من شرق ألف ليلة وليلة إلى سحر السوريالية

من شرق ألف ليلة وليلة إلى سحر السوريالية

من المكتبة الاجنبية
تأليف : نرجس سعيدي

لقد كان الشرق منبعا للوحي والإلهام لدى الكثيرين من كتّاب الغرب عموماً والفرنسيين منهم على وجه الدقة, فقد تأثر أولئك الكتّاب بألف ليلة وليلة كثيراً, إلا أنه لم يكن من السهل البحث عن (ألف ليلة وليلة) وتأثير ذلك الكتاب القديم في السوريالية أبرز حركة فنية وثقافية عرفها القرن العشرون.

في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, سجّل المناخ الشرقيّ بأبعاده الفنية والإنسانية والاجتماعية, في الأعمال الأدبية الروائية والشعرية وفي الفن التشكيلي والسينمائي أيضاً, حضوراً طاغياً في فرنسا وأوربا. وعاد سحر الشرق بحكاياته الحالمة وطبيعته الفاتنة ليسكن عقول وقلوب كبار الروائيين والشعراء والفنانين. وكلّما تكاثفت الترجمة التي كانت تختار الروائع العربية, ازدادت مساحة الحضور الشرقي واتسعت وألهبت الخيالات الفرنسية والأوربية. ومن تلك الترجمات المختارة ترجمة كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي طغى على المشهد الأدبي الفرنسي. ورأى السورياليون الفرنسيون في حكايات (ألف ليلة وليلة) المرجعية الأدبية والفنية والإنسانية.

وربما كانت الحرب التي وقعت في المغرب سنة 1925 سبباً مباشراً حدا الكتاب والشعراء والفنانين السورياليين على اعتبار الشرق في مقدمة أولوياتهم السياسية والاجتماعية.

لماذا (ألف ليلة وليلة)? ولماذا السورياليون هم الذين تحسسوا الحضور الشرقي وعقدوا العلاقة بين الشرق والغرب?

مؤلفة كتاب (من شرق ألف ليلة وليلة إلى سحر السوريالية) الباحثة التونسية نرجس أوترلين سعيدي المقيمة في باريس تجيب في أربعة أقسام مركّبة من عدة أجزاء في كتابها الصادر حديثاً في فرنسا عن دار (لارماتون) على أسئلة البحث عن العلاقة بين (ألف ليلة وليلة) والسوريالية.

السوريالية... وثورة التغيير

ولدت الحركة السوريالية في باريس سنة 1924 على أنقاض الحركة الدادائية التي أنشأها الشاعر الروماني تريستان تسارا الذي كان يقيم في زيوريخ بسويسرا.

والدادائية مشتقة من (داد) وهو اسم لا معنى له سوى ما يقول تسارا نفسه بأن الدادائية كانت (تعني النظر إلى العالم بعيون جديدة وإعادة النظر من الأساس بجميع ما فرضه السابقون علينا).

وحين انتهت الدادائية وأُعلن موتها. ارتفعت منارة حركة جديدة سنة 1924 في البيان الأول الذي هو بيان السوريالية, وجاء فيه: (السوريالية هي أوتوماتية نفسية صرفة تهدف إلى البحث, قولا أو كتابة أو بأي طريقة أخرى, في سير الفكر الحقيقي. الفكر الذي يمليها بمعزل عن أي رقابة من قبل العقل ودون أي اهتمام جمالي أو خلقي. والسوريالية, فلسفياً, تستند إلى الاعتقاد بأن لبعض أشكال التجاوبات المهملة, إلى ذلك الحين واقعاً أسمى, كما تعتقد بقدرة الحلم الكلية وبلعب الفكر المجرد. وهي تنزع إلى تقويض المـيكانــيات النفـسية نهائياً, حالّة محلها في ما هو لإيجاد حلول لمشكلات الحياة الرئيسية).

