أجنحة صغيرة تتكسّر

أجنحة صغيرة تتكسّر

الخلافات الزوجية ليست مسئولية شخصية لطرفي الخلاف,
بل تتعدى ذلك بتأثيراتها السلبية في الأطفال, وذلك يحتّم ضرورة المراجعة ووجوب التبصّر
.

بدلاً من أن تكون العلاقة الزوجية بين الأبوين طاقة مودّة ورحمة يستمد منها الأبناء - الصغار خاصة - دعماً نفسياً يدفعهم للنمو السوي, يحوّل الشجار العائلي هذه العلاقة إلى طاقة مدمّرة تسحق بين شقيها المتحجرين نفسيات صغار الأبناء في مراحل التكوين. ولعل هذا التصوير لطرفي الشجار في الخلافات الزوجية, الأب والأم, يجسّد فظاعة التحوّل إلى حجري طاحون يدوران بكراهية غير مبررة غالباً, أحدهما ضد الآخر, فتتوالد عن دورانهما الأصم شرارات تشعل مزيداً من الكراهية, وتسحق وتحرق بينها أجنحة صغيرة لكائنات جميلة غالية تتأهب للطيران في الغد - الأطفال. ولعل هذا التصوير للمتشاجرين مدمني الشجار, بكل ما تشي به كلمة الإدمان من قبح وتهافت, ينفر من بؤس تحوّل انسانين جمعهما الحب يوماً إلى حجرين مدمّرين, ويعيدهما إلى جديّة البحث عن سبل جديدة للتلاقي, للمودة والرحمة التي هي ذروة من ذرى الحب الإنساني في الحياة عامة, والحياة الزوجية خاصة, والتي هي بكل المعايير أخلد صيغ التلاقي بين شقي الإنسانية - الرجل والمرأة - وأكثرها صحة كما يثبت يوماً بعد يوم, وتؤكده ليس فقط الديانات السماوية, بل أيضاً مستجدات زماننا من جوائح صحية - نفسية وجسدية - وتؤكده النظرة الممعنة لفطرة الكائنات الحية من حولنا, باستثناء القليل الشاذ منها. وحتى يوازن الناس ما بين دوافع شجاراتهم الزوجية ومراميها, والآثار المدمّرة لهذا الاندفاع السلبي في أشكال التعامل البشري, نولي بعض الاهتمام لتأثير ذلك في الأطفال الذين تصفهم أدبيات الصحة النفسية بأنهم (أبناء البيوت المحطمة), وفي ذلك يلح علي مشهد مؤثر كبداية للمداخلة.

وداعاً للهدوء

عندما رأيتها في حجرة الكشف وهي تقفز منشرحة أحسست بأنها حمامة صغيرة تكاد تطير بجناحين صغيرين غير مرئيين, لكنها لسبب ما تبدو على وشك التكسّر ربما لفرط رقتها أو هشاشتها.

طفلة نحيلة في السابعة من عمرها, تفاقمت مشاكلها مع دخولها المدرسة, فقد أخبرت الاخصائية الاجتماعية قوية الملاحظة الأب الذي يبدو هادئاً, أن طفلته لا تكاد تستقر في مكانها, ولا تظهر تركيزاً, إن في اللعب مع أترابها أو في الدروس, وهي كثيرة الحركة والتنقل مما يزعج زملاءها, وأحياناً تضحك دون داع.

قالت الأم التي أحضرتها للعيادة: (ابنتنا تأخرت في بدء الكلام, وكانت ولادتها متعسّرة), وكاد ذلك يقود إلى تشخيص آخر, لكن بمزيد من التقصي اعترفت الأم: (لقد شهدت - مع الأسف - خلافاتنا الزوجية الشديدة والمستمرة - بيني وبين والدها - وكانت تبكي بعد كل شجار من شجاراتنا بشدة, ثم صارت تتحرّك كثيراً وتصيبها نوبات من العناد غير المفهوم, وهي مازالت تتبوّل ليلاً في فراشها حتى الآن).

لم تظهر الاختبارات النفسية عن تخلف ما, وكان مستوى الذكاء عادياً, أما الفحوص العضوية فلم تظهر أي أسباب جسدية للسلس البولي الليلي, وقالت الطفلة عندما سألتها سؤالاً محايداً عن علاقتها بأبويها: (ماما كانت تضربني بعنف لأنني أحب بابا), قالت ذلك همساً في أذني وهي تقبّلني كأنها تعرفني منذ زمن طويل لمجرد أنني ابتسمت لها.

لم تكن الطفلة تتقدم في وحدة العلاج النفسي خطوة حتى تتراجع وتتدهور بسرعة, وتبين أن ذلك مرتبط بتدهور العلاقة بين أبويها, إذ كانت مشاكلهما تتطور حتى تصل إلى حافة الانفصال, ثم تتراجع في تردد مؤقت, وفي النهاية وقعت الواقعة وحدث الانفصال الفعلي.

فماذا حدث لهذه الطفلة الجميلة, التي بدت لي في نهاية الأمر, وبعد الإلمام بحطام كيانها النفسي وكأنها حمامة وديعة تكسّرت أجنحتها الصغيرة إلى حد الانسحاق?

بين شقيّ الرحاة

إن المناخ العدائي بين الزوجين, أو فقدان الانسجام الأسري, ينشط الجوانب السلبية في الطفل فيرى العالم من زاوية عدائية أو على الأقل مريبة, كما يؤثر الجو الانفعالي الذي يعيش فيه على سوية عواطفه التي يعبّر عنها بتطرّف, إما في اتجاه الإحجام والكتمان أو في اتجاه الاندفاع غير المتوقع, وهي عادة ذات محتوى متناقض, ووجود الطفل في مناخ التربص المعبّر عنه بالنقد المتبادل بين الأبوين يعلمه كيف يدين الآخرين بلا سبب واضح, ولا يرضى عن شيء يقدم له إذ يكون متأهباً دائماً للنقد والرفض. وعندما يفقد الإحساس بالأمن نتيجة اهتزاز السياج الحامي المتمثل في وحدة الأبوين من حوله, يفقد الثقة في نفسه ويلجأ للتعويض بأشكال مختلفة أقلها الغرق في الفانتازيا أو الخيال غير المنتج, ومداها السلوكيات المعادية للمجتمع بألوانها القاتمة المختلفة, وجوهرها الاكتئابي المستتر أو الظاهر.

أخيرا, فإن هذه الإطلالة السريعة على الحطام المحتمل جرّاء تأثير الخلافات الزوجية في الأطفال, قد تكون جرس تنبيه يلفت الأزواج إلى تفاهة الأسباب التي يندفعون بها إلى دوائر التناحر الذميمة في مقابل الجسامة المخيفة في التدمير النفسي لأحب كائنات الأرض عندهم, أطفالهم, وإذا كانت الدوافع مما لا يمكن معه إلا المواجهة, فلتكن المواجهة بعيداً عن شمول الأطفال بنارها أو شرارها. وهي مسئولية إنسانية لا تجتمع أبداً مع أنانية الذوات المستهترة بأرق وأعز الآخرين... الأطفال.

 

علاء غنام