اكتشاف يحول الأقزام إلى عمالقة.. د. محمد فتحي

اكتشاف يحول الأقزام إلى عمالقة.. د. محمد فتحي

أثبتت ممارسات الطبيب النابغة جافريل أبراموفتش إيليزاروف أنه من الممكن إطالة قامة القزم- بصرف النظر عن عمره- أكثر من عشرة سنتيمترات، وأن علاج الذراع المكسورة يكون أنجع بالشروع فورا في ممارسة رفع الأثقال! وأن صالة الرياضة أو الرقص لها أهمية طاولة العمليات، بالنسبة لإنسان كسرت ساقه، وأن جهودا من هذا النوع تختزل فترات الشفاء إلى الربع!! وربما كان الأهم من ذلك كله أن قانون إيليزاروف (النمو من خلال الممارسة وأحمالها المستمرة والمتزايدة) لا يخص علاج أو تقويم العظام فقط، بل هو قانون عام وثيق الصلة بالنهوض بكل قدرات الإنسان والمجتمع، ويعد من نواميس الحياة في مختلف تجلياتها.

حين جاء وقت الممارسة العلاجية، بعد البحوث والمعالجات والاختبارات، كان بين من وقع عليهم الاختيار لاختبار العلاج الجديد فلاحة عجوز استخدمت طرقا مختلفة لعلاج ساقها دون جدوى، ولازمها عكازها 15 سنة كاملة. وروعي بين عوامل اختيارها تمرسها بعالم العلاج وتمرس عالم العلاج بها، مما يجعلها محكا قيما لمعرفة مدى فائدة الأسلوب العلاجي الجديد، مقارنة بالأساليب الأخرى، بالذات بعد أن وصلت المريضة إلى سن ابتعدت فيه الأنسجة عن أفضل حالاتها. ذلك بالإضافة إلى أن العجائز هم أكثر الناس معاناة من طول فترات العلاج، ومن التأثيرات الضارة لقلة الحركة.

استغربت المرأة وهم يعرضون عليها بعض الحلقات والقضبان والسلوك ثم يربطون الكل بمجموعه من المسامير والصواميل! ويشرحون لها بالتقريب كيف سيجري علاج ساقها، لكنها كانت قد يئست من الشفاء فتعلقت بالأمل.. وأصابتها الدهشة حين أفاقت بعد الجراحة فوجدت الأطباء وقد ثبتوا «جهاز إيليزاروف» حول ساقها- بعد أن قوموا عظامها- لكن دهشتها بلغت الذروة في اليوم التالي حين فاجأها الطبيب: «أتحبين مشاهدة التلفزيون؟» فأجابت «ومن لا يحب ذلك» قبل أن تدركها روح التهكم من الموقف كله: «هل تنوون نقلي إلى جناح خاص به تليفزيون؟!».

- بل عليك بالذهاب إلى قاعة التلفزيون العامة، ومشاهدة ما يروق لك من برامج.

ومضي الطبيب في إيضاح مطلبه:حتى يلتحم الكسر أسرع يجب أن يستعيد وتستعيد الأنسجة من حوله التناسق الحيوي الذي فقدته، ويا حبذا إن تمكنا من تحميلها رويدا.

وبالفعل ذهبت العجوز إلى مشاهدة التلفزيون قاطعة ستين مترا ذهابا إيابا، تطأ الأرض هونا، فوق الساق التي قطعت عظامها (توطئة لتقويمها) قبل يوم واحد!! وفي اليوم التالي زادت المسافة التي سارتها إلى ربع كيلومتر، وبعد يومين إلى نصف كيلومتر.

وبعد أسبوعين من العملية انتزع إيليزاروف العكازين منها مداعبا: «هناك من هو أولى بهما منك». وأعطاها عصا تتوكأ عليها مؤكدا: «الآن كلما مشيت أكثر اقترب يوم خروجك من المستشفى».

كان السير على الساق مؤلما لكن كل ألم يهون مقارنة برحلة العذاب التي خبرتها قبل الوصول إلى إيليزاروف، ودبيب الثقة والقدرة الذي أخذ يشعشع في نفسها من جديد.