فالسوريالية إذن هي ثورة من أجل تغيير الحياة كما قال أندره بروتون نفسه. وهكذا, بطلت الفنون أن تكون جماليّة لتنقلب (عملاً إيجابياً ملتزماً فاعلاً). أما المواضيع التي تتردد في روائع السورياليين فهي: الحلم, المرأة, الحب والموت. وقد واجه السورياليون أزمات سياسية وأيديولوجية بانضمام بعضهم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي ومغادرة آخرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبقاء البعض الآخر في باريس مثل بيكاسو وسلفادور دالي. ومع بداية حقبة الستينيات بدأ صخب السوريالية في فرنسا يختفي ونجومها الساطعة تنطفئ واحدة إثر الأخرى, بحيث لم يبق من السوريالية غير آثار الضجيج والصخب, وكلّ ما هو سوريالي في الماضي يعيش اليوم في شاعر فرنسي هو جان بنوا وفي رسامين هما: مولينيه ونيكي دي سانت ـ فال.

شهرزاد السورياليين

بين كتاب (ألف ليلة وليلة) والحركة السوريالية, يبدو ثمة حاجز لا يمكن أن يتم تجاوزه. غير أن قارئ كتاب نرجس سعيدي ينتهي إلى خلاصة مفادها أن السورياليين الذين هدفوا إلى تغيير الحياة لم يكونوا مجرد ظاهرة أو حادثة أدبية وفنية. فالمرأة التي شكلت, في الحركة السوريالية, بكيانها الإنساني جسداً وروحاً, وشاطئ الخلاص, هي (شهرزاد) الرواية في (ألف ليلة وليلة). وشهرزاد لدى السورياليين, ليست المرأة التي تجسّد السحر والشهوة والجمال والغرابة والغموض فحسب, بل هي إرادة التغيير وقوته في مواجهة شهريار رمز التقاليد والمجتمع والجمود والتسلط والطغيان.

وتشير مؤلفة الكتاب في المقدمة إلى أن الدوافع والأسباب في تأليف الكتاب لا تعود إلى مجرد البحث عن الضرورة التاريخية أو السعي إلى عقد المقارنات الأدبية بين حكايات (ألف ليلة وليلة) وروائع السورياليين. فالأدبان: العربي والفرنسي يتقابلان وتتباعد المسافات بينهما, وبذلك يصبح البحث عن مواقع الالتقاء بين حركة فنية ـ ثقافية حديثة هي السوريالية وكتاب يعود إلى القرن الثالث عشر هو (ألف ليلة وليلة) صعبا, إن لم يكن مستحيلاً. ولم يسبق في التاريخ الأدبي المعاصر أن حاول أحد من الباحثين والكتّاب العرب أو الفرنسيين البحث عن جذور الالتقاء بين (ألف ليلة وليلة) والحركة السوريالية سوى الكاتب والباحث الجزائري المقيم في فرنسا جمال الدين بن شيخ في كتاباته الفرنسية عن (ألف ليلة وليلة) وبخاصة في بحثه الذي يحمل عنوان (شهوة الموت). وإذا كان السورياليون ,وبخاصة الفرنسيون منهم, قد وجدوا في كتاب (ألف ليلة وليلة) مناخات السحر والحلم والشهوة والحب والغرابة, فإن الباحثة التونسية نرجس سعيدي ترى أن المرحلة الشرقية الأكثر سطوعا وإضاءة من المراحل الأدبية الفرنسية, هي مرحلة السورياليين الذين رأوا في الشرق بكلّ إشكالاته السياسية وقضاياه الاقتصادية والاجتماعية هو شرقهم معلنين أن الشرق الذي يريدونه هو شرق الحلم والحقيقة لا الشرق الذي ترسمه القوى الرسمية.

ومع انجذاب السورياليين إلى الشرق وانجذاب الشرق إلى السورياليين توسعت الحركة الفنية والثقافية, الموضة, الموسيقى, المسرح, الرسم, الأدب والشعر والتيارات الإنسانية الخلاقة اندفعت تستلهم الحياة الشرقية.

والمهم أن نعرف أن المغامرة السوريالية التي عملت على قولبة الفن بقالب اللاوعي, اقتربت من (ألف ليلة وليلة) من خلال عنصرين رئيسيين, الاول : الحب. فالهمّ السوريالي ينحصر في إنقاذ الحياة الإنسانية من الدمار والخراب والحروب بالحب. وقد بذل السورياليون جهودهم لأجل التوفيق بين العمل والحلم ورأوا أن الحب هو الذي يوفّق وينقذ. وقدّم كتاب (ألف ليلة وليلة) من خلال حكايات الحب المنتشرة في صفحاته الصور والوقائع التي يبحث السورياليون عنها. فنموذج الشاعر السوريالي برتون ورفاقه أراغون وسوبو وإيلوار وتسارا, هو المرأة المتخيلة عبر شهرزاد.

أما العنصر الثاني الذي وجده السورياليون في كتاب (ألف ليلة وليلة), فهو السحر الذي يولد من الحلم والخيال. والحلم هو موضوع السورياليين الرئيسي.

فالإشارة إلى الشرق سنة 1924 في (دفاتر الشهر) في المقال الشهير تحت عنوان (نداء من الشرق) الذي وقعه زعيم السوريالية ورائدها أندره برتون, ربما تكون كافية كشاهد, إذ يقول: (شرق. أيها الشرق المنتصر. لست سوى رمز يحتلني. يا شرق الغضب والسحر), مضيفا نداءه: (شرق, يا عصفور البراءة, أبحث عنك في مملكة الظلال. ألهمني, فأنا من دون ظل). ثم يبرز مناخ (ألف ليلة وليلة) في قصيدة برتون (الجمال النسوي) التي يقول فيها: (الجمال النسوي ينصهر, مرة أخرى, في بوتقة الحجارة النادرة. جمال دون هدف مباشر, دون مصير يعرفه هو, زهرة ما سُمع بمثلها).

شرق الوحي والإلهام

في الفصل الأول من كتاب (من شرق ألف ليلة وليلة إلى سحر السوريالية) تتصدى المؤلفة إلى تأثيرات ترجمتي غالاّن (بين سنتي 1704 و1717) ثم جوزيف ماردريس في بدايات القرن العشرين, على المشهد الثقافي الفرنسي. وإذا كان أنطوان غالاّن حين ترجم كتاب (ألف ليلة وليلة) قد اكتفى بنقل الحكايات من خلال ترجمة لا تخون النص, فإن الدكتور جوزيف ماردريس حرص على أن (يحدّث) الكتاب. أي أن يعطيه طابعاً عصرياً يوافق إيقاعات القرن العشرين, فطغت مشاهد الحب والشهوة والجنس على الترجمة, وواجه المترجم حملة عنيفة من النقد بلغت حد التجريح, غير أن ترجمة ماردريس ألقت بظلالها الساحرة على الحياة الأدبية الفرنسية. ومنذ الكاتب الفرنسي الشهير شاتوبريان في القرن الثامن عشر حتى مرسيل بروست في القرن العشرين, لم ينفكّ الشرق يوماً عن أن يكون نبعاً من ينابيع الوحي والإلهام في الحياة الأدبية الفرنسية.وتحصي المؤلفة التونسية الكتّاب والشعراء الفرنسيين على التوالي وعلى النحو التالي: شاتوبريان, فيكتور هيجو, بلزاك, تيوفيل غوتييه, جيرار نرفال, شارل بودلير, بيار لوتي, أندريه جيد صديق الأديب المصري الراحل طه حسين, ومرسيل بروست.

وفي كتابات هؤلاء الكتّاب والشعراء الفرنسيين تظهر آثار (ألف ليلة وليلة) معلنة كما عند نرفال وهيجو أو مضمرة كما عند شارل بودلير. فالمناخ الشرقي يقدّم إلى الكتّاب والشعراء الحلم والخيال. السحر والشهوة, الحرية والمعرفة أو الشوق إلى المعرفة. ولا عجب إذن أن يسيطر الشرق أو يطغى على المناخ الأدبي الفرنسي. مبعثراً في الكتابات أو مجتمعا أحيانا كما في قصيدة (الدرويش) لفيكتور هيجو.

