انـــقــلاب الـمحـبـة

انـــقــلاب الـمحـبـة

بالرغم من كل ادعاءات لحظات الغضب, فإن المنطق يقول إن كل زوجين, لا بد, ربطت بينهما يوماً مشاعر المحبة. فما الذي يجعل هذه المشاعر تنقلب ـ بشكل عابر أو مقيم ـ إلى نقيضها?وهل من سبيل للاستدراك?

يكاد يجمع العامة والخاصة على أن ثمة مشكلة حقاً كبيرة تكمن في البيت العربي, تنال من العلاقات الإنسانية وعلى رأسها الزواج, فمن بيت رجل مثقف مقتدر ينهش زوجته وحش التوتر الداخلي والإحساس القاسي بعدم الأمان, يؤثر في نفسيتها ويظهر في حركة عينيها, يكاد يقفز مع إشارتها وإيماءاتها. يتساءل هو عن سر الفتور العاطفي النفسي الجسدي الذي اعترى زوجته فجأة, ويعلم أن أهم الأسباب قاطبة هو ذاك الإحساس المعذب بالخوف من المستقبل, من اختفائه من حياتها, وتحديداً الخوف من ارتباطه, أو زواجه بأخرى وهي تجد المبرر والدليل المعنوي قائلة في بساطة (نعم, أدرك أنه لا بد لغيري أن تحظى بما حظيت به أنا كل تلك السنوات السابقة, إنه زوجي والد أولادي الثلاثة, حبيبي ونور عيني) ـ يصمت الزوج يتأمل الفراغ والحوائط الممتدة, وعندما تختفي الزوجة من الجلسة يخبرني الزوج بصراحة أن مثل هذا الأمر قائم ما دامت تهمل في نفسها وتهملني, وما دامت تدع الخوف يتملكها إلى هذا الحد, ما دامت (نكدية). نعم هكذا رآها.

سائق تاكسي بسيط, يضحك في استخفاف, يصرح في حديث عابر أنه يمقت زوجته, وأنه يفتقد الحب والحنان,الرقة والمودة, وأنه ينفر من زوجته, لا يلتقيها إلا كل شهر إبقاء على العرف المتبع, يتهمها بالبعد عن الدين, بالثرثرة وبالهجوم الضاري المتوالي عليه وعلى أهله, نظرت إليه وسألته إن كان لديها هي, ملاحظات عليه, لم ينطق ببنت شفة, لكن الحال كانت واضحة في قسمات وجهه, وشعره الأشعث ونصف ابتسامته المجنونة.

البعض يقول إن الخلافات الزوجية شائعة لدرجة أنها تكاد تكون أمراً عادياً, والبعض الآخر يقول لا بد من الخلافات الزوجية لأنها مثل ملح الطعام, والبعض الثالث مختلف تماماً يقول إن تراكم مثل تلك المشاحنات يؤدي في النهاية إلى بئس المصير, وأنه يحفر في القلب وفي الذاكرة ما لا تحمد عقباه. وتمتلئ صفحات الصحف والمجلات برؤى معالجي القلوب وحلالي المشاكل, نقرأ عن قتل الأزواج, وعن قتل الزوجات, وعن قتل رجل لزوجته وأطفاله الأربعة بما يفوق أفظع مشاهد الرعب في السينما, وعن العنف الأسري الشرس والقبيح. يصل الأمرإلى الشرطة بسبب محاولة الزوجة الاستمتاع بمشاعر مطربها المفضل لأنها لا تجد رومانسية أو عاطفة في عش الزوجية,غير أن الرجل الشرقي يغار وينتهي الأمر إلى الشرطة, ويتهم البعض الزوجات بأنهن (فالصو) أو أنهن مصابات بـ (لوثة عقلية), دون التمعن في الظروف والأسباب التي أدت وتؤدى إلى ما آل إليه الأمر! إن الحياة اليومية مليئة بالمنفرات والمزعجات, والرجل أحياناً يكون مضغوطاً عليه في عمله, فيسقط أحزانه وربما اضطهاده على البيت, الزوجة الآن تعمل, تتعرض أيضاً للتحرش سواء كان ذلك في العمل أو في الشارع. يصب كل هذا في الدور النمطي الذي رسمه المجتمع للزوج والزوجة, بمعنى أن الواقع يكون في أغلب الأحيان غير المتوقع, من ثم فإن استمرار الزواج لا يعني النجاح, وأن الحفاظ على البيت والأولاد لا يعني السعادة.

إن أمور العائلة, الصداقات, المال, الجنس, تشكل بذور الخلاف الزوجي, الذي يصل بزوجة إلى الإصابة بما قد يصطلح عليه (الكحة العصبية) التي لا تشفى بأي دواء, لكن بالانتقال من سرير الزوجية. وهناك الزوج الذي لا يدري من أمر زوجته سوى جسدها, يغير عليها غيرة حمقاء, وهناك الزوجة المتسلطة التي تقهر زوجها ليل نهار, وهناك من تمنع الحب لتكسر أنفه وتذله فيهوى إلى دنيا أخرى من الليالي الحمراء أو الزواج المؤقت.

