قراءة نقدية: "وعادت الأشعار"

قراءة نقدية: "وعادت الأشعار"

تأليف: على السبتي

نحن أمام شاعر مقل متمهل يروض القول ويختبر الحياة قبل أن يضفرها في تشكيل شعري

صدر ديوان (وعادت الأشعار) (1997) بعد سابقه بسبعة عشر عاما, وكان هذا بدوره قد تمهل عشرة أعوام أو تزيد بعد الديوان الأول: (بيت من نجوم الصيف) (1969) الذي أرسى ملامح الشعرية عند الشاعر, ونال عناية نقدية يستحقها عند صدوره, وفي طبعته الثانية إن صمت الشاعر له دلالته, والكلام بعد الصمت له مغزاه في تفسير الصمت ذاته, والفاصل الزمني هو فصل من تجارب الحياة والفن, فإذا كشف جسر التواصل عن عروقه الممتدة عبر مساحة الصمت دل على أن الصمت لم يكن انقطاعا عن الشعر, ولم يكن قطيعة مع الحياة, بل لم يكن بحثا عن التغيير, إنه ـ بالأحرى ـ سباحة في العمق, وهذه هي العلاقة المحددة بين هذا الديوان, وسابقيه: بيت من نجوم الصيف, وأشعار في الهواء الطلق, فلا شىء يتغير من إحساسنا أو استحساننا إذا قرأنا الدواوين الثلاثة على أنها ديوان واحد, إلا بمقدار ما ندهش لجمال الاكتشاف وطرافته حين نرى صورة الشخص ذاته في مرحلتين من العمر ونأخذ في تأمل المفارقة بين الملامح الثابتة, وما يستجد من هيئة بفعل الزمن.

لقد حملت قصائد الديوانين السابقين تواريخ صناعتها, وجاءت قصائد هذا الديوان مرسلة من قيد الزمن, رغم ما يفوح من رائحة الزمن المستكن في أثنائها, وحتى عندما ينشر مرثية قصيرة في عبدالله السالم بعد رحيله بأكثر من ربع قرن, فإن لتوقيت النشر دلالته على معنى الصمت السابق.

إن الإطار القصصي يحدد البنية الدرامية للقصيدة, إذ يتراجع الصوت الواحد, وتنطلق الشرارة من وجود الأنا والآخر, ويفرض القص تقاليده من عناية ببعض التفاصيل, ومقاربة الواقع, وتراتب مراحل الحدث النامي, وربط النهاية بالبداية, وهذا يتحقق في قصائد عدة, مثل: (من ليالي تشرين), و(ذات ليلة شتائية), بل إن قصيدة (أفتح دربا للأيام) قصة مكتملة العناصر الفنية, وهذا مطلعها:

وحدي، والليل الساجي، وأزيز الصرصار من الحمّام
وبرأسي أفكار تتصادم، هيهات أنام
والكأس أمامي فارغة.. هيهات أنامْ
أبحث في درج المكتب عن مكتوب
عن موعد حب في الغدأخلق في وهمي محبوبْ
أطعمه الأشعار بلا عد
لكن الليل يئز به الصرصار
ينسج فوق جبيني خيمة عار
فأمزق ما في الدرج من الأشعار

تحديد الزمن, والمجال, والحركة, والشعور, والاهتمام بالمشهد الخارجي, والمقابلة بين السامي في الداخل(الحب) والمبتذل في الخارج (صرصار في الحمّام) كلها تصنع هذا الجوالقصصي الذي يرسم مدركات واقعية, تفتح الطريق لما تحت الواقع من أحلام ومخاوف وإحباطات, والشاعر السبتي في غالب أشعاره مغروس في أرض الواقع, حالم بالمثال, صادق في حيرته بين ما يريد وما يستطيع:

عمري الذي قد ضاع بين هوى
لا يستطاب وآخر عذري
ومضت سنيني كلها تعب
ما طاب لي يوم مدى عمري

فإذا أجمل قضيته في قوله: (حملت هم الناس من صغري) فإن القضية تستحيل إلى مشكلة حين يكتشف أن هؤلاء الناس في الموقف المناقض له:

(أحاول لم الشمل لم تجمعوا شملي...)
ألافيكم, وأسأل قلبي الولهان: ماذا صار
كأنكم نسيتم ذلك القلب
الذي غناكم الأشعار

في ضوء هذا المدخل القصصي إلى درامية القصيدة يمكن أن نكتشف رابطة (داخلية) بين قصيدتين متعاقبتين, وأنهما قصيدة واحدة انقسمت تحت عنوانين, حدث هذا مرتين, بين قصيدة (اليوم تأتين) وقصيدة (بليلة عيدك), وكذلك بين قصيدة (هذا أنت) وقصيدة (غدا ما يكون) إن الانفعال ذاته يتموج, والمعنى يبدأ, ليشبع المشهد والمعنى ويكتمل في القطعة الأخرى.

تواصل درامي ولغوي

في القراءة الشاملة لأشعار علي السبتي سنجد التواصل الدرامي واللغوي جنبا إلى جنب, في معارضته لقصيدة الشاعر الدكتور خليفة الوقيان: (المبحرون مع الرياح) يسوط السبتي المتواكلين النهمين للأخذ دون عطاء, فيقول: (جربتهم عشرين موجعة), وهنا يقول: (أخفيت عني من عشرين عاطفة) (ص25), بل إنه في ديوانه الثاني, في قصيدة: (هكذا غنى فهد العسكر) يستخف بالمتفاخرين بالأنساب, ويعلي من شأن الانتماء إلى الكادحين المتحررين من أغلال عراقة مدعاة:

يا أيها الآتون من مضر

ما كان جدي من بني مضر

أنا قد رضعت حليب كادحة

وحملت اسم مشرد غجري

فالشاعر يتخذ من (مضر) ـ رمز التغني بالعراقة والقدسية ـ علامة على رفض التمييز بين طبقات المجتمع الواحد, كان هذا عام 1969, أما وقد جرى في الخليج ما جرى, فقد حكم الشاعر بأن الحدث ضد التاريخ, وضد عراقة العروبة, إنه عمل هجين دخيل, وإصلاحه يستدعي توسيد الأمر إلى أهله.. إلى مضر..

وبغداد كانت قمر
ألا هل فتى من مضر
يعيد لغبداد وجه القمر!

العلاقة بين (مضر) هناك, و(مضر) هنا هي علاقة تضاد (وظيفي) يعمق الشعور بالمفارقة, ويصنع تعارضا دراميا بين القصيدتين.

ويتأكد هذا الطابع الدرامي في بناء القصيدة, داخل إطارها القصصي بتعدد الأصوات, يتجسد بالحوار المعلن بين أشخاص, والحوار الضمني في تعدد الأقنعة, والحوار الداخلي في انقسام الذات, والحوار السياقي في التداعي استجابة لتيار الشعور. فإذا ختم قصيدة (قبل الرحيل):

لذلك سوف أهاجر
إلى حيث (لاتا) تغني, وقلبي يسافر
ـ أحقا أهاجر
?!

إن لام التعليل, واسم الإشارة للبعيد, وسوف المؤكدة, كلها وسائل لإعلان الحسم في القرار, قرار الهجرة, ولكن السطر الأخير, السؤال المتشكك المستنكر يضعنا أمام (حقيقة) جديدة, بحيث نسلم بإمكان الوضع/ الصياغة الوسط, وهي أن يسافر القلب إلى حيث لاتا تغني, والسفر غير الهجرة, والقلب يسافر في غير زمن, ويعود قبل أن يرتد الطرف. وكثيرا ما يستخدم الشاعر علاقة التضاد في شكل طباق أو مقابلة لتأكيد درامية التشكيل من مثل:

وكثير من السنين عجاف
وقليل من الرجال عظام

وهذا كثير العدد, كثير الألوان, لا نبخسه حقه كظاهرة أسلوبية, وإن يكن قليل الأثر في إقامة هيكل القصيدة, الذي أرساه القص والحوار في أنساقهما المختلفة.

وإذا كان زمن القصيدة يقدم الحدث فإن زمن الشاعر يتولى رسم الإطار, أما زمن ثقافة الشاعر فإنه يمد القصيدة بمكوناتها, وهنا سنجد الروافد تتـعدد, وتتـمازج, والتناص يدل على مصادره ومساربه إلى التجلي في القـصيدة. المصدر الأسطوري في (الصدى) و(الهامة) وهما من خرافات الجاهلية, والمصدر الديني القرآني في قوله:

فصارت الدار أعتى من حمى الجودي (140).

والجودي هو الجبل الذي رست عليه سفينة نوح يوم لا عاصم من أمر الله إلا من رحم, والصياغة القرآنية ماثلة في عبارات أخرى:

لكم دنيكم ولقلبي دين (ص55)

يخلق من علق (ص141)

نتحدى أبا لهب (ص156)

وكتابكم في سورة النحر (ص16)

وليس في القرآن سورة بهذا الاسم, وإنما أراد الشاعر (سورة الكوثر) وآيتها الأخيرة: سورة الكوثر آية 3 إن شانئك هو الأبتر وسياق القصيدة منابذة بين الشاعر والعابثين بالوطن والوطنية. ويستمد الشاعر صياغة الإنجيل في قوله: (يا ذات الصوت القادم من خلف البرية) (110) ويتأكد مصدر التناص في إشارته إلى الفادي: (نبحث عن فادٍ آخر), وهو أحد الأسماء التي تطلق على المسيح عليه السلام وكذلك يمده المأثور الشعبي ببعض العبارات الجاهزة, وما يحتمل أنه مثل متداول, من مثل (يا بعد عمري) و(أم ربيع مثل أم محمد), أما شعراء العصور العربية فقد حضروا في صفحات الديوان في لباقة ومهارة, يشير إليهم علي السبتي بوضع الأقواس حتى لا تختلط الأقوال, ويسكت عن هذا حين يرجح أنه أنتج شيئا مختلفا, فمن المنصوص عليه: (لا شيء يعدل الوطن) وهو لشوقي, و(معللتي بالوصل) وهو لأبي فراس القديم(كنية علي السبتي أبوفراس أيضا) و(يتزيا بالهوى غير أهله), ومن المسكوت عنه:

وما الناس إلا عالم بحقيقة

شقي، ومسحوق تنعم بالجهل (ص 18)

وهذا مصدره:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

أما: أحاول لمّ الشمل لم تجمعوا شملي (ص19)

فأساسه الشطر الجاهلي: أريد حياته ويريد قتلي.

وينتسب قوله: المدعون بحب ليلى كثار (ص28)

إلى البيت القديم:

وكل يدعى وصلا بليلي

وليلى لا تقر لهم بذاكا

أما البيت الغزلي:

ألا حدثوني أي حرب شريفة

سوى الحرب ما بيني وبين (فتون) ص71

فقد سبقه إليه جميل صاحب بثينة:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وأي جهاد غيرهن أريد

أما بيت الشابي المشهور جدا فقد تنفس في قول السبتي:

إن الشعوب إذا شاءت هي القدر (ص82)

وكذلك عارض المعري في موقفه العبثي من الحياة التي لا يجدي فيها نوح ولا ترنم, فالسبتي صاحب الموقف القومي الواضح يقول بعكس هذا:

كل شيء في الدهر قد صار يجدي (ص123)

ويذكر المعري قصدا.

وقد تعقبنا هذه الإشارات لندل ـ عمليا ـ على اتساع المعرفة التراثية, وقدرة الشاعر على التصرف في اللغة, وتأويل السياق.

واقعية التصور

ويستحق مبحث الصورة في شعر علي السبتي, كما في هذا الديوان عناية خاصة, وتنتمي صوره ـ عامة ـ إلى واقعيته السائدة في تناوله لقضايا راهنة, كما تستمد إمكانات أسطورية تحتاج إلى إعمال الفكر لتخرج من دائرة التناقض إلى مستوى الفلسفة دون اصطناع. من النوع الأول, الواقعي, هذه الصورة النسوية الفياضة بالحيوية, التي وضعها تحت عنوان: (شعور الظافرين):

أحدث أم يوسف وهي تبدو

كمثل الطلع في زمن اللقاح

تفتح كل شيء في الزوايا

ورقت كالنسائم في الصباح

فتأمل الموروث العربي في تكنية المرأة حتى وهي فتاة لم تدرك, وفكر في مغزى التشبيه وكل ما يدل عليه من رغبة الحياة المعلنة, وصلة المشبه به بالبيئة الصحراوية. وهل ترى إمكان التريث عند إضافته صيغة (تفتح), التي تختلف تهذيبا ومن ثم جمالات عن كلمة قريبة منها وهي (انفتح) مثلا?! وما تدل عليه (كل شيء) وما تومي إليه (الزوايا) وهي موطن الطلع الشهي.

وفي قصيدة: (عالم من هباء) يقول:

سأحفر في الصخر دربي
وأكتب شعري في الماء
أو في بطون النساء

السطر الأول سبق بصيغته في ديوانه الثاني (تأوهات من المقبرة الجنوبية ص 26) وهو تعبير نثري مبتذل لا يستحق العودة إليه, ولكنه في سياقه هنا يأخذ وضعا خاصا, إذ تنهض علاقة تناقض بين الصخر والماء, ولكنه تناقض خادع لأنه يحمل معنى المجاورة, والتكامل من جانب, ولأن للماء دلالة أخرى يكشف عنها استخدام حرف الجر (في) ثم الإشارة إلى بطون النساء في السطر الأخير. فالكتابة على الماء هي النقيض للنقش في الحجر, أما الكتابة في الماء فهي عودة إلى أصل الحياة, وقد بدأت في الماء, وبالماء في بطون النساء, وهذا ما يناسب توعده للغافلين العابثين بأن ما يبذره من وعي لا يذهب هباء, فعالم هؤلاء العابثين هوالهباء, أما أشعاره فتستقر في مهادها حتى يأتي أوان حصادها.

ويستخدم علي السبتي أسلوب تعليق الجواب بقصد امتداد أفق التوقع, وتقوية الدرامية في تصوير المشهد, كما نجد في مطلع قصيدة (قبل الرحيل):

لأني صرت وحيدا
لأن وصالك يبدو بعيدا
لأن مشاعر قلبي صارت جليدا
لأني منذ الطفولة, أحلم, ألبس
ثوبا جديدا
لأنك لا تسأليني.. عني
سأترك هذي البلاد وأمضي

إن (حيثيات) ترك البلاد مطروحة مع (لأني) الأولى, ولكن (سأترك) ليست جوابا عنها, فقد تتابعت (لأن), (ولأني), ومن ثم تم تعليق الجواب مع ترادف التساؤلات, مما أقام حوارا بين أن, وأنك, وأني, وأدى إلى اتساع مساحة التوقع لدى المتلقي أيضا.

بعض الهنات

في الديوان هنات لغوية وتعبيرية قليلة, نشير إلى واحدة منها, يمكن تصويبها بقليل من المراجعة, وهي قوله:

ألا حدث الآتين بعدي بأنني
على غير ما لا أشتهيه أكون

فإذا كان يريد استحكام الإرادة, وأنه لا شيء يلتوي به عن مقصده فقد كان التوصل إلى هذا المعنى أكثر دقة وسلاسة وسلامة بغير تكرار النفي (غير ـ لا) وإذا أراد عكس هذا المعنى, وهو أنه لم يكن أبدا كما اشتهى أن يكون فإن نفي النفي يدحض ذلك. والطريف أن البيت التالي:

فما كل شيء تبتغيه بكائن

وما كل شيء تشتهيه يكون

يقبل أن يكون تقـوية لكلا المعنـيين المتعاندين, بافتراض صحة التركيب في المعنى الثاني.

وإذ يقول لحبيبته: سآتي حتى لو كنت في قندهار (ص101) لا ندري ما فضل قدنهار هنا وهي ليست أقصى المعمورة, ربما لأن أفغانستان تعاني ما نعرف الآن, ولكن كيف يكون النظر مستقبلا لهذه الإشارة? وربما لأن قندهار ذكرت في حكايات ألف ليلة, وهنا تتسق الإشارة مع نزعته التراثية. أما المعاني الحكمية الصادرة عن دقة نظر فإنها ماثلة في مواقع وسياقات متعددة, يدركها المتأني في تلقي القصائد, المهتم بالتفاعل معها, وليس مجرد اجتناء معناها, فماذا وراء قوله:

"وما عاشق إلا عليم وشاعر"

من عمق خاص? وماذا يتضمن قوله:

"وما يلذ لمثلي ساقط الثمر"

من خبرة ذاتية بصراع الحياة ومعنى الوجود.

إن العمق الخاص, وصراع الحياة, ومعنى الوجود هي العلامات المميزة لتجربة علي السبتي في ديوانه (وعادت الأشعار).

 

محمد حسن عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات