تقول لي رضوى

  تقول لي رضوى

.. ابنتي رضوى عاشقة للعمل التطوعي ، تجدها دائمًا وسط الأزمات المستعصية ، وبين الناس المهمشين في مناطقهم العشوائية، وخلف كل مشروع طوباوي تعجز الإمكانات عن تحقيقه، وقد قادها هذا العشق ـ الذي لابراء منه ـ للعمل في منظمة دولية تهتم بحماية الطفولة، وأول اهتمامات هذه المنظمة هو التأكيد على أن ينال الأطفال الصغار حقهم الطبيعي من التعليم، فالطفولة تنتهي حين ينقطع الطفل عن المدرسة، وهناك توجه عالمي يؤكد ضرورة أن ينهي الأطفال دراستهم الابتدائية على الأقل داخل أسوار المدرسة مهما كانت الاسباب، وأن علينا أن نحوّلها من مدرسة طاردة إلى مدرسة مرحبة. لهذا بدأت رضوى رحلتها الغريبة بين المدارس القريبة والنائية، لعلها تستطيع أن تحقق هذا الهدف. تقول: إنها تبدو وكأنها تسير وسط كابوس لا نهاية له، فالمدارس التي يفترض أن ترحب بهؤلاء الطلاب هي أبنية قديمة ومتداعية لم يتم تجديدها منذ عشرات السنين، النوافذ بلا زجاج يقي الأطفال لسعات البرد ولفحات الحر، أو يحميهم من الطوب الذي يمكن أن يقذف عليهم من الخارج ، ولا توجد دورات صالحة للمياه ، فالأطفال يقضون حاجاتهم في أي مكان وبأي وسيلة. أما العلاقات التي تربط بين البشر في هذا المكان، فقد كانت مشكلة حقيقية، تقول رضوى إنها رأت المدرسين وهم يضربون التلاميذ بعنف وقسوة، كأنهم ينفسون بتلك العدوانية عن كل مشاعر الإحباط الموجودة في داخلهم، و ينتقمون من المجتمع الذي لم يعطهم حقهم، وذلك من خلال تلك الحلقة الأضعف، ثم رأت التلاميذ الكبار وهو يضربون الصغار بنفس القسوة، التي تعلموها من مدرسيهم دون أن يكون هناك من يردع الكبار أو يحمي الصغار، ولكن الذي حزّ في نفسها حقًا، هو ما رأته داخل الفصول أثناء تلقي الدروس، لقد وجدت كل اثنين من التلاميذ يجلسان، بينما يقف تلميذ ثالث مستندًا إلى الجدار، وعندما سألت أحدهم: لماذا يقف هكذا؟ قال: إنه ينتظر دوره للجلوس في الحصة القادمة، هكذا أجابها طائعًا ومنكسرًا. تصوروا معي كيف يمكن أن يكبر هذا الطفل وقد بدأ حياته بكل هذا الخنوع وقلة الحيلة، كيف يمكن أن نتوقع أن ينشأ منه مواطن شاعر بالعزة والكرامة، عارف بحقوقه وواجباته، بينما بدأ حياته وقد أهدر أول حق من حقوق طفولته وهو حق التعلم بأسلوب لائق وكريم؟ كيف نتحدث عن تعليم الديمقراطية، وقد مارسنا عليهم سلطان القمع والإذلال منذ السنوات الأولى؟ تقول لي رضوى: الأخطر من ذلك أن إحدى التلميذات قد أغمي عليها داخل المدرسة، واكتشف الجميع أن السبب في ذلك هو ضعفها وهزالها وشدة جوعها ، فقد كانت التلميذة من أسرة لا يتناول أفرادها الطعام إلا بنظام المناوبة، يأكل نصف أفرادها يومًا، ويقضون اليوم التالي بلا طعام حتى يأكل النصف الثاني، وهذا اليوم لم يكن يوم الطفلة في تناول الطعام. تحاول رضوى أن تواصل الحديث، فأقول لها مختنقًا: كفى يارضوى.. كفي يا ابنتي أرجوك.

 

محمد المنسي قنديل