قالت زوجة إنها صحت من نومها في هدأة الليل لتذهب إلى دورة المياه, ولما عادت انتبهت إلى وجه زوجها وهو نائم, دار في ذهنها سؤال قاس وملح: (من هو هذا الغريب), زادت نسبة البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تناقش حكايا الناس المختلفة. لكن يبدو أن هناك خطاً أحمر لا يريد أي من الطرفين الاقتراب منه, ويبدو أننا ـ في أغلب الأحيان ـ نتحدث في القشور, وفي ظواهر الأمور, دون لبها ودون الغوص في أعماقها, ومن ثم فلا بأس من الحديث, لكن ما العمل?

يتضح مما لا شك فيه أن الخلافات الزوجية قد ازدادت بشكل يصعب التعامل معه, وأن نسبة الطلاق عالمياً ومحلياً في ازدياد. إذن ما السر وما هي الأسباب? هل على الزوجين فعلاً, كما قال رجل محبط زوجياً, أن يدير كل منهما ظهره للاخر, كالجند في الحراسة لكي يريا من أين يجيء الخطر ومن ثم يهاجمانه? أم يواجه كل منهما الاخر ليريا أيضاً من كل الجهات وذلك يحمل أيضاً ضرورة النظر في العينين, رؤية ملامح وقسمات وتعبيرات الوجه? ما هي الحكاية إذن? وهل من سبيل للتخفيف منها, إن لم يكن تفاديها? هل ذلك ممكن? أعتقد ذلك, وأملك هنا على هذه الصفحات حق التفاؤل, مجرد التفاؤل, وبعض الأفكار والآراء فقط, لا للنصائح, لا للوعظ والإرشاد ولا لتنصيب النفس حكماً في أمور يدركها أهل البيت حينما تغلق عليهم الأبواب.

إذن فلنر ولنبدأ بحكاية الصياد والسمك وشباك الصيد.
انتهى أحد العلماء المتخصصين في شئون الزواج إلى أن (الزواج) مثل (شباك الصياد), فالصيادون يرمون بشباكهم إلى البحر كل يوم, يصيدون السمك ويتوجهون إلى الأسواق لبيعه.

هناك صياد يأخذ السمك من الشباك كل يوم, لكنه يترك خلفه النفايات والطحالب وكل ما يجلبه البحر مع السمك, تتراكم كل تلك البقايا في الشباك لدرجة يصبح معها الصياد عاجزاً عن إنزال الشباك من القارب إلى البر, فجأة, وفي نوبة غضب, يمزق الشباك, يمضي إلى بيته خالي الوفاض, ومن ثم يعجز عن صيد أسماك أخرى, وينتظر فرج الله حتى يشتري شباكاً جديدة?

وهناك ـ أيضاً ـ صياد آخر, ينظف شباكه كل يوم, يأخذ منها السمك لبيعه, في كل مرة يحرص على أن تبقى شباكه نظيفة وفي حالة جيدة, ومن ثم فهو قادر في كل مرة يطرح فيها تلك الشباك على اصطياد أسماك جديدة وعلى بيعها, ومن ثم يضمن الرزق للعيش هو وأسرته.

إذا ما جازت المقارنة هنا, فإن تلك الاحتياجات العاطفية (الوجدانية) الزوجية التي تشبه تلك الأسماك, بينما تبقى النفايات والطحالب مكاره الزواج ومعوقاته, هي تلك العادات غير الطيبة والتي تتسبب في عدم السعادة ـ إن لم نقل (التعاسة). مثلاً, نوبات الغضب, الحكم على الطرف الآخر بشكل مهين, السلوك المزعج, الطلبات الأنانية وعدم الصدق والأمانة, إذا تجمع كل ذلك مع مرور الوقت فإن عبء حمله وتحمله سيفوق قدرة أي طرف, وسيدمر أي رغبة في تحقيق التصالح والتعاطف, وهنا قد يحدث الصمت المفزع, ثم الطلاق العاطفي, أو الهروب إلى العمل ساعات طويلة أو إدمان أي شيء, ثم الانفصال أو الطلاق الفعلي.
وهذا تحديداً هو موقف الصياد الأول الذي خسر شباكه ومزقها, خسر رزقه وانتظام حياته, أما الصياد الثاني الذي يخلص شباكه كل يوم من شوائبها, ويبقيها نظيفة فإنه كالزوج أو الزوجة التي تحرص على إزالة العقبات أمام أي فرصة لتحقيق التناغم ما دام ذلك بالإمكان.

أهم الاحتياجات العاطفية

ولا أعني بالعاطفية هنا كلمات الحب والغرام, لكن أعني تحديداً الود والرحمة, الاحتياجات الوجدانية والإنسانية بين الزوجين.

