اللغة حياة مصطفى الجوزو
اللغة حياة
آفة التسرّع في الأحكام اللغوية من أخطر ما يعترض اللغة آفة التسرّع عند بعض المشتغلين بها، الذين يثقون بعلمهم ثقة تحملهم على الركون إلى عاداتهم وخواطرهم، أكثر من الاستناد إلى النصوص الثابتة، والقواعد المؤكدة، فهم يطلقون الأحكام بلا رويّة، يصوّبون مرة ويخطئون مرة أخرى، ويُتعبون اللغة وأهلها بلعبة الخطأ والصواب. ومن هؤلاء صديق يتمتع بمزية محبة اللغة والحماسة لها، لكن من الحب ما قتل، فقد اتفق لي أن كنت أحدّث مجموعة من الأصدقاء، والزملاء، وهو واحد منهم، واقتضى المقام أن أستشهد بالبيت المشهور:
وإذا الصديق يستوقفني، ويدير أذنه بانتباه إلي، ويستعيدني رواية البيت، كأنه يريدني أن أستدرك زللاً أو سهوًا، فلما وجدني أكرر البيت بأحرفه (وكأنني أصرّ على المعصية) قال لي بثقة الأستاذ العلاّمة: «يقال اعتذر عن، لا أعتذر من»، فأجبته: «هكذا رُوي البيت»، فقال: «لكنه خطأ». قلت: «إنه من الشعر الجاهليّ». فردّ: «وإن!» فسألته: «وهل تصحح كلام الجاهليين؟» فأكّد إمكان ذلك، حتى إذا لاحظ استغراب الحضور استدرك بصوت خفيض: «يكونون: (يقصد الرواة أو اللغويين) قد حرّفوه». ولم أشأ أن أسترسل في الجدل، لأنني مقتنع أن الخبر الذي ورد فيه هذا البيت، إنما هو قصة من اختراع الرواة، إذ زعموا أن الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة قد هجا أحد سادة بني عبس عند النعمان ملك الحيرة، واتهمه تهمة قبيحة، فلما أرسل العبسي إلى الملك كتابًا يدفع فيه التهمة عن نفسه، ردّ عليه الملك بشعر فيه البيت المشار إليه. لكنني مقتنع، في الوقت نفسه، أن صياغة البيت صحيحة، لأن اللغويين، فضلاً عن مؤرخي الأدب، قد رووه بكثرة، مستشهدين به على حذف «كان» بعد «إن» وعلى غير ذلك، ولم يلحظ أي منهم هذا الخطأ اللغوي الذي زعمه صديقنا العزيز. ومع هذا الاقتناع لم أرغب في مناقشة الصديق، لمعرفتي بعقم ذلك. ودفعًا للشك باليقين، راجعت كتب الحديث النبوي الشريف، فوجدت فيها: «فحذفَه ثم اعتذَرَ إليهم ممّا صنع به»، ووجدت في معجم «العَيْن» للخليل بن أحمد، وفي معاجم أخرى: «اعتذر من ذنبه فعذرته». وفي ديوان النابغة الذبياني برواية الأصمعي: «ويعتذر إليه مما بلغه عنه»، بمعنى أن «مِن» لا «عن» هي التي تدخل على الكلمة الدالة على العمل الموجب للاعتذار، وأن «إلى» تدخل على مَن يوجّه الاعتذار إليه. كما وجدت في الحديث النبوي: «لا تكون اعتذرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما اعتذر به إليه المتخلّفون» ونحو ذلك، وهذا يسمح بالاستنتاج أن الباء تدخل على الكلمة الدالة على العذر نفسه، وأصرح من ذلك، في هذا الصدد، قول الحديث: «مَن اعتذر إلى أخيه بمعذرة فلم يقبلها، إلخ». وهذا يعني أن الاستعمال الشائع اليوم: اعتذر فلان عن فعل كذا، هو من المستحدثات، لكنه مستحدث يصعب رفضه لكثرة استعماله، ولاسيّما أن العربي يستبدل «عن» بـ«مِن» بكثرة، وكذلك العكس، لكنه، مع ذلك، مستحدث غير موحّد الصيغة، يوقع أحيانًا في التناقض واللبس، ويبعث على تفضيل العودة إلى الأصل، فشروط الاعتذار أن يكون سببه خطأ أو أذى أو ما أشبه ذلك، فيبدو نوعًا من الاستغفار أو طلب الصفح، وليس ضربًا من الرفض أو الاستعفاء أو الاستقالة أو الامتناع، من هنا اضطراب الاستعمال الحديث في هذا الشأن، لأنه يقع على المعاني الأربعة الأخيرة، وليس على المعنيين الأولين، فهم يقولون اليوم: (والنصوص الآتية منقولة بحرفها، بغض النظر عن صحة تركيبها أو خطئه، وعن استعمال «عن» فيها لا «مِن»). أعتذر عن الكتابة لمدة شهر - أعتذر بسبب سفري - أعتذر عن المحاضرة - أعتذر عن عدم التواجد لظروف سفر طارئة - لماذا اعتذر السامر عن أمسية جُدة (اعْتذر لارتباطه الدائم بوالده) - وكان بكنبارو قد اعتذر عن الحضور إلى مصر - وجّه فلان رسالة رقيقة إلى اليوسفي الذي اعتذر عن عدم الحضور - أعتذر عن الخطأ في التكرار - أعتذر لكل الجماهير عمّا بدر مني. والواقع أن الكتابة والمحاضرة والأمسية الشعرية والحضور إلى بلد ما ليست أخطاء تقتضي الاعتذار، بل هي أمور مسوّغة، إلا إذا نجم عنها ضرر ما، والإنسان قد يستعفي.
|