جمال العربية: صوت شعريّ من موريتانيا: مُباركة بنت البراء وخَيْمَتُها العربية

جمال العربية: صوت شعريّ من موريتانيا: مُباركة بنت البراء وخَيْمَتُها العربية

لا نكاد - نحن المتابعين لحركة الشعر العربي في الأقطار العربية - نعرف شيئًا كثيرًا أو قليلًا عن حاضر الشعر العربي في موريتاينا. وأقصى ما تحتفظ به الذاكرة نثارات لا تُشكّل قصائد كاملة، لعدد من الشعراء، لم ينجح شعرهم - الجديد والمختلف المذاق - في اختراق الحاجز الوهمي الذي أقامه كلّ قطر عربي بينه وبين جيرانه، أو القفز من فوق السدود المصطنعة، التي نجح أعداء الوطن العربي من الغزاة والمستعمرين والمتآمرين في إقامتها بين هذه الأقطار، مدعومة بأكاذيب ِووشايات عن أهمية هذه السدود والحواجز، حتى لا يتسرّب الفكر الهدّام، أو الثقافة الغازية (إن كانت هناك ثقافة غازية) من بلد إلى آخر، واستسلم المسئولون لهذه الخرافات والأكاذيب، ورأوا فيها نوعًا من النجاة والحماية والتدرّع بما لديهم من عفن التقاليد وفساد العقول.

فما بالنا إذن بموريتانيا، هذه الخزانة الضخمة للتراث العربي منذ أقدم عصوره، وهذه الذاكرة الفذّة، التي استوعبت كثيرًا من ذخائر هذا التراث ونفائسه، حفظتْها منذ أول الأمر وصانتها في الآبار خشية أن يعبث بها الغزاة الذين لا يطيقون العربية ولا تراثها العظيم في كل مجالاته الأدبية والفقهية والمعرفية. وهذا الدور وحده - دور الحفاظ والذاكرة - لابد أن يذكر لموريتانيا وشعبها العربي ومثقفيها ومتعلميها من الحفّاظ والرواة، فبفضلهم استمرت الثقافة العربية في هذا الموقع البعيد على غرب الأطلسي، في عزلته النائية بين الماء والصحراء، بين المحيط والقفار، لكنه منتصب كالمنارة العالية يضيء لأبنائه ولمن حوله، ويتحرك علماؤه وأبناؤه الذين أصبحوا الآن أساتذة وأكاديميين كبارًا في الجامعات العربية والأجنبية، يواصلون حمل الرسالة، وتجديد الأمانة، ونشر فكرهم وإبداعاتهم حيثما حلوا وأقاموا، ونصبوا بيوتهم وخيامهم، بالمعنيين الحقيقي والمجازي.

من بين هؤلاء الشاعرة والأكاديمية مباركة بنت البراء التي التقيت بها - لأول مرة - في أثناء انعقاد مؤتمر مؤسسة البابطين للإبداع الشعري، عن الأخطل الصغير بشارة الخوري، وكان المؤتمر منعقدًا في بيروت، وكنت وقتها أجري حوارات أدبية معمَّقة مع كثير من الأساتذة والمبدعين العرب - الذين يعدون رموزًا للثقافة العربية المعاصرة - لإذاعة لندن العربية. واكتشفت في مباركة بنت البراء صوتًا شعريًّا عربيًّا - متميِّزًا ومذاقًا، خاصة بشاعرة موريتانية، لا يدري الجمهور الأدبي عنها ولا عن الحركة الشعرية والأدبية في بلدها موريتانيا. قلت لنفسي: هو اكتشاف سيسعد به جمهور الأدب العربي من خلال إذاعة دولية واسعة الانتشار، وكان لها اهتمام خاص بمستوى البث وجودته وقدرته على الوصول إلى الأماكن البعيدة والأطراف السحيقة مثل موريتانيا. وكان حديث مباركة مكافئًا لثقافتها الأدبية والشعرية، وكانت نماذجها الشعرية - التي تخللت الحوار مؤكدة لأصالتها وجوهر معدنها الشعري، وسعد الإخوة في إذاعة لندن كلّ السعادة بهذا التسجيل الذي لم يتوقَّعوه وظلوا يعيدونه مرات عديدة بعد إذاعته لأول مرة.

ولدت مباركة بنت البراء الأمين في عام 1956 في المذرذرة أتا كلالت بموريتانيا، وتلقت دروسها الأولى في المحظرة - التي تشبه الكُتّاب في مصر - ثم التحقت بسلك التعليم النظامي وحصلت على شهادة بكالوريا التعليم الثانوي بامتياز عام 1979، ثم شهادة المتريز في الآداب من المدرسة العليا للأساتذة عام 1983، ثم شهادة البحث المعمق من جامعة محمد الخامس بالرباط عام 1987.

وبعد تخرجها، درّست بالثانوية، وعملت مسئولة عن الشئون الأكاديمية بكتابة الدولة المكلفة بمحو الأميّة ثم درّست في الجامعة، كما عملت مستشارة بوزارة التنمية الريفية والبيئة، ثم أستاذة في كلية الآداب بجامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية. ومن دواوينها الشعرية: ترانيم لوطن واحد، ومدينتي والوتر، وأحلام أميرة الفقراء. ومن أعمالها الإبداعية الأخرى في مجال الكتابة النثرية: «حكايات الجدة» في ثلاثة أجزائها. ومن مؤلفاتها: البناء المسرحي عند توفيق الحكيم، ومنهجية البحث عند عبدالله كنون وعباس الجراري. كما تُوّجت رحلتها الشعرية بعدد من جوائز وزارة الثقافة الموريتانية، وتم تكريمها في عدد من الملتقيات والمهرجانات الأدبية والشعرية، واهتم بشعرها عدد من الدارسين والنقاد، كما اهتموا أيضًا بكتاباتها القصصية، وأصبح شعرها موضوع دراسات في العديد من الدراسات الجامعية.

من السهل - عندما نطلع على شعر مباركة بنت البراء - أن نكتشف عروق الشعر العربي العمودي، في ثنايا ما تبدعه، فهي قادمة - شعريًّا - من النبع الشعري العربي الأصيل، قرأته وتتلمذت عليه وانفصلت عنه حين اتسع أفقها الشعري المتجدّد لاستيعاب الحركة الشعرية العربية الحديثة، متأثرة بالتيار الرومانسي العارم الذي ساد بين شعراء الوطن العربي في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته والتمع من خلال شعراء نهلوا من الثقافة الغربية الحديثة، فدعّموا ركائزهم في الشعر العربي القديم، وأتيح لهم التحليق بأجنحة قوية إلى فضاءات شعرية لم تكن معهودة عند شعراء العمود الشعري، وليس أبو القاسم الشابي في تونس، وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل في مصر، والتيجاني يوسف بشير في السودان والأخطل الصغير (بشارة الخوري) وأمين نخلة في لبنان، وعمر أبو ريشة ونزار قباني في سورية، ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وعاتكة الخزرجية في العراق وفدوى طوقان في فلسطين، إلا أمثلة لهذا الوهج الشعري الذي أضاء وامتد إلى كلِّ مكان يبدع فيه شاعر بالعربية، وجاءت مباركة بنت البراء لتنهل من هذا كله، ولتكتب قصيدتها - على عينها - ثابتة الركائز في أرض الشعر العربي، محلقة الجناحين في آفاق المعاصرة والانفتاح على التيارات الحديثة، مغازلة لحركة الشعر الجديد عند الجيل الأول من مبدعيها: جيل السياب والبياتي ونازك وصلاح عبد الصبور وغيرهم، وهي تقول بعنوان: «مدينتي والوتر»:

في ليلك الشجيِّ تنثال أحاديث السَّمر
فى ليلكِ يا أُحجيتي
عوالمٌ من الصور
في ليلك المسكون بالآهات والضجر
أُلامسُ الوتر
فى ليلكِ الصخريِّ حيث النجمُ في السماءْ
قد غار، حين السّاكنون في الخفاءْ
تخلّلوا من النهار، من دوّامة الفناءْ
أُطلُّ يا مدينتي لكي أُلامسَ الوترْ
أطلّ يا مدينتي
ويهزأُ القدرْ!

ولأن موريتانيا - على نأيها وعزلتها وبعدها عن المراكز المؤثرة والأجزاء الممتلئة من العالم العربي - كانت محطّ أسفار وواحة إقامة لكثير من رسل الثقافة والدين والعلم - منها وإليها - فقد أصبح السفر بكل موروثه من الشوق واللوعة والحنين، وما يرتبط بأحواله من التوْق والبوح والشجن، والحديث إلى الرمال التي تطوي القوافل وتطويها القوافل، والنخيل - الشاهد العظيم على حركة القادمين والمغادرين - والأدعية والأذكار والتراتيل، وحركة السفن التي ترسو على ساحل موريتانيا وتغادر بعد حين، كل ذلك يحمله السفر في ثناياه، ويتمثله الموريتاني باعتباره حصيلة عمر وانبثاقة جرح وبلوغ أمل أو سراب. تَقول مباركة في قصيدتها «من مذكرات مسافر»:

ضُمِّي إليكِ حبيبًا هدّهُ الزمنُ
حلّت به محنٌ، ما مثْلُها مِحنُ
ضُمِّيه إنَّ به شوقا إليك، به
توقًا إليك، له بوح، له شجنُ
ضُمِّيه، إن الرمال السُّمْرَ تَعرفُهُ
ويذرفُ الدّمْعَ منها السَّهْلُ والحزَنُ
رحماكِ يا أرضُ لا شيءٌ ألوذ بِه
إلاكِ، لم يبْقَ لي سرٌّ ولا علنُ
لم يبْقَ إلاكِ ما أرجوهُ، معذرةً
إذا أتيتُ وقد جافانيَ الوسنُ
أين النخيلُ وصمغٌ كنتُ أعلكهُ
وأين حيِّي، أحلُّوا اليوم أم ظعنوا؟
الصمغُ ما زال ثرًّا في منابته
والنخلُ أعرفهُ، إني به الفَطِنُ
لأسمع الشيخ في ترتيلِ أدعيةٍ
لآنسَ النار ضاقت حولها الدّجنُ
حدا الرعاة بإِبلِ الحيِّ سائمةٌ
ورْدَ السّوامِ، وقد عجَّتْ بها العُطُنُ
حبيبتي الأرضَ، إني لم أزل دنِفًا
رغم البعاد، وحُبِّي فيك مُرتهنُ
كلُّ الطعام بحلْقي علقمٌ نزِقٌ
كلُّ الشراب بحلقي آجنٌ أسِنُ
إنَ الجراح بجسمي غيرُ غاليةٍ
لكنَّ جسْمكِ لن يذْوِي به غُصُنُ
بَنيتُ عُمريَ جهلاً خلف أشرعةٍ
فى لجّةِ الموج، لم تثبتْ بها سُفنُ
يلهو بها الموج ربّانا وأقبيةً
في كلِّ زاوية من دَجْلها فِتنُ

المعجم الشعري المتناثر في ثنايا القصيدة يذكّرنا بعصر بداوة الشعر العربي: الرمال السّمر، السّهلُ والحَزن، النخيل، والصمت الذي يعلكه المسافر، والحيّ الذين ظعنوا، ومؤانسة النار حولها الدّجن، والرعاة السّائمهُ بإبل الحيّ، وغيرها مما يبعث صورًا لا تزال حية وحاضرة في بيئة موريتانيا التي لم تغادر الصحراء، ولاتزال تنتمي إليها روحًا ووجدانًا وتقاليد وقيمًا وعاداتٍ وأسبابَ حياة. وفي ثنايا هذا المعجم وعي الشاعرة بموضوعها الجديد الذي لا بدّ أن تسبغ عليه من روحها حضورًا متجدِّدًا، منفتحًا على الأفق الرومانسي الغنائي حين تتوهج القصيدة بمفردات الشوق والتوق والبوح والشجن، والوسن الذي يجافي السّاهر المنتظر عودته إلى الوطن، لا يطيب له طعام أو شراب، والحبيبة الأرض غالية ومعشوقة مهما كانت بعيدة، وصورة الوطن وقسَماته وصفحته تمتزج بالحب المرتهن فيها. ومن هاتين الجديلتين معًا، تغزل مباركة خيوط شعرها، كما رأينا في هذه القصيدة « من مذكرات مسافر»، وفي قصيدَتها «إلى خيمة عربية»:

