البشر فئران تجارب

البشر فئران تجارب

العلم يتقدم، لكنه لا يحفل فى كثير من الأحوال بمقتضيات الأخلاق الإنسانية... مع البشر

في النصف الأخير من شهر يوليو من العام الماضي 1998 تم التوصل إلى اتفاقية دولية بشأن محاكمة مجرمي الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة العرقية التى يرتكبها الأفراد، وتمت الموافقة على النظام الأساسي وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التابعة للامم المتحدة والتي ستتخذ مقرأ لها مدينة لاهاي الهولندية.

وتعتبرهذه الاتفاقية التي تحققت بعد جهود مضنية متواصلة استمرت أكثر من أربع سنوات تحت إشراف الأمم المتحدة أول إتحاز حقيقي لإنشاء جهاز قضائي دولي دائم على نمط محكمة نورنبرج التي شكلها الحلفاء لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

بدأت محاكمات الأطباء النازيين لارتكابهم جرائم أثناء الحرب بمدينة نورنبرج بألمانيا الغربية في ديسمبر 1946 وانتهت في أغسطس 1947. وقد حوكم ثلاثة وعشرون طبيبا ألمانيا لإجرائهم تجارب قاسية وغير إنسانية على المحتجزين بمعسكرات الاعتقال النازية.

وقد أدت هذه المحاكمات إلى صدور قانون نورنبرج الذي يشكل علامة مهمة في تاريخ أخلاقيات الطب. وأول مادة في هذا القانون تنص على وجوب الموافقة الإرادية الكاملة للشخص المتطوع لإجراء التجارب الطبية عليه، وهي تعتبر حجر الأساس في أخلاقيات البحث العلمى.

وقد تم اختيار مدينة نورنبرج بألمانيا مكانا لهذه المحاكمات لأسباب رمزية، فقد كانت هي المدينة التي عقد فيها الحزب النازي اجتماعات ومسيرات وتظاهرت تأييدا للحزب وأنصاره واستهجانا للمعارضين له.

ومع أن القوات الأمريكية المحتلة لألمانيا في ذلك الوقت لم تفكر في البداية في إجراء تحقيقات عن التجارب الطبية على الإنسان، فإنه بعد ذيوع معلومات عن الفظائع المذهلة واللاإنسانية التي ارتكبت في معسكرات الاعتقال، قررت السلطات الأمريكية اعتبار هذه القضيه الطبية جريمة حرب تقع في نطاق اختصاص محكمة نورنبرج الدولية.

كان من المبادئ الأساسية للحزب النازي تنقية الجنس الآري (الألماني) من دماء الأجناس الأخرى والمرضى وتحسينه. ولذلك اعتبر الغجر والشواذ جنسيا والمعوقون ذهنيا وغيرهم من المرضى بأمراض مزمنه، اعتبروا من الآفات المدمرة لبنية الجسد الألماني القومي، تماما مثل الجراثيم التي تهاجم الإنسان وتعرضه للإصابة بالأمراض.

وقد خلق الدور البارز التي أعطى للعلوم الطبيه في الرايخ الثالث فرصة ذهبية لبعض الباحثين من ذوي النفوذ لإجراء التجارب على الأشخاص المحتجزين في معسكرات الاعتقال والذين كان من المعروف أن مصيرهم هو الموت، مما ساعد الأطباء على إضفاء الصيغة القانونية على استخدام أولئك الأشخاص في تجاربهم الطبية. وقد شجعت ظروف الحرب القهرية ومساندة السلطات العليا لأولئك العلماء على إجراء الأبحاث الخاصة بالمشكلات ذات الأهمية العاجلة بالنسبة لميدان المعارك.

من هذه التجارب تعريض بعض المعتلقين للتجمد حتى الموت وتجربة طرق متعددة لإحيائهـم مرة أخرى. ومن ضمن التجارب للأغراض الحربية إجبار بعض المعتقلين على شرب ماء البحر فقط، وذلك لمعرفة المدة التي يستطيع فيها الطيارون البقاء على قيد الحياة عندما يسقطون في مياه المحيط، وكذلك تحديد النقطة التي تنفجر عندها الرئتان بسبب الضغوط الجوية، وهى مشكلة مهـمة بالنسبة للطيارين الذين يريدون تفادى نيران الطائرات المعادية وقد قدر عدد الأشخاص الذين لاقوا حتفهم بطريقة مرعبة بسيب تلك التجارب بمائة ألف شخص.

تقنين الأبحاث الطبية

وقد افتتح رئيس هيئة الادعاء بمحكمة نورنبرج مرافعته بقوله:

إن المتهمين يحاكمون بسبب حوادث القتل والتعذيب والفظائع الأخرى التي ارتكبت باسم الأبحاث الطبية. ولكن سرعان ما اكتشف ممثلو الادعاء أن القضية كشفت عن قضايا أخرى اكثر تعقيدا مما كانوا يتصورون، ومن بينها عدم وجود قوانين دولية للأخلاقيات الطبية يمكن بموجبها محاكمة الأطباء النازيين.

