جمال العربية

جمال العربية

تميم بن المعز
حَرَمهُ أبوه الخلافة فكسبتهُ دولة الشعر

لم يشأ أبوه الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، أن يعهد له بولاية العهد من بعده، وهو ولده الأكبر، وآثر عليه أخاه عبدالله، ومن بعده أخاه نزار، الذي تولي الخلافة الفاطمية بمصر، ولُقب بالعزيز بالله.

وقد يكون لأبيه رأي فيه، جعله يؤثر أخويه عليه بأمور، المُلك من بعده، وربما رأي فيه وفي شخصيته ما يؤهله لحياة غير حياة الحاكم المسئول. والقائد الذي عليه أن يمسك بزمام الأمور ويجمع خيوطها في يده، وأنه خُلق للشعر والأدب، واللهو والمتعة، والبحث عن الجمال في كل شيء، فأبعده عما يلائمه، وهيأه لما فيه نجاحه وتحققه.

وبالرغم من أن المعز، ومن بعده ولديه: عبدالله ونزار قد أغدقوا علي تميم من العطايا والهبات، وغمروه بكل ما يملأ حياته ويُزيّنها في عينيه، من مُتع وثراء عريض، فإنه ظل حتي يومه الأخير يُحس بالمرارة في أعماقه، كلما خلا إلي نفسه، أو أفاق علي حاله، وراجع صفحات أيامه، وقارن بين ما آل إليه من فراغ وضياع، بينما ينعم أخواه - أحدهما بعد الآخر - في نعيم الملك وسلطانه وسطوته وبهائه وعظمته. من هنا كانت تتحرك نفسه بكلام قاسٍ وعتاب غاضب وحديث مؤنب يوجهه إلي أخويه، وكانا هما - بدورهما - يتفهمان ما وراء هياجه وثورته وفورانه، ويغمرانه بالمزيد، حتي ينشغل عنهما بالنساء والخمر ومفاتن الطبيعة ونعيم العيش، لكنه سرعان ما يعود سيرته الأولى زاجرًا ناقمًا حاقدًا. وكان لابد لعلاقته بأخيه العزيز بالله أن تسوء، وأن ينقطع ما بينهما من حبل الأخوّة بعد أن جاوز الحدّ في قسوته عليه، وهو الخليفة الذي لا يرى نفسه إلا في أبهة الملك وسلطانه، فكان لابد من نفي تميم وخروجه من القاهرة، وإبعاده إلي الرملة، حتي وافته منيته قبل وفاة أخيه الخليفة سنة ثلاثمائة وخمس وسبعين هجرية، ولما يبلغ الأربعين.

لكن هذا الأمير الشاعر الذي حُرم الخلافة، قُدّر له أن يكون واحدًا من شعراء تراثنا العربي الكبار في القرن الرابع الهجري، وأن تمنحه حياته الممتلئة بالألم والمعاناة والإحساس الفادح بالغبْن والظلم، وجودًا شعريًا من طراز حافل، تتوهج فيه اللحظات بالشعر البديع، وينسكب عليه من فداحة الحرمان ما يعوّضه بدولة الشعر عن جلال المُلْك. وهكذا اتسع ديوان تميم لألوان شتى من الإبداع، فيها مناجياته الذاتية العميقة، ودورانه في مجالس اللهو بالشراب والنساء، ووقوفه أمام الطبيعة الغنية بالجمال في صوره المتعددة، وفيها مدائحه لأبيه وإخوته الذين تولوا العهد والخلافة من بعده، والبكاء علي مَن رحل منهم، والفخر بمكارم بيت الفاطميين، وإبداع البكائيات والمراثي في آل البيت، الذين نكبوا واضطهدوا وعانوا علي مدي عصور التاريخ، قبل عصر الشاعر نفسه.

فإذا حاولنا الالتفات إلي الصنعة الشعرية عند تميم بن المعز، وجدناه أقرب إلي شعر الطبع، خاليًا من التكلّف، أكثر امتلاء بالصدق الغني، والتعبير عن وجهيْ الحياة، التي عاشها نعيمًا وشقاء طيلة أعوامه الأربعين، ثم هو أيضًا شاعر يتكئ علي موروث الشعر العربي - عند أعلامه الكبار - يشارفهم ويقترب من حدود التناص معهم في بعض إبداعاتهم، ويحمل إلينا شعره أقباسًا من عطر الشعراء الكبار، وبخاصة شعراء الأندلس والمغرب من أمثال ابن دراج وابن حمديس وابن خفاجة وابن هانئ وابن زيدون وغيرهم. وفي ثنايا هذا كله روح شاعر كبير النفس طموح الهمة، فخور - كلّ الفخر - بصفاته وشخصيته ومزاياه، وكأنه - بطريق غير مباشر - يضع نفسه في موضع المقارنة بينه وبين إخوته في مجال المفاضلة والصلاحية لشئون الحكم والخلافة. يقول تميم:

أنا فرْدُ النهي وربُّ المعالي وحسامُ الكفاحِ يوم الكفاحِ
أنا مفتاحُ قُفْلِ كلِّ نوالٍ يوم يغدو النّدي بلا مفتاحِ
أنا كالجِدِّ في الأمور إذا ما كان غيري فيهنّ مثلَ المزاحِ
لا كراضٍ من العلا بادعاءٍ وبعرضٍ مُجرّحٍ مُستباحِ
فَسلِ المجد عن صباحي وليلي ومقيلي وغُدْوتي ورواحي
هل سِرُّ العلا مقالي وفعلي وارتياحي لكسْبها واقتراحي
هاكها كالصهيل في حلبة الفخْرِ إذا كان غيرُها كالنباحِ


ومن أشعاره الغاضبة المعاتبة ما توجّه به إلي أخيه الخليفة العزيز بالله، مذكّرًا إياه بما يستحقه من منزلة رفيعة، ومعرّضًا بالظلم الذي تعرّض له بإقصائه بعيدًا عن الخلافة، وكيف أن العلا نوّهت باسْمه في الخافقين وطار ذكره إلي كل موضع.

يقول تميم:

أأُظهر أمْ أُخفي الذي بي من السُّقْمِ وكم أدفع الأيام بالصبر والحلمِ
أعلّلُ نفسي بالأماني تجلُّدًا وأوهمها أنّ النزاهةَ في العُدْمِ
صبرتُ علي الأحداث حتي أَذْينني وحتي انتهت سكّينهن إلي العظْمِ
ولم يلْق مخلوقٌ من الدهر مثْلَ مَا لقيتُ من الأرزاءِ والجوْرِ في الحُكْمِ
فما عنّفتْ غيري الخطوبُ بِجوْرها ولا ظلمت أحداثُها أحدًا ظلمي
أرُوني مريض القلب مثلي والمني عليل الغنى والحال والحظِّ والجسْمِ
وما خذلتْني همّتي فألومها وما ضاق بي مذ كنتُ في محفلٍ علمي
وأنفذُ من رُمح الشجاع سياستي وأبصرُ من عيْن البصير ضِيا فهْمي
فَلِمْ أختفي تحت التراب مُضيّعًا وقد نوّهت في الخافقيْنِ العُلاَ باسْمي
وماليَ أخطو في الحضيض تخلّفًا وقد عُقدت كفّي علي كاهل النجمِ
أيا ابن مُعزّ الدين، والفضل كٌلُّه إليك انتهي دون الأعارب والعُجْمِ
أناديك أم أشكو إليك ظُلامَتي أم أشْكوكَ أم أَكْني عن الأمر أمْ أُسْمي
أتغدو ظنوني في معاليك نُزّعًا وتصبحُ آمالي مُبدّدة النظْمِ؟
وأَشربُ - إذ أَصبحْتُ ضيْفَك - من دمي وآكلُ - إذ أخلصْتُ وُدّكَ - من لحمي
وأُبْخَسُ حظًا أنت كُنْتَ ابتدأتهُ وأنت أحقُّ الناس بالعدل في القسْمِ
إذا كنت أنت الحاكمَ المُرْتَضى به فما بالك تغدو دون حكمك لي خَصْمي
أَجِزني علي مقدار ما أنا مُحسنٌ ولا تُعْطني ما ليس يبلغهُ سهْمي
فإني علي إنكار مجدكَ أتقي وعنْك - إذا رامت عُلاكَ العِدا - أرمي
وما كان حقّي منك ذا غيْرَ أنّني رجوتُ وراء الحرب عاقبة السِّلْمِ
فكم من مُحبّ راح باللحظ قانعًا إذا راح ممنوعًا من الضّم واللثم
فإن كنتُ محبوبًا فكن خير واصلٍ لحبْل، فإني فيك مجتمعُ الهمّ


وفي ديوان تميم بن المعز شكاوى كثيرة من الزمان وفِعله به، وهي شكاوي يُصرح الشاعر بأنها أدخل في باب الهجاء والذمّ أكثر من كونها شكوي. فمن عرف الأيام معرفته بها، ومن جرّبها تجربته لها يدرك أنها ليست تدوم علي حال أو سياق أو معنى، من هنا كانت هذه الأبيات في ذمّ الزمان:

أقولُ لسرْب من حمامٍ عرضْنَ لي يُغرّدون في أعلي الغصون ويندبْنا
ويسكُنّ في خضراءَ ناعمة الربا أنيقة روض النبت آنسة المغنى
بوارحَ لا يخشين بيتًا ولا نوي رواتع لا يعرفن همّا ولا حُزْنا
قفلتُ هنيئًا للحمام أمانهُ وإن كانت الأيام لم تُعطني أمْنا
أسرْبَ الحمام لو لقيتن بعض ما ألاقي لأصبحتن أول من يضنى
ولو قد علمتنّ الذي أنا عالمٌ لما ناح منكم هاتفٌ، لا ولا غنّى
ومن جرّب الأيام تجربتي لها دري أنها ليست تدوم علي معنى
فحسبك يا دهر اصطليْتَ بنار مَنْ لو أنّك سُمّ في تراقيه ما أنّا
وأكثرُ ما أهجوك يا زمني به من الفعل أني لم أحسنْ بك الظنّا
ذمناك ياصدف الحوادث فانتصر وسؤناك يا ريب الزمان فخُذْ منّا
فإنا أناسٌ لا نذلُّ لنكبة وأخلاقُنا لا تعرفُ الخوْفَ والجُبْنا


وحين يكون المجال أوالمقام تقديم صورة شعرية أو لوحة قلمية، فإن خيال تميم بن المعز وقدرته علي التصوير تبهر قارئه بموجات متلاحقة من الصور البديعة، والتشبيهات والاستعارات الممتلئة بالنبض والحياة، حتي لتكاد تنطق في سطوره بما حملته من جمال ألوان وروعة عطور وتدفق موسيقي وإيقاع، ومُتعة حسٍّ وبصر ومخيلة. يقول تميم في لوحة شعرية عن قصره المسمّي بـ «المعشوق»:

يأيها المعشوق، لا فارقتْ رُباك أنوارٌ وإشراقُ
فكل معشوق له عاشق والناس طرّا لك عشاقُ
كأنما الحسن بلألائه علي ثرى أرضك مهراقُ
وكلّ عين بك مفتونةٌ وكلُّ قلبٍ لك مشتاقُ
إذا رنا نرجسُكَ المُشتهى بأعينٍ فيهنَّ إطراقُ
كأنما فاجأها كاشحٌ بكلّ ما تكرهُ سبّاقُ
فابيضّ منها لمناجاتهِ محاجرٌ، واصفرّ أحداقُ
وابتسم النِسْرينُ من حولها فهو صقيلُ الثغر برّاقُ
واستيأس الآسُ من الملتقي فهو من الرّعدةِ خفّاقُ
مختلفُ الأغصانِ في مَيْسهِ إذا انثنى ساقٌ علا ساقُ
يحفّه بالحُسْنِ نيلوفرٌ في الماء لا يُرديه إغراقُ
كأنما زُرّت علي روسه من دَخنِ الكبريت أطواقُ
تخدمهُ في السّقي ناعورةٌ مَرْهاءُ لا يرقا لها ماقُ
وناعم الخضرة قد ألبستْ منه حداق العين أوراقُ
كأنما جمّشه عاشق أو ناله للدهر إرهاقُ
وأخجلَ الوردَ بكاءُ الندى فاحمرّ والحمرةُ تُشتاقُ
كُلُّك يا معشوقُ مما غدا إليه كلَّ اللحظِ تواقُ
كأنما زوّق ما فيك من بدائع الأنوار زوّاقُ
ساويْتَ بين الزهر في نبتهِ كأنما لحظُكَ ورّاقَُ!


ونختتم هذه السطور - مع الأمير الشاعر الذي حُرم الخلافة فكسبْته دولة الشعر، وحفظ ديوان الشعر العربي له مكانه ومكانته - بمقطوعة رقيقة في الغزل يقول فيها:

دعوْتهُ لوصالي فانثنى خجِلاً واعتلّ علّة من لا يعرفُ العللا
خاف الرقيب فقالت عينه نَعَما ثم التوى لفظهُ عن مقلتيه «بلا»
يا حبذا عيْنُه بالوعد مُسعفةٌ وحبذا لفظهُ بالمنع مُبتهلا
أشكو إليه فترثى لي لواحظهُ حتي بدا الدمعُ من عينيه مُنهملا
كذا القلوبُ إذا رقّت فآيتُها أن تُضعفَ اللفْظَ أو أن تُحدثَ الخجلا
فديْتُ مَنْ لم يزَلْ إن لاح شمْسَ ضُحى وصيْر الغُصْنَ قدًّا والنّقا كفَلا
رمى الرقيبَ بعينيْه، فأسكرهُ عنّا ولم نخْش تنغيصًا ولا وَجَلا


 

فاروق شوشة