المسنون يرتادون الفضاء

المسنون يرتادون الفضاء

منذ شهور قليلة كان السناتور "جون هيرشيل جلين" ضمن طاقم مكوك الفضاء الأمريكي ديسكفري، مسجلاً أنه أكبر من ارتاد الفضاء سناً.

قول بليغ ذلك الذي أعلن به دانيال جولدين مدير وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ، موافقته على قيام جون جلين البالغ من العمر 77 عاماً برحلة فضاء على متن المكوك عندما قال:

"إن هذا الحدث سيجعل الأطفال ينظرون إلى أجدادهم نظرة مختلفة عما هي عليه الآن. وسيفيد الأمريكيون المسنون من تجربة جلين والمثل الذي ضربه للآخرين، وسيعرف الأمريكيون من مختلف الأعمار أنه مازال لدينا أبطال، وأن هذه الدولة مازال فيها من يقومون بمهام جريئة، ويستطيعون تحويل الأحلام إلى حقائق.

كان ذلك في مؤتمر صحفي عقد في وقت مبكر من يناير 1998، لم يخف فيه مدير الوكالة أن ثمانية عشر شهراً قضاها جلين، قبل إعلان هذه الموافقة في محاولات دءوب لإقناع المختصين في الوكالة بقدرته على تحمل أعباء الرحلة حتى فاز بشرف تنفيذها.

الماضي العريق للسناتور العجوز

الحقيقة أن جون جلين لم يقحم نفسه على الفضاء في هذه السن المتقدمة التي يصفها الأدباء بسن الشيخوخة لأن له ماضيا عريقا في هذا المجال حيث كان أول رائد فضاء كوني أمريكي عندما دار حول الأرض ثلاث دورات كاملة، في وقت مبكر من فجر عصر الفضاء، في 20 فبراير عام 1962.

وعلى قلة عدد الدورات التي دارها "جلين" في السفينة (Friendship-7) "الصداقة- 7" ، فإن هذه الرحلة كانت لها أهميتها البالغة في عدم إراقة ماء الوجه الأمريكي أمام المجتمع الدولي. إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية في موقف لا تحسد عليه، عندما سبقها الاتحاد السوفييتي بمفاجأة انطلاق "جاجارين" أول رائد فضاء كوني في 12 أبريل 1961، ليدور حول الأرض دورة واحدة بالسفينة "فوستوك-1" خلال ساعة و 48 دقيقة. فحاز بذلك فخر أنه أول إنسان يجوب الفضاء، بعد أن كان هذا الشرف لم ينعقد إلا لعدد قليل من الكلاب والقردة قبله.

والحقيقة أن رحلة جاجارين لم تكن إنجازاً علمياً فحسب، بل كانت إنجازاً سياسياً عالمياً أشعل روح المنافسة بين الدولتين الكبيرتين قطبي الحرب الباردة آنذاك. وقد أتى أبلغ تعبير عن هذه الروح في التصريح المثير للزعيم السوفييتي "خروشوف" عقب الرحلة، "فلينظر إلينا العالم ليتبين الإنجازات العظيمة التي يستطيع شعبنا العظيم وعلماؤه تحقيقها". وعلى نفس هذا النهج المعبر عن روح الشماتة والغمز واللمز الذي يوحي بالتفوق على أمريكا في هذا المضمار، قال جاجارين عقب الرحلة، "فلتحاول الدول الأخرى، التفوق علينا إن استطاعت".

لقد كان الباعث على إحساس السوفييت بهذا التفوق، أنه سبق لهم بدء عصر الفضاء بإطلاق أول قمر صناعي "سبوتنيك-1" في 4 أكتوبر 1957 فكانوا أول من وقف على عتبة هذا العصر الجديد. وقبل أن يفيق الأمريكيون من صدمة المفاجأة أطلق السوفييت القمر الصناعي الثاني "سبوتنيك- 2" في 3 نوفمبر 1957. ولم يستطع الأمريكيون اللحاق بالسوفييت إلا بعد مضي نحو ثلاثة أشهر، عندما أطلقوا أول أقمارهم "اكسبلورر- 1" في 31 يناير 1958.

لذلك كانت رحلة "جلين" بمنزلة إنهاء مشرف للتخلف عن السوفييت، فقبل ذلك ببضعة شهور حاولت الولايات المتحدة صرف الرأي العام العالمي عن الإنجاز السوفييتي بتنفيذ رحلة فضائية كونية بدا أنها صممت على عجل، إذ لم تزد على كونها عملية قذف رائد الفضاء الأمريكي "شبرد" بكرسي قاذف صعد به رأسيا إلى أعالي الغلاف الجوي في رحلة دامت "15" دقيقة لم يتعرض خلالها لانعدام الوزن إلا لمدة خمس دقائق، وقد تم ذلك بعد "23" يوما من رحلة "جاجارين"، أي في 23 مايو 1961. ثم لحقه رائد فضاء أمريكي آخر، هو "جريسوم" في 21 يوليو من نفس العام، في رحلة لم تختلف عناصرها الفنية عن سابقتها إلا بقدر ضئيل. ثم تمت الثالثة بواسطة الرائد "جون جلين" في 20 فبراير 1962 لتكون بمنزلة طوق الإنقاذ، لأنه أول رائد فضاء كوني أمريكي، يمكن أن ينافس جاجارين، أو يتساوى معه، وكان وقتئذ في سن الأربعين.

ومن هذا المنطلق أسس "جون جين" خبرته في الفضاء، الذي بقي فيه 4 ساعات و 56 دقيقة، محلقاً حول الأرض بسرعة تقرب من 28000 كيلو متر في الساعة.

رائد فضاء أسطوري

ولعل قوة أعصاب "جون جلين" قد بدأت مبكراً، بحكم تأهيله العسكري كضابط طيار في البحرية قبل ارتياده الفضاء، وبحكم تعرضه لبعض مخاطر الفضاء وتغلبه عليها. ومشاركته في الحرب الكورية التى اشتعلت في أواخر الحرب العالمية الثانية عام 1943. فرحلة "الصداقة-7" ، تعرضت لتأجيلات متعاقبة بلغ عددها 10 مرات بسبب سوء الأحوال الجوية، وكان هذا أدعى للتشاؤم أو الخوف. وكان هناك سبب استثنائي آخر هو أنه أثناء عودة السفينة (Friendship-7) تعرضت لدخول الغلاف الجوع بزاوية خاطئة، فكاد ذلك يعرضها للاحتراق، لولا يقظة "جلين" الذي عمد إلى استخدام وسائل التصحيح اليدوية.

كما أن درع الوقاية من الحرارة كان معرضا للانفصال عن السفينة أثناء الدورة الثانية، وقد عولج ذلك بتوجهات من الأرض.

ولا شك أن التغلب على كل هذه المخاطر كان سببا في بناء شخصية وقوة جلد رائد الفضاء الأسطوري "جون جلين"، الذي ظل يمارس ألوانا مختلفة من الرياضة البدنية منها رياضة رفع الأثقال حتى عندما بلغ السابعة والسبعين، وبعدما أصبح "سيناتوراً" يمثل ولاية "أوهايو" في مجلس الشيوخ الأمريكي، وعضواً بارزا في الحزب الديمقراطي.

لذلك فإنه بعدما ووفق على اشتراكه في رحلة مكوك الفضاء ديسكفري لم يطلب أن يستثنى بأي معاملة خاصة، وأثناء فترات التدريب التي سبقت الرحلة، كان مواظبا كالآخرين على القيام بكل التمارين اللازمة. وبعد إتمام التدريب على الدوران الرحوي في معمل القوى الطاردة المركزية والذي تعرض فيه لقوى تثاقل قدرها "3 ج" أي ثلاثة أمثال جاذبية أرضية، لاحظ وجود عربة إسعاف خارج المعمل، فتساءل أمام 50 صحفيا عن سبب وجودها، قائلا إنه سبق أن تعرض لقوى جاذبية أكبر من ذلك في رحلتة الأولى، كان قدرها "8 ج".

وتعجب لأن وكالة "ناسا"، في تخوف من عدم تحمله أعباء الرحلة فعمدت إلى جعل اثنين من زملائه في طاقم رواد ديسكفري من الأطباء.

والحقيقة التي لا تخفى على أحد، أن رواد الفضاء ينتقون من بين متطوعين في شرخ الشباب، ويتقاعدون مبكراً، ولم يتجاوز أحد منهم سن الستين سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في الاتحاد السوفيتي "السابق" أو روسيا حاليا، لذلك فإن هذا الرائد الأسطوري إلى جانب أنه سيسجل إنجازه في موسوعة "جينيس"، وإلى جانب أنه أقدم على عمل خارق غير مسبوق، فإن وراء جارته لفتة إنسانية. وقد عبر عنها بقوله إنه يضرب مثلا ويهدي نتائج مهمته لصالح 53 مليون أمريكي وأمريكية متقدمين في السن ممن يحصلون على إعانات الضمان الاجتماعي.

في المكوك

في 29 أكتوبر 1998 عندما انطلق مكوك الفضاء "ديسكفري" حاملا طاقما يتألف من سبعة من الرواد أحدهم غير أمريكي وأحدهم السيناتور "جون جلين"، فلابد أن ذاكرته قد عادت به 36 عاما إلى الوراء. مسترجعا الفروق الكبيرة بين الأحوال في فجر عصر الفضاء، وما هي عليه حاليا. فوقتئذ كان رائد الفضاء ينطلق منفرداً، في سفينة أهم ما يميزها ضيقها، أما اليوم فهو بين ستة، من الأقران، في سفينة رحبة الاتساع بها حمام وأماكن مخصصة للنوم، وأجهزة لمزاولة الرياضة البدنية. إلى جانب عشرات من الأجهزة والمعدات لإجراء تجارب متعددة الأغراض. ولابد أن ذاكرته ستعود القهقرى ليقارن بين عناصر رحلة عام 1962 التي دار فيها ثلاث دورات حول الأرض، خلال مدة قاربت خمس ساعات، على ارتفاع كان متوسطه 260 كيلو متراً، وبين عناصر رحلته الجديدة حيث عدد الدورات يبلغ 144 دورة، على ارتفاع متوسطه 523 كيلو متراً خلال مدة ثمانية أيام وسبع عشرة ساعة.