سحر شهرزاد

في الفصل الثاني من كتاب (من شرق ألف ليلة وليلة إلى سحر السوريالية) تسعى الباحثة التونسية من خلال مقارنات بين الوقائع السياسية والاجتماعية في كل من مجتمعات العالم العربي والمجتمعات الأوربية إلى استنتاج التأثيرات الشرقية على الحركة السوريالية التي ضمت بعض كتّاب وشعراء عرب مثل الشاعر المصري جورج حنين والشاعر اللبناني جورج شحادة.
يسلط الفصل الثاني الضوء على الموجة الشرقية التي شهدت في بدايات القرن العشرين تغيرا وتجديدا من خلال التيارات الأدبية التي سادت القرن العشرين. ومع انفجار حرب الريف في سنة 1925 في المغرب التي قادها عبد الكريم الخطابي توقف السورياليون الفرنسيون تسكنهم الدهشة من هذه الحرب العبثية معلنين تعاطفهم مع الوطنية المغربية. فالمغرب (شرق) عند السورياليين, والجزائر (شرقية) في خريطة أفكارهم ومشاعرهم. ومن (الشرق يأتي النور) كما يعلن مؤسس السوريالية أندره برتون. فحرب الريف في المغرب شكلت نقطة التحول في التفكير السوريالي الأيديولوجي, وفي النظرة إلى الشرق وإلى الغرب, ودفعت بالسورياليين إلى مزيد من الرفض والتمرد والسعي إلى الحرية. والرفض السوريالي هو رفض للقيم الغربية والعلاقات الاجتماعية, ورأى السورياليون أن الحرب تقوّض القيم الإنسانية, فاختلطت نظرتهم إلى الغرب بالازدراء واندفعوا أبعد فأبعد في اتجاه الشرق. والمعرض السوريالي الذي أقيم سنة 1931 في إحدى ضواحي باريس, هو واحد من مجموعة معارض احتجاجية على استعمار الشعوب واستغلالها. وبذلك تمكنت الحركة السوريالية من أن تفرش أجنحتها في اتجاه بعض البلاد العربية مثل مصر حيث أسس الشاعر المصري جورج حنين مجموعة (فن وحرية) التي ضمت فؤاد كامل, التلمساني, يونان وإقبال العلايلي, ثم استقطبت شعراء وكتاباً في لبنان وسوريا والعراق. ولم يحدث تمدد السوريالية في الشرق العربي, مصادفة, بمقدار ما وجد الكتاب والشعراء العرب الباحثون عن الحرية, قيمهم في الحركة السوريالية وهي (قيم الضوء القادم من الشرق إلى الغرب).

ووسط كلّ القضايا التي طرحها السورياليون والقيم التي استلهموها من الشرق, احتلت المرأة قائمة اهتماماتهم وكانت قضية القضايا, واختزلت شهرزاد الصورة والحلم, الحقيقة والصورة اللامرئية من المرأة. فعلى قواعد ومنطلقات وقيم اجتماعية وإنسانية وأخلاقية جديدة تأسست الحركة السوريالية التي رأت في المرأة المثال القادر على إنقاذ العالم كما أنقذت شهرزاد النساء الأخريات من سطوة شهريار وطغيانه. ورأى السورياليون في شهرزاد (السحر والحلم) اللذين يحرران الروح الأسيرة بالواقع. وهكذا ضمّت الحركة السوريالية في صفوفها مجموعة من الشاعرات والرسامات بينهن: جيزيل براسيندس, جرمان برتون. فالنتين هيجو, ناناسي كونار وإقبال العلايلي زوجة الشاعر المصري جورج حنين, فالسورياليون, هم العالم الشرقي في الثقافة الفرنسية, ولعلّ الإشارة إلى الكاتب المغربي السوريالي مصطفى نيسابوري في كتابه (الليلة الثانية بعد الألف) تكون ضوءاً دليلاً على مدى تأثر السورياليين بكتاب (ألف ليلة وليلة). ويرى الرسام التونسي مهداوي أنه (يقرأ تأثير (ألف ليلة وليلة) في أعمال السورياليين كما في لوحات ماكس أرنست وبول كلي الذي قال عندما زار مدينة القيروان في تونس بأن (هذه هي ألف ليلة وليلة).

(من شرق ألف ليلة وليلة إلى سحر السوريالية) عمل فريد من نوعه في اللغة الفرنسية, وهو في النتيجة إنجاز ومغامرة أدبية تذكّر بالمراحل الذهبية من العصور العربية الزاهية.

 

فوزي الشُّلق