إرهابي "تلك الأيام"

إرهابي "تلك الأيام"

مازال ناقدنا يواصل قراءته العميقة لرواية " تلك الأيام " للكاتب الذي رحل عنا فتحي غانم وهو هنا يأخذنا في رحلة إلى عالم التنظيمات الإرهابية السرية

هناك محطات متعددة دالة في السياق الزمني لأحداث رواية (تلك الأيام) للكاتب فتحي غانم, سواء في التتابع المتعاقب للأحداث أو الحركة البندولية للسرد في تذبذبها ما بين الحاضر والماضي. والمحطة الحاسمة في هذا السياق, من منظور تكوين الإرهابي وانطلاقه في ممارسة العنف بواسطة المسدس الذي اتحد به في معنى الوجود, هي شهر كانون أول (ديسمبر) سنة 1943. قد لا يكون لهذا الشهر دلالة خاصة سوى أنه نهاية سنة وتمهيد لبداية سنة أخرى. لكن اللافت للانتباه المدقق أن السنة التي يختمها الشهر هي سنة تقع في العالم التاريخي, خارج الرواية, ضمن سنوات الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) التي كانت قد جاوزت ذروتها, وأخذت ترهص بنهايتها, الأمر الذي أدى إلى تصاعد حركات التمرد على الاحتلال البريطاني في مصر والثأر من المتعاونين معه, وإلى انتشار التنظيمات السرية التي اتخذت من الإرهاب وسيلة للمقاومة.

ويقول لنا التاريخ إن سنة 1943 شهدت ثلاثة أنماط على الأقل من التنظيمات السرية التي ارتبطت بعنف الإرهاب, أولها التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين, أو ما كان يطلق عليه اسم النظام الخاص, وهو التنظيم الذي أخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن الجماعة ضد البوليس والحكومات المصرية ابتداء من سنة 1943 على وجه التحديد, حسب ما يقول ريتشارد ميتشل في كتابه عن الإخوان المسلمين. وكان من بين الدوافع التي تزايدت بها ممارسات العنف لهذا التنظيم الشعور السائد بخيانة قيادات الحركة الوطنية. خصوصا تلك القيادات التي أسفرت عن وجهها خلال سنوات الحرب فأشعلت رغبة الانتقام منها. وكان ذلك أحد جوانب مسلسل العنف الذي مارسته جماعة الإخوان منذ تأسيس نظامها الخاص سنة 1942 في ممارسات عنفه المتصاعدة التي وصلت إلى ذروتها سنة 1964 مع وقوع أعنف الاشتباكات بين جماعة الإخوان والوفد.

وعلى الطرف المناقض من جماعة الإخوان, كانت المجموعات الماركسية التي ضخت فيها فترة الحرب دماء جديدة, ولكنها لم تلجأ إلى ممارسات العنف التي لجأت إليها جماعة الإخوان, وظلت أقرب إلى التبرير النظري للعنف منها إلى ممارسته الفعلية. ولم يقارب الإخوان في الاندفاع إلى العنف سوى مجموعات من الشباب المستقل الذي حركته كراهية الإنجليز والإعجاب بالألمان والتأثر بالأفكار الفاشية في الوقت نفسه. وقد عملت هذه المجموعات منفردة في شكل مجموعات بعيدة عن الارتباطات الحزبية منها مجموعة محمود العيسوي الذي قتل أحمد ماهر في الرابع من شباط (فبراير) سنة 1945, ومجموعة حسين توفيق الذي اغتال أمين عثمان باشا صديق الانجليز الأول في الخامس من كانون ثان (يناير) 1964.

أما النمط الثالث فهو النمط العسكري الذي تولد من داخل تجمعات شباب الضباط الوطنيين في الجيش المصري, خصوصا أولئك الذين دخلوا الكلية الحربية في أعقاب معاهدة 1936 ومع التوسع المتزايد للجيش بعد قيام الحرب. ومن هؤلاء الشباب نشأ التجمع الأول للضباط الأحرار سنة 1938 الذين استجابوا, بدورهم إلى سياق الممارسة المتصاعدة لممارسات العنف السياسي وما يقترن بها من عمليات اغتيال المتعاونين مع الاستعمار. ويحكي جمال عبدالناصر نفسه عن واحدة من هذه العمليات التي انتهى بعدها إلى نبذ العنف, والإيمان بالعمل على القيام بثورة بيضاء لا تعرف الدم.