ومع ذلك فبعد ثمانية شهور تقريبا تم جمع شهادات عن التجارب بواسطة الضحايا الذين ظلوا على قيد الحياة. وعلى ذلك حكم قضاة نورنبرج بالإعدام على سبعة من المتهمين وبالسجن لمدد طويلة على ثمانية آخرين. كما قررت هيئة القضاة المكونة عن ثلاثة مستشارين تقنين القواعد التي يجب أن تحكم استخدام الكائنات البشرية في مجال البحوث الطبية. وأولى هذه القواعد التي يبدأ بها قانون نورنبرج هي: "ان موافقة الشخص بكامل ارادته على إجراء التجارب عليه مسألة أساسية، بمعنى أن الشخص يجب أن يكون في حالة تسمح له بأن يمارس حريته التامة في الاختيار دون تدخل أي عنصر من عناصر القوة أو الخداع أو الأكراه، أو الاحتيال أو أي نوع خفي من القسر أو الإجبار".

وقد اشترط القانون أيضاً "أن تكون أهمية البحث العلمي واضحة، وأن المخاطر التي يتعرض لها الذين تجرى عليهم التجارب يجب ألا تتعدى الحد الأدني، كما يجب أن تكون قد أجريت تحارب مماثلة على الحيوانات".

ولكن بالرغم" من التأثير الأخلاقي للقانون فإن نفس الظروف القاسية والوقائع المرعبة التي أدت إلى صدوره، قد اسهمت بشكل جزئي في إعاقة تطبيقه في سنوات ما بعد الحرب، لأن. الباحثين وجدوا أنه من الصعب تطبيق هذا القانون علي أعمالهم في مجال الأبحاث.

وفي الدراسات التي أجريت بواسطة اللجنة الاستشارية للرئيس الأمريكي والخاصة بالتجارب الإشعاعية على الإنسان في عام 1994 أبدى الكثيرون من الأطباء الباحثين اعتراضهم على ضوررة موافقة الشخص بكامل حريته وإرادته، لأن هذا البند غير واقعي وخاصة بالنسبة للأشخاص الذين لا يستطيعون إعطاء موافقتهم مثل مرضى العقل والأطفال. إلا أن موافقة الأطفال استبدل بها موافقة والديهم.

القانون في الوقت الحاضر

مع أن قانون نورنبرج استغرق سنوات عديدة ليحظى بقبول كبير من جانب الباحثين، فإنه يحظى اليوم بتأثير عميق على سلوك الباحثين في مجالات الطب. ومن أهم الأمثلة على ذلك، القانون الذي أصدرته هيئة الغذاء والدواء الأمريكية والذي يحكم الأبحاث في غرفة الطوارئ.

ولأن العلاجات المعروفة لبعض حالات الطوارئ مثل إصابات الرأس لا تجدي نفعا في كثير من الأحوال، فإن الأطباء يرغبون في تجربة بعض العقاقير والوسائل التي يعتقدون أنها يمكن أن تأتي بنتائج طيبة استنادا إلى الاختبارات المعملية والتجارب على الحيوانات. ولكن كثيرا من المرضى الذين يصابون بأحد الطوارئ يكونون في حالة غيبوبة، كما أن أقرباءهم لا يكونون موجودين، مما يؤدي إلى تعذر الحصول على الموافقة القانونية. وقد تسبب ذلك في حدوث بطء فى تقدم البحث العلمي لايجاد وسائل جديدة لعلاج هذه الحالات وإنقاذها من الموت.

وفي الثمانينيات من هذا القرن قام الباحثون في مرض الإيدز بمحاولات ناجحة لتوسيع مجال تجربة العقاقير الطبية مثل عقار AZT وخصوصا بالنسبة للسيدات الحوامل اللائي كان من المحرم إجراء تجارب العقاقير عليهن بعد كارثة عقار التاليدوميد التي أدت إلى وفاة الكثيرات منهن في أوائل الستينيات.

ضرورة الموافقة

لقد زاد الاهتمام في الوقت الحاضر أكثر من ذي قبل بضرورة موافقة الشخص الصريحة بإرادته وحريته الكاملة على إجراء التجارب عليه، وذلك نتيجة للاعتراضات التي أثيرت ضد التجارب الاشعاعية التي أجريت خلال فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الشرقي.

وقد أعلن الرئيس بيل كلينتون أخيرا أن جميع البحوث العلمية التي تجرى سرأ على الإنسان باسم الأمن القومي يجب أن تخضع لقواعد الموافقة الصريحة على تلك التجارب، وإن على العلماء أن يعلنوا أسماء الوكالات الراعية للمشتركين في هذه التجارب كما أن اللجنه الاستشارية للرئيس كلينتون الخاصة بأخلاقيات البيولوجيا والتي أسست في عام 1997 لمراجعة التجارب الحاليه والمتطلبات التي تتعلق باستخدام الكائنات البشرية في الأبحاث الطبية، أصبحت تطالب أيضا بوجوب تلقى الأشخاص المرضى إرشادات واضحة كي يكونوا على علم تام بالنتائج التي قد تترتب على إجراء التجارب عليهم.

ولكن مازال مبدأ وجوب الموافقة الصريحة يسبب مشكلات جديدة للبحث العلمي الطبي، فليس من السهل دائما تحقيق التوازن الدقيق بين حقوق الإنسان والتقدم العلمي. ومع ذلك فإن المبادرات الفكرية التي أوجدها قانون نورنبرج تؤكد استمرار الاهتمام بأخلاقيات البحوث الطبية.

 

أنيس فهمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات