كوارث الصناعة في الزراعة

كوارث الصناعة في الزراعة

البشر يتكاثرون، ويزدادون شراهة خاصة فى الدول الصناعية، ولتلبية الشراهة تحولت الزراعة إلى صناعة تستحق بعض التوقف.

أصبح العالم الذي نعيش فيه يعتمد أكثر فأكثر على سلوك الإنسان ومقدرته على الحفاظ على سلامة البيئة، وأصعب ما يواجهه في هذا المجال سعيه الدائب للحصول على غذائه من وحدة المساحة مستخدما مختلف التقنيات الحديثة التي تبين أن لها آثارا ضارة على البيئة.

طبقا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية (FAO) يعاني أكثر من 800 مليون إنسان في العالم من الجوع ونقص التغذية، وقد ازداد الاحتياج الغذائي العالمي بنسبة 31% في الفترة من 1965 إلى خمس مرات حتى عام 2000- 2010، فمشكلة الغذاء في العالم ما زالت غير محلولة وهي إحدى المسائل التي تبقى مثارا للجدل فمن جهة تستمر الزيادة السكانية في العالم، بينما من جهة أخرى لا تزداد المساحة المزروعة في الكثير من البلدان، بل إنها تتقلص تحت الضغط المتزايد لنمو المدن و اتساع شبكة الطرق وخطوط الغاز والبترول والكهرباء والخزانات المائية الاصطناعية والمقالع وأماكن الاستجمام... إلخ، هذا النقص في المساحة الصالحة للزراعة ما كان ليحدث لولا أن الأراضي ذات الطبيعة والمناخ الملائمين قد استثمرت فعلا في الماضي، كل ما نستطيع أن نفعله في هذه الحالة هو أن نكثف الزراعة ونعمل على زيادة الغلة.

هناك عدة طرق لزيادة الغلة، أي زيادة الإنتاج الزراعي من وحدة المساحة، أحدها وأكثرها استخداما هى التسميد، لقد جرى في المائة سنة الأخيرة تفضيل السماد الكيميائي على السماد الطبيعي لأنه أكثر تركيزا وأسفل توزيعا، فازداد الإنتاج العالمي للسماد الكيميائي على مدى السنين لمواجهة الطلب المتزايد عليه، ففي عام 1929 كان الإنتاج العالمي للسماد هو حوالي 3،5 مليون طن، وفي عام 1980 وصل إلى 11،7 مليون طن، وبفضل هذه الزيادة أمكن رفع إنتاجية الحبوب بأكثر من 25% خلال السنوات الثلاثين الماضية، ويقدر المعهد الدولي لتحليل النظم ( IISA ) أنه في عام 2000 ستحتاج الزراعة العالمية إلى حوالي مليون طن من السماد يينما تقدرها منظمة اليونيدو الدولية (UNIDOA) بحوالي307 ملايين طن.

قفزات

هكذا نجد أنفسنا نتابع القفز فوق سلم صاعد، كأننا في ميدان سباق عالمي ، لكن علينا أن نعرف أن زيادة إنتاج السماد لا تترافق مع زيادة في الإنتاج بنفس النسبة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا ازداد معدل إنتاج السماد الأزوتي 16 مرة بين عامي 1945 و 1970 ولكن إنتاج الذرة الصفراء أو الشامية، لم يزد إلا بمعدل 4 ، 2 مرة، وهذا فارق لا يمكن تجاهله، ذلك أن هناك جانبا آخر للموضوع يعاني العالم كله منه، فالأسمدة أو الكيماويات الزراعية عموما- سامة بدرجات مختلفة، وأول من لاحظ ذلك هو المزارع الأمريكي في نهاية القرن الماضي، لقد تبين له أن الاستعمال المستمر للأسمدة البوتاسية يدمر البطاطا والمحاصيل الأخرى نظرا إلى أن بعض هذه الأسمدة يحتوي على البورون بكميات مؤذية للنباتات بالإضافة لضررها للإنسان والبيئة، فالعناصر الموجودة في الأسمدة تنسل من الحقول إلى البحيرات والأنهار مسببة زيادة في نمو العوالق المائية على السطح ونقصا في الأوكسجين فى الأسفل مع زيادة مستويات سلفيد الهيدروجين والأمونيا وبعض العناصر السامة، وهذا يقتل الأسماك ويجعلى الماء غير صالح الاستعمال الإنساني حتى للاستحمام، فالمواد الخام التي تصنع منها الأسمدة تحتوي على شوائب كثيرة منها ما هو ضار للبيئة، فإذا أخذنا مثلا المواد الخام التي تصنع منها الأسمدة الفوسفورية نجدها تحتوي على كميات من المعادن الثقيلة مثل الكادميوم والنحاس والتوتياء والرصاص بالإضافة للفلور، وهذه المعادن لها تأثيرات على العمليات الحيوبة داخل النبات ويؤثر محتواها العالي على حيويته ونموه، فمثلا إذا زاد محتوى التربة من الكوبلت على 30 ملغ في الكغ، أو الكادميوم عن 150 ملغ في الكغ، فإن غلة محاصير الحبوب تتدنى بدرجة كبيرة، علما أن نسبة الكادميوم في السماد الفوسفاتي المنتج في أستراليا هي في المتوسط 40 غراما في الطن، وفي السماد المنتج في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 13 غراما في الطن وفي السماد الفوسفاتي الجزائري حوالي 25 غراما في الطن.

ونظرا إلى أن النبات يحتاج إلى الأزوت بكميات كبيرة تقدر بعدة مرات أكثر من حاجته إلى الفوسفور فقد تصاعد إنتاج الأسمدة الأزوتية في العالم بمعدلات كبيرة ولكن الزيادة فى غلة المحاصيل كانت أقل بكثير من الزيادة في التسميد، ففي الفترة من 1980 إلى 1986 ارتقعت معدلات التسميد الأزوتي للهكتار كما يلي: في الولايات المتحدة الأمريكية 19 مرة، وفي اليابان 1/ 20 مرة، وفي الهند 12،8 مرة، إلا أن الزيادة في غلة الحبوب لم تزد على 65، . و 8،88 و 55، . طن من الهـكتار على الترتيب، واذا ما عدنا إلى إحصاءات الاتحاد السوفييتى السابق وجدنا أن كميات الأسمدة الأزوتية المضافة لمحاصيل الحبوب في الفترة من 1966 إلى 1985 كانت بمعدل 22 ثم 38 ثم 51 ثم 63 كغ للهـكتار، لكن الغلة كانت بحدود 1،37 ثم 1،47 ثم 1،60 ثم 1،49 طن للهكتار فقط، أى أن الغلة لم تزدد إلا نسبة ضئيلة على الرغم من مضاعفة الاسمدة الأوزتية حتى ثلاثة أضعاف تقريبا، ذلك أن الغلة هي محصلة عدة عوامل مثل المناخ والتربة بالإضافة لمعدلات التسميد واضافة السماد الكيميائي إلى طبقة التربة الرقيقة الحساسة يخلق فيهـا ظروفا جديدة تؤثر على التركيب الكيميائي لها وتخلق ظروفا جديدة لبلايين الكائنات الدقيقة التي تحيا فيهـا، كما أن زيادة الأسمدة الأزوتية ستؤدي إلى ضعف مقاومة النبات لتعفن الجذور وتصبح الثمار والفواكه أقل قابلية للتخزين، وقد يصل الفقد آنئذ إلى 30- 40% أي أن الزيادة في الإنتاج المتوقعة من إضافة السماد الأزوتي ستضيع أثناء التخزين.

حدود احتمال البشر

ولقد أخذ الحديث يدور في السنوات الأخيرة حول الأسمدة الأزوتية بشكل خاص كمصدر للأذى والضرر أكثر من غيرها ، لكننا نعرف أنه لولا وجود الأزوت في التربة ما كان هناك نبات- وبالتالي حيوان- على الكرة الأرضية، فالنباتات تحول الأزوت بعد امتصاصه من التربة إلى أحماض أمينية ثم تبني منها البروتينات التي هي المصدر الأساسي للبروتينات الحيوانية أى أنه في النهاية ما كان بالإمكان أن تكون هناك حياة دون الأزوت بما في ذلك وجود الإنسان، لكن الضرر يحدث عندما ترتفع نسبته في الخضار والفواكه بسبب التسميد الزائد، يكون الأزوت الزائد في النبات على صورة نترات، وبتأثير إنزيم إرجاع النيترات وعوامل أخرى يتحول إلى نيتريت، مثل هذا التحول يحدث أيضا في تجويف الفم وفي الأمعاء بتأثير الكائنات الدقيقة، وخلافا للنيترات يكون النيتريت- أو أملاح حمض النيتروز- سامة خاصة للأطفال واليافعين وللأشخاص الذين يعانون من أمراض القلب أو الرئة، تتفاعل هذه الأملاح مع خضاب (هيموغلوبين) الدم وتحول حديده الثنائي التكافؤ إلى حديد ثلاثي التكافؤ مما يجعله يفشل في نقل الأوكسجين من الرئتين إلى خلايا الجسم فيعاني من الخمول وتقل مقدرته على العمل ، كما أنها تؤثر على أعداد الكريات البيضاء ونسبة الكوليسترول فى الدم وتؤدي إلى خفض مستوى البروتيتات، واذا ما كانت كمية النيتريت الناتجة في المعدة عالية جدا فإن قسما منها يتحول إلى نيتروز أمين المسيية للسرطان.

يستطيع الإنسان أن يتحمل بسهـولة 150- 200 ملغ من النيترات في اليوم، أو بحد أقصى 5 ملغ لكل كغ من جسمه لقد ثبت أن إضافة الأسمدة يؤدي إلى ازدياد نسبة المتسرب منها إلي المياه الجوفية مما يؤدى إلى تلوث البيئة خاصة الآبار والبحيرات والجداول النهرية والمصارف كما أنه في حالة السماد الأزوتي تزداد عملية معاكس التنرتة والتى تؤدي إلى تحويل النيترات إلى غازات تتطاير فى الهـواء وبالتالي فقد جزء من السماد قد يصل إلى 30- 40% من الكمية المضافة، كما تحبط عملية تثبيت الأزوت الجوي التي تقوم بهـا الكائنات الدقيقة المتعايشة أو المستقلة وتنشط أنواع أخرى تدمر الدبال "الفميل" الذي هو المخزون الأساسي للازوت في التربة والذي يحافظ على بناء التربة ويمنع انجرافها.

ليس هناك من يقول بإبطاء تصنيع الأسمدة الكيميائية أومنع استخدامها، لكن يجب تشجيع عدد من الإجراءات التي تقلل من الحاجة إليها أوتقلل من أضرارها وأولها استعمال الأسمدة العضوية سواء الناجمة عن مخلفات الحيوانات أو مخلفات المدن أو غيرها، فمن السهل على المزارع أن يضيف مائة كيلو غرام من السماد الكيميائي من أن يضيف خمسة أطنان من السماد العضوى (الحيواني) اي ما يوازى محتواها من الأزوت، دون أن ينظر إلى فوائده الأخرى للتربة بالإضافة لما يحتويه أيضا من الفوسفور والبوتاسيوم والعناصر الصغرى اللازمة للنبات، كما أنه يقوم باحراق قش القمع والحبوب الأخرى مع أن فلاحتها وقلبها في التربة يمكن أن يضيف كميات من الأزوت والعناصر الأخرى بالإضافة لزيادة نسبة الدبال في التربة، وإذا ما قارنا السماد الكيميائي بالسماد العضوي نجد أن الأول هو عبارة عن أملاح غريبة عن البيئة بينما الثاني هو من نتاج البيئة ومتوافق معها سواء الهواء أو الماء أو التربة أو الاحياءالدقيقة.