وفي رحلة ديسكفري تقرر القيام بأكثر من 80 تجربة علمية مختلفة، منها إطلاق قمر صناعي لدراسة الظواهر الفلكية على الشمس ومنها أيضا اختيار بعض الأجهزة الخاصة بالمرصد الفضائي "هوبل". لكن أهم ما ركزت عليه التجارب وما خطط له العلماء بمناسبة وجود رائد الفضاء العجوز ضمن الطاقم، هو التجارب المتعلقة بظواهر الشيخوخة .

وما أكثر ما اهتم العلماء بدراسته من قبل عن الأعراض الطبية التي تعتري رواد الفضاء، نتيجة لوجودهم تحت حالة انعدام الوزن أي انعدام الجاذبية وخاصة إذا طالت مددها. ومن أهمها الاضطرابات التي تطرأ على الدورة الدموية ونبضات القلب، والتي من نتائجها هروب الدم من نصف الجسم السفلي إلى النصف العلوي. وفقد بعض عضلات الجسم لقوى الشد نتيجة طول عدد تعرضها للارتخاء بسبب قلة الحركة، وخاصة عضلات الفخذين، والظهر حول العمود الفقري، وتعرض بعض أجزاء الهيكل العظمي لحالة "مسامية" العظام المعروفة بهشاشة العظام، نظرا لانسحاب الكالسيوم منها، وقلة ترسب بعض العناصر والبروتينات فيها، فضلا عن اضطراب الإيقاع البيولوجي في أجسام الرواد، نظرا لسرعة رؤية تعاقب ظلام الليل وضوء النهار أثناء الدوران حول الكرة الأرضية خلال مدة تقرب من ساعة ونصف في كل مرة، الأمر الذي يحدث خللا في "الساعة البيولوجية" داخل الجسم والتي يتوقف عملها على إفرازات بعض الغدد الصماء به. وإن كان الأطباء قد علموا بعضا عن المعلومات عن هذه الأعراض الصحية، فإنهم مازالوا في حاجة إلى المزيد.

لذلك خطط علماء وكالة الفضاء بعضا من تجارب هذه الرحلة لاستكمال أبحاثهم الطبية فيما يخص "طب الشيخوخة". فقد أصبحت الفرصة سانحة بوجود جلين في ديسكفري لدراسة المؤثرات على الحيوية لدى المسنين، وكذلك عملية الاتزان والمؤثرات على المخيخ، وتدفق الدم من القلب، والعوامل التي تسبب الأرق لدى أغلب المتقدمين في السن. ومن ثم فقد رأى المشاهدون لشاشات التلفزيون صور الرواد داخل ديسكفري وقد أحيط رأس جلين الذي يكسوه قليل من الشعر الأبيض، بشبكة من خيوط البلاستيك المتقاطعة، ثبتت عليها 23 وحدة قياس حساسة لتسجيل إشارات المخ لتحليلها بواسطة العلماء. ووجه المفارقة والتميز هنا، هو أن هناك فارقا بين أن يقوم رائد الفضاء نفسه بإجراء التجارب، وأن يكون هو نفسه محلا للاختبارات، ولا شك أن محصلة ذلك ستكون بمنزلة إضافات إلى ما يمكن تسميته اكتشافات جديدة في "طب الشيخوخة"، والذي يمكن أن يفيد منه جيل بكامله، ليس من الأمريكيين وحدهم بل في العالم أجمع، وقد يؤدي ذلك إلى تأخير الآثار السلبية لأعراض الشيخوخة خاصة بعد أن تقدمت كثير من البحوث الطبية التي تمت في الفضاء، والتي يأمل العلماء في اطراد نتائجها والتوصل قريبا إلى تصنيع لقاحات وأدوية لعلاج الأنفلونزا، والإيدز ونزلات البرد. ولعل الهدف الإنساني الذي يهدف إليه "جون جلين"، بتحويل الأنظار للاهتمام بالمسنين وأمورهم، قد تحقق بقيامه بهذه الرحلة، فيما يمكن أن يفيد منه قطاع كبير ممن لحقوا بركب الشيخوخة، فلا تنصرف الأذهان عن أمورهم وخاصة العناية الطبية، فالعالم كله يلهث وراء الشباب باعتبار أن شمسهم قد قاربت على الغروب.

ويتوقع المراقبون أن أول حقل اقتصادي سيفيد من نتائج هذه الرحلة هو "السياحة الفضائية"، في الأخبار المتفرقة التي تنطلق بين حين وآخر، عن حجز لأماكن على المكوك للتمتع بالتجول في الفضاء ومشاهدة الأرض منه، قد أصبحت أملاً على وشك التحقق، خاصة بعد أن أزاح "جون جلين" كثيراً من الأوهام عن مخاطر الفضاء برغم أن سنة بلغت 77 عاماً.

 

سعد شعبان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جون جلين





جلين إلى أقصى يمين الصورة خلف قائد الرحلة