مـسـاحـة ود

 مـسـاحـة ود

ذلك النـبـع قـديـم

من أيام طفولتي البعيدة, أتذكر والدي حين كان يجلس معنا بصالة البيت يحتسي الشاي مستريحاً أول المساء ونحن صغار. ويحدث أن تطالبه أمي وقد تربعت قرب المنضدة بمدد لمصروف البيت. يسألها رافعاً حاجبيه أو مصطنعاً دهشة: ماذا? هل نفد ما كان معك من نقود?! فتجيب بدهشة أكبر أو مصطنعة إياها: يا سلام! بالقطع لا علم لك بالأسعار الآن. وتعجل وهي تشهر قلماً قصيراً جداً كأنه سر يتكشّف بتدوين أوجه الإنفاق على ورقة تجذبها من حيث لا يتوقع. تذكر كل مليم باندفاع ممثلة مجتهدة انتزعت للمرة الأولى فرصة الصعود إلى منصة المسرح فحفظت دورها غيباً وراحت تتلوه مغمضة العينين. وكان استعدادها المباغت للحساب بالورقة والقلم وبنود الصرف يثير تعجّب والدي فيحدّق مستغرباً كمن اشتبكت قدمه في شرك. ومن كلامها كان يتضح لنا دائماً أن الليمون الأصفر الممصوص - حتى الليمون - صار أغنى من أوقية ذهب, وأن كيلو البطاطس ينافس على مهل برميل نفط, فإذا وصلت إلى ثمن اللحم انقبض والدي تأثراً لحالها وحال البلاد. وكنا نتجمّد حول منضدة الحساب نتابع الأرقام من فوق كتفيهما بلهفة, ونترقب إعلان النتيجة بشوق. كانت والدتي تقول: تسعة جنيهات ونصف لحم, فيقول: إذن قولي تسعة, تقول: بل قل عشرة هذا أقرب. وخمسة جنيهات وربع فاكهة, يطلق دخان سيجارته ويزوم متنهّداً بأمل صريع: إذن قولي خمسة. تعارضه: الستة أقرب. كنا ننقل بصرنا بين أمي المستبسلة كوكلاء النيابة بقرائن لا تترك لجيب أبي ثغرة. وأبي بحيرته وإشفاقه على جيبه من إعدام دون استئناف. وكنا نسمّي ذلك الحساب بأرقامه التي يقرّبها كل منهما لصالحه (حساب قولي, وقل), وترتفع منه قهقهاتنا كالبالونات إلى سقف الصالة.
الآن حين أسأل نفسي: من أين ينبع ذلك الود الرقيق لدى البعض منا, ويجف لدى البعض الآخر? وأميل إلى الاعتقاد بأن طمأنينة الطفولة بين الوالدين هي منبع كل ود لاحق في النفوس. كنا نحس ونحن صغار أن والدينا يتسابقان متنافسين على حبنا بتلك الحسابات, دون أن يفقدا تسامحهما أبداً, أمي تنشد المزيد من النقود لنا, ويريد أبي ادخارها مـن أجلـنا لننفـقـها في أوجه أخـرى.

لا ترقى المودة في الناس نحو الناس إلا من صور الطفولة الهانئة, فلا هي مجرد تربية عند النشأة, ولا إرادة أخلاقية عند النضج, ولا تكوين نفسيا وعصبيا, لكنها أساساً ذلك الشعور الغامر بالحنان في الصغر, أما تمزيق نفوس كورق الورد في أسرة شطرت الخلافات سماءها فإنه يأتي على كل ما في الروح من ينابيع المودة, لأن الأرواح التي تتمزق في الصغر, تنتقم لنفسها في الكبر, وتغلق قلبها فلا تمنح بشراً أو قططاً أو شجراً حناناً سلب منها وهي تحبو ضاحكة للعالم بحب ودهشة.

 

أحمد الخميسي