عودة إلى البقول

إن زراعة النباتات البقولية قادرة بمساعدة البكتريا المتعايشة مع جذورها على الاستفادة من الأزوت الجوي الذي يشكل نسبة 78% من الهواء، وتمتد هذه الاستفادة إلى المحصول الذي يعقبها، حيث تقدر الكمية التي تضيفها إلى التربة سنويا ب 150- 400 كغ للهكتار الواحد في حالة البرسيم أو الفصة (البرسيم الحجازي) و 100- 200 كغ للهكتار الواحد في المحاصيل البقولية الأخرى، وهذا يحل جذريا مشكلة الإضافات الأزوتية الزائدة وتلوث التربة والماء الأرضي وكذلك المنتجات الغذائية، ويمكن زيادة هذا التثبيت باستعمال سلالات خاصة من هذه البكتربا العقدية ترش علي البذور قبل زراعتها، تتميز بأنها أكثر قدرة على تثبيت الأزوت الجوي وتؤدي بالتالي إلى زيادة الغلة بالإضافة إلى أن كلفتها أقل ب 10- 100% من المساحات المزروعة بالمحاصيل البقولية في الو لايات المتحدة وأستراليا والبرازيل وغيرها، وتجري الآن أبحاث كثيـرة في شتى أنحاء العالم لاستنباط سلالات من النباتات غير البقولية- خاصة الحبوب- تتعايش مع جذورها البكتريا العقدية، ففي أستراليا يعمل البروفسورس. باركر على الحبوب ويقول إن العقبة الرئيسية هي أن أغلفة جذور الحبوب تكون رقيقة بحيث لا تسمح بتكوين عقد عليها، ولكن الأمل ما زال قائما، العلماء اليابانيون يعملون على الرز، وقد جمعوا خمسة آلاف صنف من مختلف أنحاء العالم، ويأمل الآن العديد من البحاثة في العديد من الدول استنباط سلالات من البكتريا العقدية بواسطة الهندسة الوراثية تقوم بتثبيت كمية كبيرة من الأزوت الجوي وتتعايش مع الكثير من المحاصيل الأخرى، بالإضافة للمحاصيل البقولية، إلا أنه ليس من المتوقع أن تقوم أية بكتريا بتأمين حاجة جميع المـحاصيل من الأزوت عن طريق تثبيت الأزوت الجوي، ناهيك عن الفوسفور والبوتاسيوم اللازمين أيضا للنبات بكميات كبيرة نسبيا، وينتج الضرر أحيانا من طريقة استعمال السماد الكميائي حتي لو اضفناه بكميات غير ضارة للبيئة، فمثلا يؤدي سوء توزيع السماد في الحقل إلى جعله زائدا في بعض المواقع فتحدث الأضرار التي تحدثنا عنها، كما أن سرعة ذوبان السماد وكونه في صورة سريعة التحلل يزيد من أخطار التلوث، وهذه كلها يمكن التغلب عليها عن طريق تصنيع الأسمدة على شكل حبيبات مغلفة بمواد بطيئة التحلل أو باستخدام الأسمدة السائلة مثلا، وفي كل الأحوال يجب إجراء تقدير دقيق لحاجة كل محصول في كل منطقة ولكل نوع من التربة للأسمدة المختلقة بحيث لا يسمح بإضافة مايزيد على ذلك مع التدقيق عند استيراد الأسمدة فيما تحتويه من شوائب، فكميات النيترات في المنتجات الغذائية ما زالت تتزايد ويتزايد كذلك محتوى التربة عن العناصر الثقيلة والمشعة، وقد حان الوقت لعمل مراقبة شديدة حولها.

 

طارق مردود

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات