الإبداع والمخاطرة مصري عبدالحميد حنورة

بات سلوك المخاطرة من الموضوعات التي تحتاج إلى جهد مكثف في مجال الدراسات النفسية الحديثة وهدفنا هو الاقتراب من المشكلة كما تكشف عن نفسها في اهتمامات المتخصصين في دراسات السلوك الإنساني، فهذا هو التخصص الذي يسعف اهتمامنا، كما أنه المجال الذي يقدم إجابات حديثة عن تساؤلات من يشغل بالهم هذا الموضوع المتعلق باتخاذ القرار. وأصبح موضوع اتخاذ القرار من الموضوعات السيكولوجية التي تجذب اهتمام الباحثين، خاصة أن حياتنا من أولها إلى آخرها سلسلة من القرارات التي علينا أن نتخذها كل لحظة من لحظات هذه الحياة.

الطفل منذ اليوم الأول لميلاده، يبدأ بممارسة حريته. صحيح أنها حرية قاصرة، وأن إمكاناته محدودة بما زود به حتى هذا التاريخ الباكر من حياته، إلا أن هذا الطفل يجد نفسه مدفوعا لأن يجرب الإمكانات القاصرة وكلما زادت قدرته على الحركة، بحكم النمو والدربة اللذين يكتسبهما، والتشجيع الذي يلقاه، زادت هذه القدرة، وكانت المساحة المتاحة له لممارسة الحرية أكبر، حتى أنه لمن الممكن القول إن حرية اتخاذ القرار مرتبطة إلى حد كبير بمدى ما هو متوافر لدى صانع هذا القرار من قدرة، أو ما يعتقد في أنه القدرة التي يمتلكها أو القدرة التي يعرف الآخرون أنه مزود بها. واهتمامنا باتخاذ القرار يرجع أساسا إلى اهتمامنا بدراسة عملية الإبداع الفني ومحاولة الاقتراب من المبدعين وهم يعملون. واتخاذ القرار هو أحد الأبعاد التي علينا أن نعالجها لدى هؤلاء المبدعين، خاصة أن المبدع وهو يعمل في مادته الإبداعية - شعرا أو نثرا أو تشكيلا أو تمثيلا - ليس منوما عليه أن ينفذ ما يملى عليه، وهو أيضا ليس ملهما، عليه أن يثبت فقط ما يلهمه، كذلك فهو ليس مقلدا وإلا جاء عمله خاليا من الجدة والطرافة والإبداع. ومن ناحية أخرى فإن المعاناة، التي اتضح لنا أن المبدع يعيشها في كل لحظة من لحظات التنفيذ الفعلي لعمله الإبداعي جعلتنا على يقين من أن هذا المبدع من أكثر الناس ممارسة لحريته، والمبدع، قد يصل سريعا إلى الحكم على ما يختاره بها يجعله قادرا، وبسرعة، على اتخاذ قراره بما ينفي وبما يضيف إلى عمله الإبداعي، وربما تجده يقف بالساعات أو بالأيام مقهورا، أمام اختيار من الاختيارات حتى ليكون عليه لكي يأخذ قرارا في مثل هذا الموقف، أن يضحي بالكثير. وهذه التضحية قد تكون وقتا أو جهدا أو علاقات إنسانية أو فرصا اجتماعية تضيع، أو قد تكون تضحية بأفكار لا تلائم المقام أو بأجزاء من مادة عمله الإبداعي سبق أن أثبتها في الجزء السابق من السياق، ولكنه بحسه الإبداعي، وباستبصاره بجماليات الموضوع يجد أنه من الأفضل للعمل أن يضحي ببعض تلك الأجزاء، والتضحية صعبة، إنها وأد لبنات أفكاره التي سهر الليالي في جمعها وبذل الجهد في تشذيبها وأنفق الوقت في صياغتها، ولكن ما العمل، وهو لا يملك إلا أن يخضع لمقتضيات الفن واحتياجات السياق.

حرية المبدع.. زوايا للنظر

هل الخضوع هنا انسياق؟ أم هو طاعة وانصياع؟ وإذا كان الأمر خضوعا وانصياعا فأين إذن هي الحرية التي على المباع أن يمارسها من أجل تحرير نفسه من قبضة الواقع وانتزاع ذاته من سياق المجاراة؟ أليس المبدع هو جندي الاستطلاع في كتيبة المصلحين والدعاة؟ أليس هو المبشر بقيم المستقبل - والداعي إلى تحطيم الفساد والثورة على كل ما يعترض حرية الإنسان؟ أليس الفن تحريرا لخيال المبدع وخيال المتلقي أيضا من الخضوع للمألوف ومن الانصياع للقيم الهزيلة؟ أليس دعوة إلى الفعل ودعوة إلى ممارسة حرية الإرادة، ودعوة إلى أن نملك قرارنا؟ وأول قرار علينا أن نأخذه هو أن نقبل أو أن نرفض ما يعرضه علينا العمل نفسه من رديء أفكار؟

كيف إذن يكون الأمر ونحن نرى صاحبنا المبدع لكي يمارس حريته ويتخذ قراره، عليه أن يخضع لضرورات الفن ومقتضيات السياق؟

إنها معضلة من معضلات اتخاذ القرار، وممارسة الحرية، ولهذا السبب كان علينا أن نتوقف عند فكرة الحرية، علينا أن نحدد إجرائيا ماذا نقصد في السياق الحالي بمصطلح الحرية: يشير قاموس المصطلحات في العلوم السلوكية إلى أن الإرادة الحرة يشار بها لدى بعض المنظرين إلى أن سبب السلوك يرتد أساسا إلى الإرادة وإلى القرارات المستقلة الخاصة بالشخص نفسه وليس إلى أي محددات خارجية.. ويمكننا، ويمكن لغيرنا أيضا، الاختلاف مع هذا التعريف، ولكن إذا كان لنا أن نصل إلى كلمة سواء فربما كان من المناسب أن ننظر إلى الأمر من عدة زوايا:

1 - الشخص الذي يمارس حريته.

2 - العوامل الخارجية المؤثرة في اتخاذ القرار.

3 - الموضوع الذي يمارس من خلاله اتخاذ القرار.

الحرية السيكولوجية

نشير بداية إلى مفهوم الأساس النفسي الفعال والذي يتحقق عند الإنسان إذا ما نشطت لديه - وفي الاتجاه الإيجابي - أبعاد سلوكه المختلفة (معرفية ووجدانية وجمالية واتصالية، أي علاقته بالتراث الثقافي للجماعة والمجتمع الذي يوجد فيه) وهذا النمو والنشاط يتحققان من خلال رحلة ارتقاء تبدأ منذ الميلاد، وتمر بالتنشئة الاجتماعية والتشرب الثقافي لعادات وأفكار الأقران والأسلاف، وتتفاعل مع كل ما هو موجود، بما يفرز في النهاية حالة فريدة فن الوعي النفسي لدى الفرد يعرف بها ويتحرك من خلالها أو بواسطتها في اتجاه التميز في نوع معين من النشاط، إبداعيا كان أو غير إبداعي، ثم يعرف أكثر بها عند إنجازه لعمل من الأعمال.

وفي القمة تتحقق بؤرة الأساس النفسي الفعال حين تلتقي بفاعلية، إفرازات ما، بعد هذه الرحلة المضنية من النمو والمواجهات والانتصارات وبعد التغلب على عوامل التعويق والإحباط. وحينما يكون الفرد أمام اضطرار من نوع ذاتي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم الحرية السيكولوجية، فهو حينئذ عبدلعاداته، أسير لخصائصه، محكوم بمدى ذكائه وقدراته الإبداعية، غير منفك عن تفضيلاته الجمالية، وهذا مما يشير إليه توفيق الحكيم في كتابه "فن الأدب" عند حديثه عن المبدع وكيف أن الآخرين بل هو شخصيا أصبحوا يضيقون بهذا التكرار الممل الذي لا يستطيع أن يتحرر من قبضته، ذلك التكرار المتمثل في تبنيه لقوالب وأطر جمالية وفنية أصبح أسيرا لها غير حر في التخلي عنها (توفيق الحكيم، 1952) نعم، هنا اضطرار، ولكن هل فكر هؤلاء - الذين يتحدثون عن الجبرية السيكولوجية - فيما تحققه هذه الجبرية للإنسان الذي يعمل، ما تحققه من تحرير الإنسان من عوائق عدم الدربة والعجز أمام الأشياء والمواقف الجديدة، وكيف أنه بحكم ما لديه من خبرة ومهارة يتمكن من تجاوز ما يعجز سواه عن تجاوزه، وإنه قادر، وببساطة، بل وربما بحكم العادة، على أن يعبر فوق العقبات ويتجاوز الصعوبات، وينجز في وقت محدود ما لا يستطيعه غيره في أضعاف هذا الوقت المحدود.

العوامل الخارجية

ليست هناك حاجة ماسة إلى الإشارة إلى أن كثيرا من القيود والعوائق التي تحد من حرية الفرد ترجع أولا وأخيرا إلى ما يحيط به من ظروف خارجية قد لا يكون له عليها سلطان وإذا كانت له عليها سلطة فإن هذه السلطة شيء وممارستها شيء آخر، أكثر من ذلك إنه على الرغم من أن كثيرا من القرارات يمكن للمرء أن يتخذها بسهولة، إلا أنه عند تنفيذها قد يفاجأ بأن عليه التوقف عند نقطة معينة عليه ألا يتخطاها، وإلا فإن حجم الخسائر أو النتائج السلبية التي سوف يتعرض لها سيكون أكبر مما سوف يحققه من أهداف.. ينطبق هذا الأمر على أخطر القرارات التي يتصدى لها المرء، كما ينطبق أيضا على أبسط القرارات.

والعوامل الخارجية التي يمكن أن تؤثر على قرارات الإنسان متعددة، منها القانون والمعايير والأعراف السائدة في الجماعة. ومنها الخوف من تهديدات الآخرين، التي لا يحكمها عرف أو قانون، ولكن لمجرد الخشية من ممارسة فعل قد لا يرضى عنه أفراد آخرون نقيم لرأيهم وزنا. كذلك هناك ما يحرص عليه الإنسان من وضع حالي أو وضع يأمل في الوصول إليه مستقبلا، وهو ما يجعله يقدر لرجله قبل الخطو موضعها، أي أن يحقق ويدقق في النتائج التي يمكن أن يسفر عنها اتخاذه قرارا من القرارات. ثم هناك أيضا من هذه العوامل الخارجية، التي تحد من طاقة الفرد في ممارسة حرية إرادته، الظروف الطبيعية، وهذه الظروف قد تكون من أهون ما يمكن أن يعوق حركة الفرد إذ إنه بقدر من الحيطة يمكن تجاوزها والتغلب عليها.

ولكن هناك محورا آخر ينتظم عددا من المتغيرات يمكن أن نطلق عليه عنوانا شاملا هو مجموعة المتغيرات الاقتصادية وما يتعلق بها من متغيرات أخرى ثقافية واجتماعية.. إلخ، فالإمكانات المالية للفرد تحدد إلى مدى بعيد قدرته، على السيطرة على كثير من العوامل التي تيسر له، أو تعوق قدرته على إنفاذ مشيئته، بل إنه من الممكن القول بأن هذه والعوامل يمكنها (إذا لم يتوافر له الحد الأدنى منها) أن تلعب الدور الرئيسي في كف قدرته، وإحباط إرادته، وتعويق حركته وتصنيفه في فئة المعوقين والعاجزين، بل ويمكن القول كذلك إن هذه العوامل تصبغ كل أبعاد سلوك الفرد، حتى بما فيها الأبعاد الشخصية والمعرفية والجمالية.

موضوع الفعل

أشرنا من قبل إلى أن اتخاذ القرار يعتمد على متغيرات شخصية وأخرى خارجية. ولكن إلام يهدف صاحب القرار بقراره؟.. إن صانع القرار أو متخذه يهدف بقراره إلى إحداث تأثير معين في اتجاه محدد، وقد يكون قرارا سلبيا لا يهدف إلى إحداث تأثير خارجي بل مجرد الاكتفاء مثلا بالامتناع عن فعل معين.. وسوف لا ننشغل كثيرا بموضوع القرارات السلبية وسوف نركز في معالجتنا الحالية على القرار الإيجابي أي الذي يترتب عليه إثبات فعل معين أو الدعوة إلى فعل معين.

لقد رأينا في عدد كبير من الدراسات أن الفرد الذي يكون عليه أن يمارس عملا، أي عمل، خاصة إذا ما كان هذا العمل من النوع الذي يحتاج منه إلى مبادآت مستمرة، أي اتخاذ الخطوة الأولى أنه يكون محتاجا دائما إلى من يحفزه للعمل ويربط نفسه بسياق معين يجيء نشاطه كحلقة من حلقات هذا السياق أو أنه يتبع نظاما معينا له مراحل معينة وفق توقيتات معينة يلتزم بها التزاما حازما. ومن ناحية أخرى لاحظنا وجود أناس لا يلتزمون بنظام ولا بسياق ولكنهم يتركون أنفسهم للظروف يعملون ويتصرفون وفقا لما تأتي به حادثات الأيام.

والخلاصة أن تنظيم النشاط الإنساني وفق إرادة الشخص لا يمضي على وتيرة واحدة عند جميع الناس، بل ربما أمكن تصوير الأمر في صورة متصل له طرفان، يقف قلة من الناس عند أحدهما (منتهى التحكم الإرادي في الفعل) وتقف قلة أخرى عند الطرف الآخر (منتهى الانسياق دون إرادة أو وعي) وما أفعالهم إلا مجرد ردود أفعال يصدرونها استجابة للواقع الخارجي. وما بين الطرفين وعلى امتداد المتصل يوجد الآخرون حيث تتمركز الغالبية العظمى في منتصف المتصل حيث يكون هناك بعض التحكم في القرارات وفي ممارسة الأفعال، وفقا لإرادة الشخص ولكن هؤلاء الأفراد أيضا كثيرا ما ينساقون وراء ما تأتي به الأحداث.

إن الفعل نفسه، في شكله ومادته ومضمونه، يلعب دورا في صياغة النشاط المتصل بالقرار أيضا. ولنأخذ على سبيل المثال القيام برسم لوحة فنية ولنأخذ لوحة الجيرنيكا لبيكاسو على سبيل المثال، إن كل إضافة (أو إزالة) كان يمارسها الفنان على اللوحة كانت تستلزم إجراء إصلاحات أخرى في بعض العناصر.. بل إن النقطة الجديدة كانت توحي إلى الفنان بسلسلة من القرارات والأفعال. وكان بيكاسو يجد أحيانا أنه أضاف عنصرا دونما قرار مسبق أو يجد أنه قد أبرز عنصرا معينا بعد إضافة أو إزالة عنصر آخر. هنا فإن العمل يتبدى له من زاوية جديدة.

اتخاذ القرار الإبداعي.. مخاطرة

وإذا ما كنا نشير إلى ظروف أو خصائص أو مقتضيات أو سياقات لأفعال تمارس تأثيرها في الحد من حرية الإنسان إلا أنه بقدر من الجهد والرغبة والاندفاع بحركة الآخرين يمكنه أن يسيطر على كل هذه المتغيرات، ويوظفها لخدمة القرار الذي يرغب في اتخاذه، ويتوصل بها، ومن خلالها، إلى تحقيق الفعل الذي يرغب فيه، وهو في كل لحظة.. يخاطر، بمعنى، أنه يرفض شيئا ويقبل سواه، بما يترتب على ذلك من مسئولية بسبب المخاطرة باتخاذ القرار دون سواه.

مرة أخرى نلاحظ أننا أمام متصل من نوع آخر له طرفان: طرف الواقع الذي يحد من حرية الإنسان وطرف الإرادة الحرة التي تسيطر تماما على هذا الواقع، وما بين هذين الطرفين يقع معظم سلوك الفرد، ذلك السلوك الذي يضع في اعتباره الواقع بكل سطوته وطغيانه وتحكمه في القرار الفردي وفي الإرادة الحرة، بما لا يدع للإنسان الفرد أي حرية في المضي في أي اتجاه يرغب فيه، وهو ما يجعله راغبا في ممارسة حوار مع هذا الواقع يكون الهدف منه معرفته واستكشاف خوافيه واستثمار ما يمكن استثماره منه حتى لا يكون عائقا يعوق الفرد عن الحركة، ويحد من حريته في التفكير، كذلك فإن هذا الفرد الذي يستبصر بحدود صلابة الواقع لا بد أن يكون واعيا بحدود ما زود به من إمكانات حتى لا يندفع وراء جموح دوافعه فيصطدم بصخر الواقع المتحجر فيفقد نفسه ويتخاصم مع الواقع الذي لا يمكن له إلا أن يتعامل معه بدون انقطاع.