ولم تكن العجوز تصدق نفسها وهي تغادر المستشفى على ساق جديدة خالفة وراءها العكاز الذي أقام عودها 15 سنة متواصلة. لقد قام الأطباء بتقويم عظام الساق، التي التحمت وفق طريقة العلاج الجديدة في فترة مذهلة (ربع المعتاد تقريبا) ولم تشأ المرأة أن تتصل بذويها كي يحضروا من قريتها البعيدة لاصطحابها كما تعودت، إذ ودت أن تفاجئهم بمعجزتها الجديدة.

ولما وصل القطار إلى المركز الإداري لقريتها كانت تفصلها عن موعد أول وسيلة مواصلات إلى قريتها ساعتان كاملتان، لكنها قررت في فورة الثقة أن تجعل مفاجأتها كاملة، وقطعت الكيلومترات الستة على ساقيها، لتدهش ذويها بالساق العجيبة التي نبتت لها!!

والأهم هنا أنه من خلال حالتها وعدد آخر من حالات علاج الكسور غير الملتحمة والتشوهات وإطالة العظام أضاء النور الأخضر أمام الأسلوب العلاجي الجديد. وكان لابد من تحسين وترشيد وتنويع مكونات جهاز إيليزاروف، حتى تتلاءم وصلاته مع الأشكال المتباينة لعظام أعضاء الجسم المختلفة. وهكذا اتصل الجهد حتى أمكن التوصل إلى ما يمكن تسميته تجاوزا بميكانو إيليزاروف المتنوع الأشكال والأحجام، الذي لا تخرج مكوناته الأساسية عن مجموعة بسيطة من الحلقات والقضبان والسلوك والصواميل والمسامير، يتم التوفيق بينها حتى تناسب مهمة التثبيت الخارجي لعظام الجزء المعني من الجسم..

المعجزة والأعجوبة والأسطورة

كانت نتائج الأسلوب الجديد باهرة، وتعددت تعليقات المطلعين الذين سمعوا بها.. هذا قال: معجزة. وذاك: أعجوبة. وثالث: أسطورة.. وغير ذلك من التعليقات النمطية التي يبديها الناس العاديون، على كثير من الحالات التي عالجها النابغة إيليزاروف.

  • فتاة دخلت عيادته بإحدى ساقيها أقصر من الأخرى كثيرا وخرجت بساقين متساويتين في الطول!
  • امرأة أجمع الأطباء على ضرورة بتر ساقها، لكن إيليزاروف قال لا وأبقاها لها!
  • شاب كسر ساعده وأجريت له أربع جراحات أسفرت عن قصر الساعد المكسور دون أن يشفى. وجاء دور إيليزاروف لا ليعالجه فقط، وإنما ليعيد الساعد إلى طوله الطبيعي أيضا!

نتائج قد يبدو إيليزاروف معها ساحرا يصنع المعجزات بالفعل، لكن ليس أمامنا إلا أن نصدق ما يقوله إيليزاروف نفسه: «أنا لست ساحرا، وليس في الأمر أي معجزة. إن المسألة ليست سوى محاولة مخلصة لفهم نواميس الطبيعة، وطاعة هذه النواميس. فعلى الطبيب أن يبحث عن طرق علاجية تساعد الجسم على استعادة التناسق الحيوي الذي يفقده بالمرض.. وتجدر الإشارة إلى أن الجسم يبدي استعدادا طيبا للتعاون مع مثل هذا الطبيب».

وإن كان هذا كلاما معجزا من حيث بساطته وصدقه ومنطقيته وتواضع الناطق به، فالساحر حقا هو أن الإنجازات السابقة- وما شابهها- لا تخرج عن أن تكون أمرا طبيعيا، بل وطبيعيا جدا، وفق النظرة التي رسخت في وعي إيليزاروف منذ طفولته المبكرة حول وظيفة الطبيب.

أسعد الحظ الطفل بالمرض

في قرية صغيرة ولد جافريل أبراموفتش، الابن الأكبر لأسرة إيليزاروف الكثيرة العيال في يونيو 1921. وكانت أعباء الحياة تفرض على الأسرة الفقيرة اختصار مراحل من عمر أطفالها، لتدفع بهم إلى ساحة العمل والكسب. وهكذا صار جافريل في التاسعة راعيا يجوب الجبال بأغنامه حينا، أو عاملا يحرث الأرض ويجمع ثمار الغابة حينا آخر.

ويوما أصيب جافريل بتسمم لتناوله طعاما ملوثا. ومن شدة الألم سلم الطفل بأنه سيموت، بل ومضى - حين طال العذاب - يستعجل الموت، ليخلصه مما يعانيه.. تحسرت أمه بحرقة على عدم وجود طبيب بالمنطقة، لكنها سرعان ما أدركت أنه لامناص من استدعاء حلاق الصحة، الذي أرغم الطفل على تناول كثير من الماء المغلي، كما أعطاه حقنة و.... وزلزل الموقف كيان الطفل: «لقد ذهب الألم».. وسأل جافريل نفسه: إن كان بإمكان حلاق الصحة أن يأتي بهذا الفعل المعجز، فماذا بمقدور ذلك الطبيب الذي كانت تتمنى أمه وجوده؟ وكان قرارا فوريا: «سأكون طبيبا».

كانت الظروف والصدفة قد أبعدتا الطفل عن التعليم، فبلغ العاشرة دون أن يتعامل مع فصول الدراسة، وكان عليه أن ينعطف بحياته ويولي وجهه شطرها.. وجد أقرانه على عتبة الصف الرابع ولم تكن قامته بأقل من قاماتهم، ولكنه كان يتفوق عليهم من حيث معرفته الأكبر بالحياة، من خلال ممارسة ما لم يمارسوه، نظرا للدعة التي أتاحت ظروفهم أن يعيشوا فيها معتمدين على ذويهم الميسوري الحال.. وكان بديهيا أن يسأل «ممارس عارف عركته الحياة» مثله نفسه: ماذا يريد على وجه التحديد من هذه المدرسة؟ وفي عجلته لأن يكون طبيبا قرر الالتحاق بالصف الرابع مباشرة، على أن يتحمل ما يتضمنه مثل هذا القرار من أعباء. كان يدرس في ساعات الدرس، ويدرس بين الدروس، ويدرس بعد المدرسة.. يدرس طوال الوقت، ولا ينام أكثر من ثلاث ساعات كل يوم!

وساعده الحلم الذي يداعب مخيلته، كما ساعدته نشأته الخشنة، وكثير من الاستغناء الذي تعوده منذ الطفولة على متابعة أقرانه واللحاق بهم. وما إن وصل الصف الخامس حتى كان يحصل على الدرجات النهائية في كل المواد.. وما لبث أن أنهي صفوف المدرسة العشرة (مستوى التعليم الثانوي) في خمس سنوات ليجد نفسه على عتبة قدس الأقداس: المعهد الطبي العالي.

ولما تخرج إيليزاروف في السنوات الصعبة التالية للحرب العالمية الثانية مباشرة كلف بالعمل في الوحدة العلاجية لقرية صغيرة. ولم يكن هناك طبيب غيره في الناحية كلها. وهكذا وجد نفسه يقوم بتوليد النسوة وعلاج الأطفال وخلع الأسنان، بل وبإجراء جراحات التجميل.

وعالم طبي بهذه الرحابة يحمل في طياته رغم ثرائه، مخاطر الانجراف مع الصدف. لكن إيليزاروف كان في يقظة من أمره، فأيام طفولته لم تزوده بحلم الطبيب «الأسطورة» فقط، ولكن بكثير من المفاهيم التي تساعده على إدراك هذا الحلم. وهكذا لم يترك الصدفة تتحكم في خطوه، وظل يبحث وهو يتجول وسط السهوب السيبيرية عن تجسيد لحلمه.

أحس إيليزاروف بالهول من أعداد المصابين الذين خلفتهم الحرب العالمية الثانية فراح يفكر في مشكلاتهم، وراع الطبيب خلال ممارساته العلاجية أن وجد الأفكار الأساسية التي تحكم علاج العظام لم تتغير تقريبا منذ أيام قدماء المصريين، رغم ما شهدته مختلف حقول العلاج والجراحة من تقدم، بل وانقلابات هائلة.. فمنذ عرف الإنسان علاج العظام ساد اعتقاد بأن الكسور تلتئم ببطء شديد لكون العظام نسيجًا خاملاً، احتياطياته في مجال التجدد والتوالد واستعادة حالته جد واهية. وكان ذلك اعتقادا مركزيا بين الدوافع المختلفة التي قادت إلى تجبيس ما يصاب بالكسور من عظام، والحكم على صاحبها بالبقاء في الفراش فترة تقدر بالشهور في كثير من الحالات، وفي وضع أقل ما يقال فيه أنه غير مريح، ذلك لأنه ضار صحيا بالتأكيد. لكن ما العمل إذا كانت حركة واحدة غير مواتية تشكل تهديدا بتباعد أجزاء العظام، أو عدم استوائها عند الالتحام، الأمر الذي لابد وأن يقود إلى جراحة جديدة، وإلى بدء مشوار العذاب من جديد.

نسيج خامل ودور حيوي!

وقد كان هناك إجماع في الدوائر الطبية على أنه ما باليد حيلة، وعلى أن العظام وحدها هي الملومة في هذا الوضع المحزن، لأنها نسيج خامل. ولهذا انحصر التطوير في تفاصيل هامشية مثل التوصل إلى جبس أكثر بياضا، وجبائر من البلاستيك، ولكن الحادث الذي صنع حلم إيليزاروف الطبيب الأسطوري علمه الشك، وعدم التسليم الأعمى بصحة ما هو شائع، لمجرد صدوره عن سلطة. ألم يضع الكبار الطبيب في سلة واحدة مع العفريت والذئب خلال محاولات تخويفه في طفولته؟ وهكذا ولدت بذرة التساؤل المضني الذي ظل يؤرق «الممارس العارف»: كيف يمكن التسليم باحتواء الجسم الحي على نسيج سلبي خامل له مثل ذلك الدور الحيوي الذي تقوم به العظام؟ ألا يمكن أن يكون الحال في مجال علاج العظام مثل حاله ساعة الإصابة بالتسمم في طفولته؟ لقد تمني ساعتها الموت. لكن الموت لم يكن إلا هروبا من الألم. وقد علمه الدرس أن الهروب لم يكن المخرج الصحيح، وأن المواجهة الحقيقية تحتاج إلى الفهم والحب اللذين تمثلا ساعتها في أمه، والممارسة والعلم اللذين تمثلا في حلاق الصحة. أليس من الممكن أن يكون الداء كامنا في التجبيس ذاته؟ وفيما يتبعه من موات وإخراج للعضو عن طبيعته كعضو حي له وظيفة يؤديها ويستقيم عوده بها؟ وهكذا بدأت تؤرقه مشكلة تحرير العظام المكسورة من إسار أقفاص الجبس، وظلت تشغله سنوات طويلة.. يفكر بها في صحوه، ويفكر بها وهو يجري جراحاته، ويفكر بها في كل وقت.

كان التصور الذي أدار إيليزاروف جهده حوله يتلخص في أن تأدية عضو ما لوظيفته شرط لاستقامة هذا العضو وسوائه، بل ولنموه. وبالتالي فإن التحام العظام كما يجب - فضلا عن نموها - مستحيل دون جهد وتحميل (قانون حياة إيليزاروف كلها)، ذلك إضافة إلى التأثير الإيجابي الناتج عن استمرار حركة الأنسجة حول العظام بل ونموها بصورة طبيعية.. وكانت الخطوة الحاسمة في الإنجاز الفذ لعلاج الكسور غير الملتحمة والتشوهات وإطالة العظام نجاح إيليزاروف في تصميم الجهاز الذي يمكن المريض من الاستمرار في تحريك أعضائه وتحميل العظام المكسورة، وإتاحة الفرصة لنموها على نحو طبيعي، يصاحبه نمو الأعصاب والأوعية الدموية والعضلات والجلد، عن طريق تغيير مقنن في أوضاع الجهاز.

وجدتها وجدتها

كانت صعوبة التنقل في المنطقة الوعرة تفرض عليه أن يلبي استدعاءات المرضى متحركا على عربة تجرها جياد في أحوال، وعلى زحافات تجرها الكلاب في أحيان أخرى، وعلى متن طائرة حوامة في أحيان ثالثة. وكان يطير مرات عدة كل أسبوع لتلبية الاستدعاءات العاجلة من مناطق يصعب الوصول إليها. ولما كانت طائرته هالكة من طراز قديم فقد كانت كثيرة الأعطال، لكن ظروف الفاقة كانت تدفع إلى التفنن في التغلب على أعطالها.. ويوما كسر ذراع يستحيل أن يعمل محركها دون استخدامه، وكان الاستدعاء المرضي ملحا، فما كان من الطيار والطبيب معه إلا أن صنعا «جبيرة» خارجية للذراع، أعادته إلى ممارسة وظيفته، وأقلعت الطائرة التي كانت ذات كابينة مكشوفة، لا تسعد راكبها بأدنى قدر من الراحة، وكانت القراءة التي يحبها الطبيب مستحيلة في مثل هذا الجو، ولم يكن أمامه إلا أن يستغل وقته في التفكير.. كان الزمهرير يقرص أذنيه والرياح تصفر حوله، والكابينة تهتز، والمحرك يزمجر والطائرة تهوي في مطب جوي، وهو يود أن يقفز على مقعده صائحا كأرشميدس: وجدتها وجدتها.

لم يكن الأمر وحيا هبط عليه فجأة وهو يحلق بعيدا عن الأرض في ظروف غير طبيعية، إذ إنه كان ينطوي على كيفية تثبيت الجواد في العربة- أو الكلاب في زحافة الجليد- ليتحركا سويا. وينطوي على الربط بين الثلج الأبيض وهروب الحياة، أو الربط بين شيوع اللون الأبيض في سيبيريا وبين فقدانه للجاذبية التي يتمتع بها عند من كانوا يبحثون عن جبائر أكثر بياضا، وينطوي على.... لكن الشيء الذي جعل كل هذه التخريجات- على قيمتها وصحتها- لا تدخل في بند النثريات أو المتفرقات التي يسهل إهدارها تماما كان حادث «تجبير ذراع» محرك الطائرة الحوامة القديمة، وعمل هذا الذراع للتو، الأمر الذي أتاح لهم الإقلاع لإنقاذ الحالة الطارئة، والذي استخلص إيليزاروف منه- مع الجهد الإرادي الذي راح يلملم الأشلاء لتخرج في كيان نافع جديد- فكرته الخاصة حول التثبيت الخارجي لأجزاء العظام المكسورة لتتحرك معا.

لقد كانت وجدتها نتيجة عمل مضن طويل امتد في الواقع إلى اللحظة التي خلص حلاق الصحة فيها إيليزاروف من آلامه. ولم يقتصر الأمر على مراحل الإعداد العلمي والمعنوي، ولا على التفكير الذي انخرط فيه وهو يعالج ويطور ويجري الجراحات.. لقد تجاوز الجهد الإرادي ذلك كله إلى القراءة والبحث الموجه لكيفية تنفيذ فكرته.. لقد كان إيليزاروف يقرأ نهارا، وحين يضيق وقت النهار يقتطع من وقت النوم ويقرأ ليلا. وبعد أن قرأ كل ما يهمه في مكتبته الخاصة، ثم في مكتبة المستشفي ومكتبة القرية، بدأ يطلب مستخدما بطاقة القراءة الخاصة به، وعن طريق نظام التبادل بين المكتبات العامة، كل الكتب التي يمكن أن يحصل عليها في «دولجوفكو» حيث يعمل.. لكنه لم يجد مفرا في النهاية من أخذ إجازة من دون أجر والذهاب إلى موسكو العاصمة، «ليقيم» هناك في مكتبات معاهدها.

الطبيب يتعلم مهنة البرادة

وهكذا لم تكن «وجدتها.. وجدتها» خط نهاية أخير.. كانت نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة في الوقت نفسه. لقد كان عليه بعدها أن يتطرق إلى علوم لم يحتك بها من قبل بالمرة.. وجد نفسه يدرس مقاومة المواد والبيوميكانيكا بل والميكانيكا. وأتي عليه يوم، حين شرع في تصميم جهازه، وقد جهد في تعلم مهنة البرادة!

وهكذا توصل إيليزاروف عام 1951 إلى العملية التي تساعده على اختبار تصوره في أن تأدية عضو ما لوظيفته شرط لاستقامة هذا العضو وسوائه، بل ولنموه.. وكانت الخطوة الحاسمة في قصة هذا الإنجاز الطبي نجاح إيليزاروف في تصميم الجهاز الذي يمكن المريض من الاستمرار في الحركة وتحميل العظام المكسورة. لقد وقع على موارد النمو، وكان عليه ألا يقصر في استثمارها على نحو صحيح. وسرعان ما أثبتت ممارسات الطبيب النابغة بالفعل أنه من الممكن إطالة قامة القزم- بصرف النظر عن عمره- أكثر من عشرة سنتيمترات، وأن علاج الذراع المكسورة يكون أنجع بالشروع فورا في ممارسة رفع الأثقال! وأن صالة الرياضة أو الرقص لها أهمية طاولة العمليات، بالنسبة لإنسان كسرت ساقه، وأن جهودا من هذا النوع-غير العلاجي- تختزل فترات الشفاء إلى الربع!! وهكذا أخذ الإيطاليون والسويسريون والأمريكيون و... ينتقلون إلى أسلوب إيليزاروف، وهكذا دخل هذا الأسلوب العلاجي 88 دولة في جنبات العالم الأربع، وشكل ثورة في علاج العظام تبز نتائجها كثيرًا من المستحدثات الأخرى، مثل التثبيت الداخلي والترقيع بما في ذلك باستخدام الجراحات الميكروسكوبية و....

لكن لعل الأهم إطلاقا أن أفكار طبيب العظام النابغ جافريل أبراموفتش إيليزاروف لا تقف عند تحويل العظام إلى «عجينة طيعة» يستطيع الإنسان تشكيلها على النحو الذي يقومها ويساعدها على أداء وظيفتها، أو أنه راح يطيل الأطراف القصيرة، ويمط الأقزام و.... بل في كيفية إتاحة الفرصة للعضو المصاب كي يواصل ممارسة دوره توا مهما كانت درجة الإعاقة، لأن ممارسة الدور هي السبيل إلى الشفاء السريع، بل وإلى تحريض العضو المنقوص أو المختل على النمو.. إن التفكير في معالجة الخلل على هذا النحو يرتكز على تنشيط آلية النمو حتى يحدث «الاندمال»، ومادمنا قد توصلنا إلى اكتشاف وجود مستودعات النمو بات بالإمكان اللجوء إلى الآلية المناسبة للتحريض عليه.

ومن هنا فإن قانون إيليزاروف (النمو من خلال الممارسة وأحمالها المستمرة والمتزايدة) لا يخص علاج أو تقويم العظام فقط، بل هو قانون عام يسري على كل نواميس الحياة، وصلته وثيقة بالنهوض بكل قدرات الإنسان بل والمجتمع، عن طريق العمران الإنساني والحث المعرفي الإبداعي، وحركة الناس ومساهمتهم في صنع مستقبلهم، مهما كانت درجة الإعاقة التي يعانون منها وبدلا من انتظار مخلص لن يأتي، ذلك أن جوهر التاريخ هو حركة المجتمع عبر تنمية روح المبادرة من خلال أفكار ورؤى ومعالجات جديدة.

 

محمد فتحي 





ثورة إيليزاروف تجتاز العظام إلى كل قدرات الإنسان والمجتمع





دراسة البيوميكانيكا كانت البداية





سواء كانت جبيرة لقطة أم لكلب فتصميم جهاز التجبير هو الأساس





وداعا لشلل الأطفال والكسور والإعاقة