استجابات متمردة

وكانت ممارسات الإرهاب التي أسهمت فيها هذه الأنماط, وما تحلق حول بعضها من مجموعات, استجابة متمردة على المدار المغلق الذي انحصرت فيه السياسة المصرية, وتجسيدا لما اقتنع به الشباب من أن تغيير أسس الحياة لا يمكن أن يتم بغير عنف. فقد بلغ الصدام بين المصريين والإنجليز من جهة, وبين طوائف المصريين من جهة مقابلة ذروته التي كانت تفرض الاحتكام إلى السلاح مخرجا وحيدا من المأزق الوطني والمأزق الاجتماعي, فجرفت البلاد موجة من الإرهاب والدعوة إلى الإرهاب, فيما يقول لويس عوض مقدما روايته (العنقاء) التي كتبها ما بين سنتي 1964 ـ 1974 عن ممارسات العنف في هذه الفترة. وبطل رواية (العنقاء) حسن مفتاح نموذج من نماذج شباب هذه الفترة في تبريره الإرهاب, داخل سياقات عالم تاريخي كان كل ما فيه يحتكم إلى السلاح أو يدعو إلى الاحتكام للسلاح, الحاكم والمحكوم والمستعمر والثوار والطوائف المتصارعة والشباب الذين اجتذبتهم ممارسة الإرهاب, في وطن عاش على لغم من ألغام عالم يتوقف عن تدمير نفسه طوال سنوات الحرب العالمية الثانية.

ولم تكن ملامح شخصية عمر النجار إرهابي (تلك الأيام) قريبة من الملامح الشخصية للفئات الديمقراطية أو اليسارية التي انتسب إليها حمزة بطل رواية يوسف إدريس (قصة حب) (1956) أو إبراهيم حمدي بطل رواية إحسان عبدالقدوس (في بيتنا رجل) (1957) وإنما يبدو أكثر شبها بحسين توفيق قاتل أمين عثمان. وبالقدر نفسه, فإن عمر النجار لا ينتسب إلى فئة (حسن مفتاح) بطل رواية لويس عوض (العنقاء) الذي كان يقوم في الرواية بدور سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري. ومع ذلك فإن عمر النجار يتحرك روائيا في الدائرة التي تتقاطع معها مجالات العنف التي مارسها أمثال إبراهيم حمدي وحمزة وحسن مفتاح في العوالم الروائية الدالة على هذه الفترة الزمنية نفسها. ونقطة التقاطع هي صفات المثقف المدني الشاب الذي دفعته شروط ما بين الحربين إلى ممارسة الإرهاب, تعبيرا عن أقصى درجات تمرده على هذه الشروط, وتجسيدا للعنف المكتوم في شرائح المجتمع المدني الذي ينتسب إليه, نتيجة وطأة الظلم اللا إنساني والقمع الوحشي الواقعين على أبناء هذه الشرائح.

وقد لمس (الميثاق الوطني) الذي صاغه جمال عبدالناصر غضب الشباب الذي ينتسب إلى هذه الشرائح في الباب الرابع الذي يحمل عنوان (درس النكسة). وهو الباب الذي نقرأ فيه: (عمت الشباب المصري موجة من السخط والغضب على كل الذين مدوا أيديهم للاحتلال وقبلوا وجوده. ولقد ترددت في مصر في ذلك الوقت أصداء طلقات الرصاص, وتجاوبت أصداء انفجارات القنابل, وكثرت التنظيمات السرية بمختلف اتجاهاتها وأساليبها. لم تكن تلك هي الثورة وإنما كان ذلك هو التمهيد لها.

كانت تلك هي مرحلة الغضب التي تمهد لاحتمالات الثورة, لأن الغضب مرحلة سلبية. والثورة عمل إيجابي يستهدف إقامة أوضاع جديدة). هذه الفقرة, تحديدا ترد في نص رواية (تلك الأيام) صانعة نقطة انطلاق أسئلة المؤرخ سالم عبيد حول شخصية عمر النجار. ومناط الدلالة السياقية فيها هو ما تؤديه على سبيل التناص من وظيفة كاشفة عن بعد أساسي في النص. هو البعد الخاص بالمؤرخ المأزوم الذي يسعى إلى أن يعرف معنى اتجاهات وأساليب التنظيمات السرية في واقع الحياة الفعلية, وفي الحركة الملموسة للفاعل الذي يتكشف عن دوافعه الداخلية إلى الفعل, خصوصا في اندفاعه العنيف إلى ممارسة العنف بكل ما فيه من لحم ودم أو عقل وقلب. يحرك المؤرخ في ذلك إيمانه بأن هذا النوع من المعرفة هو السبيل الوحيد إلى معاينة الحقيقة الكاملة لحضور الكائن الحي لا أن يختزله في أسطر قليلة بالغة التجريد.

ولكن يلفت الانتباه أن الكائن الحي للإرهابي (عمر النجار) الذي اختاره المؤرخ سالم عبيد, ومن ورائه المؤلف المضمر بالطبع, ينتسب إلى الدائرة التي تتقاطع معها دوائر أمثال إبراهيم حمدي وحمزة وحسن مفتاح, أي دائرة التمرد المدني الذي لا يبرر ممارسته للعنف بأي تفسير ديني, منطلقا في فعل عنفه العاري من وعي مدني خالص, وعي يقرن معنى العنف بمعنى الحضور, وذلك في المحاجة التي يبدو بها الموت سبيلا إلى الحياة كأنه العدم الذي يغدو شرطا للوجود. وإذا عاودنا من هذا المنظور, تأمل إرهابي (تلك الأيام) سـهل علـينا ملاحـظة أنه لا ينتسب إلى نمط دعاة الدولة الدينية من إرهابيي التنظيم العسكري للإخوان المسلمين الذين تصاعدت ممارسات عنفهم ضد الإنجليز واليهود والحكومة على السواء, حيث السياق المتصاعد من الإرهاب الذي بدأ باغتيال الجنود البريطانيين, وثنى باغتيال القاضي أحمد الخازندار الذي أصدر حكم السجن على الذين اغتالوا الجنود الإنجليز. وكان ذلك في التصعيد المتبادل الذي انتهى باغتيال محمود فهمي النقراشي, رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت, بعد حوالي عشرين يوما من إصداره قرار حل جماعة الإخوان المسلمين في الثامن من ديسمبر 1984, ثم اغتيال حسن البنا مرشد عام الجماعة في الثاني عشر من فبراير 1949 بعدما يقرب من شهر ونصف على اغتيال النقراشي, الأمر الذي حاولت أن ترد عليه الجماعة بمحاولة اغتيال إبراهيم عبدالهادي الذي تولى رئاسة الوزراء بعد النقراشي ولكنه نجا من الموت.

تصورات المجتمع المدني

وطبيعي أن يكون عمر النجار بعيدا عن جماعة الإخوان المسلمين, فرواية (تلك الأيام) تنتسب إلى رؤى العالم المدني التي يشترك فيها فتحي غانم ولويس عوض وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس, من حيث هم كتاب يعبرون عن التصورات الأساسية للمجتمع المدني, كل على طريقته وحسب منظوره الايديولوجي وانتمائه السياسي الاجتماعي ومعتقداته الجمالية وأسلوبه الفني في الوقت نفسه, ولذلك فبطل الأربعينيات الذي يتحدث عنه هؤلاء هو البطل المتمرد الذي احتكم إلى السلاح من منظور المجتمع المدني الذي ينتسبون هم إليه, وينحازون إلى قضاياه وأفكاره, ويعرفون شخصياته معرفة حميمة, تتيح لهم الكتابة عن أمثال الشخصيات التي خالطوها مخالطة شخصية, عرفوا معها كيف تفكر وتشعر, تفرح وتتألم, تحب وتكره في أدق دقائق تفاصيل حياتها اليومية ومشكلاتها التنظيمية أو الفردية وليس الامر على هذا النحو مع التمرد على المجتمع المدني كله باسم الدعوة إلى دولة دينية, سواء من جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها, فمثل هذا التمرد لا يعرف الكتاب المنتسبون إلى الوعي المدني عن تفاصيل التفاصيل في حياته ما يتيح لهم الكتابة عنه, فظلوا بعيدين عن رغبة تمثيله وتقديمه روائيا, واقتصروا على ما يعرفونه من أشباههم أو أمثالهم في الانتساب إلى المجتمع المدني, وفي التمرد على دولته أو أنظمته في فعل قمعها الذي فرض ردود الفعل التي اقترنت بممارسات الإرهاب.