الاحتياج العاطفي هو نوع من الشوق, والاحتياج إذا ما أشبع خلف وراءه سعادة جمة, سلاماً وطمأنينة, وإذا لم يشبع فسيترك شعورا بالتعاسة والإحباط, إذا أحصينا الاحتياجات العاطفية فلسوف نجدها ـ ربما ـ بالآلاف, تتراوح ما بين حفل ندعو فيه الأصدقاء إلى سندويتش طعمية من يدي الزوج أو الزوجة الحلوة, ربما كوب ماء يروي الظمأ, أو كوب شاي يعدل المزاج, وقد يكون مشاركة لمشاهدة برنامج تلفزيوني مفضل (معا), بالطبع تختلف هذه الاحتياجات وتلك طبقاً لمفهوم كل من الزوجين, ثقافتهما, وعيهما, انتمائهما, تحديداً تطلعاتهما, إمكاناتهما وتوجهاتهما, بشكل محدد هناك احتياجات عاطفية معينة, إذا ما أشبعت تحقق الحب وعمّت السعادة النفس وتوهجت بها الروح, وانتشى بها القلب. أهم تلك الاحتياجات العاطفية تشكل تلك اللبنة الأساسية اللازمة لبعث الدفء في أوصال عش الزوجية. لنتخيل معا أن زوجاً وزوجة يقرآن الآن هذه الدراسة, وإنهما يحتاجان إلى مشورة أو مساعدة تخص علاقة كل منهما بالآخر. إذن, فلنحاول معا أن نحدد ما هي أهم الاحتياجــات الـعاطـفية (الوجـدانية) لكـل منهما.

بمعنى ماذا يمكن أن يفعل كل مـنهما للآخر لكي يجعله سعيداً وفرحاً? إذا عرفنا ذلك, ربما, نستطيع أن ندرك كيف يمكن تحقيقه, سؤال مهم ومحرج! ترى كيف يحب كل منهما الآخر? هل برومانسية عبد الحليم حافظ (برغم أنها قد تكون مطلوبة أحياناً), وهل بغرام الخطبة ووهجها ـ هل هذا ممكن? ـ هل هو حب عملي فعلي متماسك?. إذا سألنا القارئ والقارئة, الزوج والزوجة, الآن عن أهم عشرة احتياجات عاطفية, فربما قال كل منهما (الإعجاب والتقدير, الحنان, الحوار مع الطرف الآخر, المساعدة في المنزل), (ليس بمعنى غسل الصحون فقط, وإنما المشاركة في هموم البيت والأولاد مثلاً), التعهد العائلي بـ (المسئولية الكاملة للأسرة, الدعم المادي, النزاهة والصراحة, الجاذبية, المشاركة في النشاطات الترفيهية, الإشباع الجسدي). من دون ادعاء بأننا سنقرأ أفكار القراء المتزوجين, لكن على ما يبدو أن ثمة سراً يقبع خلف خلافات الأزواج, بمعنى أننا على وشك أن نفهم لماذا من الصعب على الأزواج والزوجات إشباع حاجات الطرف الآخر, أو تلبية متطلبات وحاجيات كل منهما? غالباً أن كلا من الزوج والزوجة يذكر نفس الاحتياجات العاطفية (الوجدانية) لكن بترتيب مختلف تماماً, أو معكوس تماما,ً أي أن أهم خمسة احتياجات للرجل هي أقل خمسة احتياجات للمرأة, والعكس ـ بالطبع ـ صحيح. وهنا ـ هنا فقط ـ نكتشف أن الرجل والمرأة لم يختلفا, ولكنهما يفقدان تلك القدرة السحرية على الإحساس بالآخر, على التعاطف. إن كلا منهما, ربما حاول قدر جهده القيام بواجباته, لكن تلك الجهود غالباً ما كانت (غير موجهة), أو (في الاتجاه العكسي) فالذي توده الزوجة أكثر لا يوليه الزوج أي اهتمام وهكذا. وبالطبع, فإن كل إنسان مختلف ومتفرد وله خصوصياته, بمعنى أنه ربما نجد معظم الرجال يشتركون في أولوياتهم وهكذا النساء, لكن هذا لا يعني وجود أناس مختلفين تماماً, ومن هنا أود أن أدعو كلاً من الزوجين إلى نسيان (الدور النمطي) لكل منهما في المجتمع, ويحاولان ـ قدر الإمكان ـ تحديد أولوياتهما كما يودان فعلا ـ كأناس عاديين ـ لا كرجل وامرأة. وهنا ـ قد نصل إلى ما يريده الرجل من زوجته فعلاً, وما تريده المرأة من زوجها حقاً.

لكن أن تلبي احتياجات الطرف الآخر ـ فقط ـ فهذا نصف المشوار, لأنه إذا كان أحد الزوجين يبذل عطاءه, فيجب أن يتأكد أنه لا يودعها في مصفاة يتسرب منها كالماء, ويجب أيضاً ألا يتراجع أحد الطرفين ويسحب عرضه إذا عرض, فهذا الأمر سيسبب إزعاجا وحرجاً وإيلاماً, ومن ثم نستنفد طاقات المحبة والتفاهم ونترك وراءنا النفس قفراً يباباً.

 

خليل فاضل