لبلادي حبي، وورد خدودي
لبلادي أنشودتي وقصيدي
لبلادي صوتي الحزين، مضاه
حملات الأيام والتنكيدِ
كلّ شبرٍ به سجدتُ زمانًا
وتلظَّيْتُ في صلاة الخلودِ
كلما اغبرَّ قاتمٌ واستبدّتْ
عاصفات الغبار زاد نشيدي
لا أبالي الأيام، كم شنقتني
فوق أرضي، كم أمعَنتْ في صدودي
يا رمالي ويا بقايا نجيعي
أو تنسيْنَ موثقاتِ العهودِ
أو تنسيْنَ طفلةً تركوها
حينما داهموا عرينَ الأسودِ
سلبوا من بياض عيني سوادًا
عطلوني فلا عقود بجيدي
أطفأوا جذوة الشباب بوجهي
قطعوني بين الكلابِ السُّودِ
تهمتي موطنٌ أليفٌ، وقومٌ
صُبرٌ، فاستبحْتُ حال السّجودِ
غربتي غربةُ العرار، وشوقي
دمويٌّ إلى رفاتِ الجدودِ
أتناسى بأنَّ لي زَنْدَ قرمٍ
يزرع النجم في رحابِ الوجودِ
أنا إعصار غضبةٍ يتَنزّى
كلَّ حينٍ بألف ألف ولودِ
بِقُرونٍ تفيءُ عصْرَ امتدادٍ
يعربيِّ البِذار والتسميدِ
كل جرحٍ بداخلي أرفدتْهُ
من بلادي، دماءُ كلِّ شهيدِ
كلُّ جرح يشتدُّ أبلقَ خيلٍ
مشرئبا كالعارض الجلمودِ
راهبٌ أنت والحمى مستباحٌ
ناسكٌ أنت في زمانٍ حقودِ

ثم تقول مباركة بنت البراء:

فارسَ الأمنياتِ أنت نجيِّي
في تباريح عصريَ المفقودِ
في نجيعٍ روّى سلالم بيتي
في شظايا كتمْتُها بنهودي
في صباحاتِ أمةٍ أرهقوها
ساوموها القرآن بالتلمودِ
قادمًا كالردى أراك، ونزفٍ
قُدسيٍّ، يدكُّ صخْرَ السُّدودِ
كيف سوَّيْتَهُ وجئتَ من الجر
حِ، صهيلًا ينمو بكلِّ صعيد؟
قدرًا جئتَ، عارضًا سيف عمروٍ
لجُمَ الخيلِ، صاعقاتِ الرعود!
هي ذي الأرض موعدي، فتقدّمْ
هي مُلْكي من طارفٍ وتليدِ
ضُمّني بالسيوف فيك، وعمَّدْ
هذه الأرضَ، غَطِّها باللحودِ
فصقيع الشتاء عاث بجسْمي
وبرأسي أحلام عصرٍ جليدي
ثوبيَ الليلكِيُّ، ما زال بِكْرًا
حالما فيكَ خادرًا بالوعودِ
من جُيوب البنادقِ العُمْرِ يُغْريـ
ـكَ، إذا عاثَ في ثنايا الوريدِ
ساوموني عليه كم ساوموني
أوعدوني بالنفي بالتشريدِ
حين كلُّ القواقع الجُوفِ تطفو
مثقلاتٍ بمرهقاتِ البُنودِ
لا حروفي مني، ولا أنا منها
فحروفي مطرودةٌ لطريد
إنّ صمْتَ القصيد أبلغُ جُرحًا
حين لا سمْعَ مُنصتٌ للقصيدِ!

وفي القصيدة من حسّ «مباركة» العروبي، وتوهج شعورها القومي، والتفاتها إلى تضحيات الشهداء، وتدفق الدماء، والشكوى من صقيع الشتاء والعصر الجليدي فيها، من كل ذلك ما يضعها في أفقٍ مغاير، وفضاءٍ شعري تُحلّق شاعرته بعين النبوءة متجاوزة صمت القصيد الذي لم يلتفت إلى سمع. فالقصيدة نُطْقٌ من خلالها وبصوتها، فيما يشبه الثورة الشعرية والإنسانية معًا.

-------------------------------------

يقولون؛
إن الأديبات نوعٌ غريبٌ
من العشب... ترفضه البادية
وإنّ التي تكتبُ الشعر...
ليست سوى غانية
وأضحك من كلّ ما قيل
عنّي
وأرفض أفكارَ عصر التنك
ومنطق عصر التنك
وأبقى أغنّي على قمّتي العالية
وأعرف أنّ الرعود ستمضي...
وأنّ الزوابع تمضي...
وأن الخفافيش تمضي...
وأعرف أنّهم زائلون
وأنّي أنا الباقية....

سعاد الصباح

 

فاروق شوشة