ولذلك يحاول المؤرخ سالم عبيد في رواية (تلك الأيام) فهم جذور الإرهاب في ممارسات العنف المدني, بعيدا عن أي تبرير ديني ويبدأ من نقطة الانطلاق الأولى لإرهاب عمر النجار, ذلك الذي نراه للمرة الأولى, في الأزمنة الداخلية للرواية, مساء الرابع والعشرين من ديسمبر سنة 1934, فتى في السابعة عشرة من عمره, نحيلا, متوسط القامة, له عينا شاعر, شفتاه رقيقتان, رأسه محني إلى الأمام قليلا كأنه ينوء بحمل غير عادي. قامته منتصبة, مشدودة, كل شيء فيه مشدود, جامد, صلب, في الجيب الداخلي لسترته الرمادية: مسدس. ومن هذا الوصف الذي لا يخلو من المفارقة الدالة, ننتنقل تدريجيا إلى العالم الداخلي للشخصية, ونقترب من التكوين الاجتماعي للشخص الذي يجمع بين عيني الشاعر والجذع الصلب المشدود, وبين الشفتين الرقيقتين والمسدس المتحفز لإطلاق الرصاص.

تقابلات متعارضة

وذلك وصف يكشف عن التعارض الحدي الذي تنبني عليه الشخصية, سواء في جمعها بين متقابلات الرقة والعنف, أو تقابلات رغبات الحياة والموت. وطبقيا, ينتسب عمر النجار إرهابي (تلك الأيام) إلى الشرائح الاجتماعية لأبناء الذوات, فأبوه سيد بك النجار النائب المحترم, عضو مجلس النواب الذي يتوافد الناخبون على باب بيته من الفجر إلى العشاء. وصديقه فهمي الذي علمه ممارسة الإرهاب, وقاده إلى طريق العنف, ينتسب إلى الشرائح الاجتماعية نفسها. وفي (عزبة فهمي) عند القناطر, تعلم عمر النجار دروسه الأولى في الارهاب, داخل حديقة القصر الممتدة كالغابة. وكلاهما نموذج للأوصاف الطبقية التي وصف بها لويس عوض أمثالهما من شباب الفترة التي شاع فيها نموذج الإرهابي, ذلك النموذج الذي كان أكثر من ينتسبون إليه خليطا من أبناء الذوات المثقفين بثقافة أوربية, ولكن في الدائرة المدنية التي لم يعرف سواها لويس عوض وإحسان عبدالقدوس وفتحي غانم ويوسف إدريس على السواء, وهي الدائرة التي كان التمرد فيها على الأب موازيا للتمرد على كل سلطة بطريركية, وكانت ممارسة العنف تحقيقا لمبدأ الرغبة في تجلياته الفردية والجمعية, سواء بالمعنى النفسي أو المعرفي أو الوجودي, وفي الدوائر السياسية للفعل الاجتماعي.

ولذلك كانت بداية عمر النجار إلى ممارسة العنف هي التمرد النفسي على سلطة الأب القمعية, والبحث عن إجابات لأسئلته الجذرية. وكان رفضه للسلطة البطريركية موازيا لإدراكه أن طلقات الرصاص حقائق محددة يمكن القبض عليها باليدين, لا غموض فيها ولا التواء أو التباس أو كذب أو خداع, حقائق بسيطة, فصيحة, حاسمة, تنفذ في اللحم والعظم, فتنهي الحياة التي لا معنى لكل ما فيها من نجاح كاذب أو سعادة مخجلة أو مهانة قاتمة, وتأتي بالخلاص الفردي الذي ينهار به الدمار أو يموت الموت. لكن هذا الخلاص تدميري سرعان ما ينقلب على نفسه ويتحول إلى نقيضه في جمعه بين النقائض التي يكتسب صفاتها الحدية.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فتحي غانم