشرق الفرنسي المعروف أندريه ميكال, والانتساب بإشرافه, إلى جامعة السوربون, في موضوعة (معجم الشعراء في لسان العرب), أنجزتها وناقشتها بنجاح ملحوظ خريف سنة 1975.. أتْبعْت ذلك ـ ولكن بعد خمس عشرة سنة ـ بمناقشة أطروحة دكتوراه ثانية في الجامعة اللبنانية, بعنوان: (الشعر السعودي الحديث في الميزان: حسن عبد الله القرشي نموذجاً) نلت عليها الدرجة العليا.

ـ بين عامي 1970, موعد رحلتي الأولى إلى باريس لإعداد أطروحة الدكتوراه الأولى, وسنة 1990, عام حيازتي الدكتوراه الثانية, شريطٌ من الأحداث والوقائع شكّلت محطات مصيرية في حياتي, وهي الآن تتدافع بازدحام إلى مرفأ الذاكرة, وتأبى إلاّ أن تطلّ من ثقوب الذاكرة محملقة في الزمان, لا يخبو لها ضوء ولا تجفُّ عصارة.

ولئن قدرت على سد بعض هذه الثقوب, أو تأخير إطلالها, فإن ثقباً واحداً يزداد وهجه مع الأيام, ويطّرد تأثيره كلما تطاول العمر, لا يستمهلني دقيقة واحدة, ألا وهو قصة حبي الأكبر التي جرت أحداثها في الشهور الستة الأولى من العام 1971...

أي كلام يقال ههنا يا نفسي?

وأيّ صفحة من التاريخ الزاهر الآسر, تنفتح الآن?

وأية كوة من النور المتلجلج نثقبها معا, ونحن نعلم يقينا أن قطار العمر الوجدي, توقف عندها, ولم يغادر إلى محطة أخرى?

تعالَيْ إذن نكفكف الخلجات, ونستأني في ولوج العتبات, عسانا نتلمس جنبات المكان, ونتحسس شهقات الزمان العالقة بين عساليج الصنوبر, ورفيف الحساسين المستوطنة هناك!

هل أطيل النظر, وأخترق المدى, وأصف دبيب الخدر يسري في أعطاف الجلاميد, في احتفالية خارقة?

هل أتجاسر وألج عتبة الأسرار, حيث الانكشاف الكلي لما وراء الحقيقة والخيال?

لا أجرؤ على ذلك... فأنا مقطورٌ في فيلق من الصمت والتأمل, مصحوبٌ بجحافل من الهمس والسكون, لا تبرحني حتى أخلد إلى النسيان... فلأتوقف إذن عند التخوم معافى من كل خلل أو انزلاق ولأشح بوجهي عن كل ما يرتسم خلف الستائر والحجب!!

ـ ومن الوقائع والأحداث التي تستعصي على النسيان والانطواء, المحنة الشديدة التي ألمّت بي إثر مقتل والديّ صيف سنة 1976 على يد مسوخ الحقد الطائفي في لبنان. ففجّر ذلك في نفسي كوامن الحزن والشعر, بعد كوامن الحب والحنين المتأصلين في أعماقي منذ الطفولة.

فكانت بارقة صدور ديواني الشعري الأول: (مسافر للحزن والحنين) عن المكتبة العصرية في صيدا, صيف سنة 1977.

وأعترف ههنا بأنه لولا تلك المحنة القاتلة, لما حزمت أمري وأقدمت على نشر هذه المجموعة الشعرية التي ضمت قصائد وجدانية متفاوتة التواريخ, ضننت بها عن النشر في سوق الشعر السياسي القومي, وموجة القصائد (الأدونيسية), وزمرها التي عبثت كثيراً بجوهر الشعر وقيمه الفنية والجمالية باسم الحداثة.

لم أُلْهَم كتابة القصيدة السياسية, ولا انسقت وراء النظم العبثي السائد, فظللت متمسكاً بمعمودية الشعر وعموديته, مؤمناً في الوقت عينه, بأنّ الأقدار ليست موكلة فقط بإنجاز ما كُلّفتْ به من أحداث جسام كالموت والولادة, وخراب المدن والبلدان أو ازدهارها, وصعود أناس إلى أعلى المناصب أو هبوطهم منها إلى الحضيض.., بل هي معنيّة كذلك بأقدار أهل الفكر والأدب والثقافة, فترفع من لا يستحق العلوّ إلى أرفع المقامات, وتضع الأكفاء والموهوبين في الظلّ إلى ما شاء الله.

وهذا لا يعني أن هؤلاء يلفهم النسيان ويغمرهم الإهمال.. فهم كالجواهر الثمينة التي تبقى طيّ التراب والبحار حتى يقيّض لها حفّارٌ مقتدر, أو غواص محترف يكشف عن وهجها وجمالها الأخاذ, واضعاً إياها في موضعها الذي حرمته في زمانها.

والذي يمنح العزاء لرجالات الفن والثقـافة الذين لا يحالفهم التقدير في حياتهم, هو إيمانهم الدفين بأن الإنصاف سينالهم حتماً في يوم من الأيام.

لذلك تجدهم مقبلين باستمرار على تجويد أعمالهم, لا حبّاً بالبريق الإعلامي, بل إرضاء لذواتهم, ولأجيال أمتهم التي تحرص على احتضانهم ووضعهم في المراتب اللائقة بهم.

ولو توقف الأمر فقط, عند قوافل الأشخاص الذين يرفعهم الإعلام, هم وأعمالهم, بغضّ النظر عن منازلهم ومستوياتهم, لضاع من تراث الأمم معظم نتاجها ومأثورها, ولما كان لهذه الأمة أو تلك, ما تفاخر به أو تُسهم به في موكب الحضارة الإنسانية.

ويحضرني في هذا المقام, قول ابن دقيق العيد, شيخ الإسلام وقاضي القضاة في زمانه (ت 702هـ/1302م), شاكياً متذمراً من إسناد المناصب لغير مستحقيها:

أهل المناصب في الدنيا ورفعتها أهل الفضائل مرذولون بينهم
قد أنزلونا, لأنّا غير جنسهم منازل الوحش في الإهمال عندهم
فليتنا لو قَدَرْنا أن نعرِّفهم مقدارهم عندنا, أو لو دَرَوْهُ هم
لهم مريحان من جهل وفرط غنى وعندنا المتعبان: العلم والعدم



في مرفأ الذاكرة

ـ وبعد هذه الوقفات التلقائية أمام مرافئ الذاكرة, وشخوص بعض الأطياف من ثقوبها, يشدّني القلم إلى زوايا وخواب عُتّق فيها حضور الذات بأبهى تجلياتها, عبر بعض الطباع والرغبات التي تسكنني منذ بدايات وعيي ومواكبتي الحياة.وفي طليعة هذه الطباع: حب الوحدة والانفراد.

لا أدري ما إذا كنت شققت طريقي بنفسي نحو ما أردت أن أكونه ـ وأنا كائنه الآن ـ أو أنّ الظروف والأقدار, قد وضعتني في هذه الطريق. ولا أخص بذلك التحصيل العلمي أو الترقي الأدبي, بل الوحدة والانفراد اللذين لفّا حياتي في معظم مراحلها وأحاطا بي إحاطة محكمة.

فإذا أنا لا أسكن إلا وحدي, ولا أتنزه ولا أمارس السباحة الطويلة, أو أسافر بعيداً... بعيداً... إلا وحدي, من غير غضاضة أو مرارة أو وحشة!

هل هي الموافقة الطبيعية ما بين الرغاب المكبوتة والمقادير الموقوتة, عملاً بمضمون الحديث النبوي الشريف: كلٌّ ميسّر لما خُلِقَ له

ذلك ما أنا فيه حتى الآن, على الرغم من تقادم العمر, وبناء العائلة, والتقلب في الحياة والمجتمع.

بلى, كانت لي فُسحٌ كبيرة وعديدة ترافقتُ فيها مع غيري, وساكنتُ رفاقاً أخلاّء, وصادقت أناساً هم الآن محط سعادتي الغابرة, ومشاعل لياليّ الخائرة.

انخرطتُ في مجالس ومؤسسات ثقافية وأدبية وتربوية, وانتظمتُ في حركات حزبية سياسية شديدة الانضباط, أورثتْني سلوكاً شريفاً ومواقف جريئة وشجاعة لا مهادنة فيها ولا مجاملة.

ولكن ذلك كله لم يغير من طبيعتي المستوحدة, أو يقلّل من درجة التوق الدائم إلى الانفراد.

فقد كانت المساكنة عرضيّة وعابرة, وكنتُ وأنا في قلب المؤسسات والهيئات والتنظيمات, أسلك سلوكاً مغايراً: أعمل بعقلي وإحساسي بالمسئولية, وأنجز ما يعهد إليّ بنجاح. لكن مشاعري, وتأملاتي, وانسراح وجداني.. تأخذني بعيداً, وتلقي بي حيث يهدأ الخاطر, ويرتع الخيال, وتستوفي النفس دَعَتَها ورخاءها.

أما الأسفار فالحديث عنها ذو شجون.. قمتُ بسفرتَيْن بريّتين, بحريتين, طول كل واحدة منهما شهر ونيف, لم يشاركني فيهما أحد.

وأما السكنى فقد اتخذت الوحدة فيها واقعاً قائماً, لم تفارقني سمتُهُ حتى بعد الزواج, والإنجاب, والمسئولية.

وكنت قد سكنتُ وحدي مع والديّ الراحلين ـ نضّر الله ثراهما وعفا عنهما ـ لكنهما كانا في دنياهما الخاصة وسعيهما الحثيث لتحصيل لقمة العيش, وادّخار ما لا يُسمن ولا يُغني.. وكنت وحيداً في دنياي الضاجّة في حركة داخلية لا تهدأ.

ويستوقفني هنا سائل لبيب قائلاً: هل يعقل أن تستمرئ هذه الوحدة ولا تجد فيمن حولك من يُسعدك ويبعث فيك جمال العيش?

فأُجيبه على الفور, بما يشبه التفلسف والتبـصر: لا وجود لوحدة خالصة مطلقة, ولن تجد واحداً يعيش وحده بالمطلق! دائماً هناك رفيق أو أكثر مع الإنسان الفرد, يخاطبه ويناجيه ويحاوره ـ حتى إذا لم يحاور أحداً البتّة, يحاور نفسه.

من هنا كانت المخاطبة الاثنينية في مهد الشعر العربي, مع امرئ القيس ومن تلاه في مناسبات الوقوف على الأطلال, والإقبال على الشراب, وما شابه.

أما أنا فلم أشعر بالوحدة المطلقة حتى في أشد الأوقات العصيبة, والانفراد الموحش.

الوحدة عندي مناجاة سحيقة الغور, لا متناهية المدى, متماوجة الأرجاء والأصداء.

وكيف تكون وحدةٌ, وسلاحي ورفيقي ثلاثة: قلم, ومداد, وكتاب?

أضربُ بالقلم أديمَ الفراغ, وأجعل من المداد صوراً وهيئات لها نبضاتها وملامحها وقسماتها, وأخوض بالكتاب غمار الوجود الموحش فيأتنس, وتدبّ فيه الحياة من كل لون وطعم.

وهكذا فإنّ الكتابة بهذا المعنى تحول دون الفراغ, وتقف في وجه الوحشة الوعرة, ليصبح كلّ شيء حولي حركة دائمة الخصب والتجدد, تارة هي ذاتية, إنشائية, إبداعية, وتارة أخرى, وصفية, نقدية, تحليلية.

في الجانب الأول انطلاق متعدد الاتجاهات والمذاقات, ما بين شعر, وخواطر وتأملات في تداعيات الوجود والعدم, ومذكرات الأيام والأحداث.

وفي الجانب الثاني, تعلّق مباشر بآثار الكتاب والشعراء والمصنفين, من نقد, ودراسة, ومراجعة, وتحليل, وتقويم, ومقارنة, وما شابه.

فكانت لي تآليف ودراسات وتصانيف, أكتفي بعرض بعضها, دون الوقوف عندها, تبياناً للخطوط العريضة للصورة التي أنا فيها.

الدراسات والتآليف:

ـ مذاهب الأدب: معالم وانعكاسات, صدرت في كتابين كبيرين درستُ فيهما كلا من الكلاسيكية والرومنطيقية والواقعية والرمزية في مظانها الغربيّة وما انعكس منها في أدبنا العربي منذ بداياته حتى اليوم.

ـ فصول في نقد الشعر العربي الحديث.

ـ الشعر السعودي الحديث في الميزان, أو حسن عبد الله القرشي في مسار الشعر السعودي الحديث.

ـ آفاق الشعر العربي في العصر المملوكي.

ـ كوامن الفن والإبداع في تراثنا الأدبي.

ـ في محراب الكلمة: بحوث ودراسات نقدية في الأدب العربي الحديث والمعاصر.

ـ واقعية الأدب وبلاغة الحبك القصصي في رواية آنّا كارينا.

ومن التصانيف:

ـ معجم الشعراء في (لسان العرب).

ـ شرح الواحدي لديوان المتنبي. (خمسة مجلدات: 2700ص).

لم أخرج, في جميع ما كتبت, في هذا الجانب, عن الموضوعية والتجرد, في إطار من الأكاديمية الجادة, والمنحى الذوقي المصاحب الذي جعل لدراساتي وبحوثي طعماً خاصاً, لا هو صارم ولا هو مزاجي متقلّب, بل كانت الذات حاضرة في أكثر الموضوعات رصانةً وتجرداً.

فأنا الآن أقيس قامتي بما صدر لي من كتب وآثار, ما بين تأليف, وتصنيف, ومراجعة وتقديم, ونقد وتحليل, إضافة إلى نتاجي الذاتي الإبداعي.. وأزِن نفسي بقيمة هذه الكتب والآثار, وبفائدتها وحاجة المكتبة إليها.. وأسبر غور حياتي وحقيقة وجودي, بما رشفته من رحيق الكتابة والتأليف, وما تناثر فيّ من لآلئ الجمال, وتنامى من قيم الحق والخير والمثل العليا, فضلاً عن المتع المصاحبة لكل أثر على حدة. منها ما هو آنيٌّ مباشر أقطفه وأنا أكتب وأدوّن, ومنها ما هو دائم, بما يُشيعه من إعجاب وتأمل واعتبار.

وليس عندي ما أكتبه للمتعة وحدها.. إنني أكتب لغرضَيْ المتعة والفائدة: المتعة من الكتابة بذاتها, لأنها لعبة الفكر بواسطة القلم, ونزوةُ الوجدان بواسطة الانفعال, وحرفة العقل بواسطة البصيرة المستنيرة وملكة التقييم التي لا تستقيم الأمور من دونها.
وأما الفائدة, فلأجل التواصل والتلاقي, والتثاقف والتلاقح, وإلاّ اعتورنا البوارُ, وجاحتنا قائظة العقم والانشطار.

وآخر دعواي, في نهاية كل نتاج أدبي, كائناً ما كان, بعد حمد الله: دوام العافية لقلمي, وسريان عصارة الحياة فيه, والاستمتاع الكلّي بكل كلمة وصورة صاغتهما ملكة الكلام.

آخر دعواي, في هذا المقام, أن يشهد القارئ لي أمام التاريخ, أنّ ما كتبتُه, لم يكن عبث المتطفلين, وتبجّح الأدعياء الحاقدين, وتجشُّؤ الثقلاء المتخمين.

أول دعواي وآخرها, ألا تخرج كلمة من لساني, وألا يتمخض كياني ووجداني, إلا عن القيِّم المؤثِّر, والنيِّر الباهر, وأن يصدر كل ذلك عن قلب خاشع, وفكر ساطع, ونفس مثقلة بالرضا والحبور, متبتلة لولوج محراب الحقيقة, لا تحسب حساباً إلا لجميل الوقع, وجليل الأثر, ولا تسعى إلا لرضا الحق والحقيقة, وتُعْرض عما عداهما من ثناء برّاق, وإثابة مزيّفة, وإعجاب هشّ!..

وخير ما يُختتم به مثل هذا الكلام, قوله جلّ شأنه:
فأَمّا الزَّبَدُ فَيَذّهَبُ جُفاءً وأَمَّا مَا يَنْفَعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض .

 

ياسين الأيوبي