المواجهات الثقافية في عالمنا العربي .. هل هي حتمية؟
المواجهات الثقافية في عالمنا العربي .. هل هي حتمية؟
يطرح المقال ثلاث مواجهات ثقافية عربية يبلور من خلال الأطروحة التي ذهب إليها حول الحتميات في المجال الثقافي العربي كانت المواجهة الأولى بين فرح أنطون ومحمد عبده في مطلع القرن. المواجهة الثانية بين رشدي صالح ومحمد البهي أواخر الخمسينيات. المواجهة الثالثة بين سيد قطب وشيوخ الإخوان المسلمين المصريين في الستينيات والسبعينيات. كانت الإشكالية في المواجهة الأولى مسألة التقدم, وماهي السبيل الفُضلى لتحقيقه? فقد كان فرح أنطون اللبناني المتمصر يرى, متأثراً في ذلك بالمسار الفرنسي, وبإرنست رينان على الخصوص, أن السبيل الفضلى لتحقيق التقدم تتمثل في فصل (السلطة المدنية) عن (السلطة الدينية), ذلك أنه (لامدنية حقيقية ولاتساهل ولاعدل ولامساواة ولا أمن ولا ألفة ولاحرية ولاعلم ولافلسفة ولاتقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. ولاسلامة للدول ولاعز ولاتقدم في الخارج إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية). فيرد عليه محمد عبده بأن هذا الأمر غير ممكن في كل الأديان, وفي الإسلام على الخصوص. ثم يتجه لعرض صورة مشرقة عن علاقة الدين بالدولة في التاريخ الإسلامي, وصورة أخرى قاتمة عن تلك العلاقة في التاريخ المسيحي الوسيط, ليصل في النهاية إلى أنه لاضرورة لفصل الدين عن الدولة في الإسلام من أجل التقدم, في حين كان ذلك ضرورياً في أوربا للخصومة بين الكنيسة والعلم, والكنيسة والملك في العصور الوسطى والحديثة. ولايقف فرح أنطون مكتوف الأيدي أمام هذا الحجاج, فيورد أمثلة للاضطهاد الديني في التاريخ الإسلامي (أبرزها مثل ابن رشد), ليؤكد في النهاية أنه ليس ضد أي دين, لكنه ضد أن تسطو المؤسسات الدينية على أمور الشأن العام ـ لما في ذلك من إضرار بالمواطنين وبخاصة في المجتمعات المتعددة الأديان, فالحكومة الدينية ـ كما يقول ـ سوف تنحاز إلى أهل دينها, بينما الحكومة المدنية تنظر إلى الجميع نظرة واحدة! وهنا يحشر محمد عبده فرح أنطون في زاوية المسيحي المعتدي على الإسلام فيجادله في أن أصول المسيحية (وليس الكنيسة فحسب) معادية للعلم وللعقل وللتقدم ـ فيجيبه فرح أنطون بما معناه أنه لايريد الدخول في نقاش ديني, بل إنه يحتكم إلى العقل في الأمر المدني, ويترك للبشر الأفراد أن يتدينوا بالدين الذي يشاءون. وبعكس ما يبدو لأول وهلة, فإن الذي حوصر في النهاية محمد عبده وليس فرح أنطون. ذلك أن الواقع أنه كما لم تكن مرجعية فرح أنطون مسيحية, فإن مرجعية محمد عبده لم تكن ـ في مسألة التقدم بالذات ـ إسلامية. جل ما كان عبده يقصده أن المسلمين يمكنهم أن يتقدموا بالمقاييس وبالأنماط الأوربية, دون أن يقف الإسلام عقبة في سبيل ذلك. وماحُسم النقاش لصالح واحد من المجادلين, ليس لأن الحسم غير ممكن في نقاش من هذا النوع وحسب, بل ولأن الصور التاريخية والنصوص والوقائع تخضع كل منها لقوانين ومناهج بحث لاتتطابق, فالصورة التي كانت سائدة يومها عن العصور الوسطى الأوربية, التي كانت الكنيسة مسيطرة فيها, لاتقف في وجه الصورة المشرقة للعصور الوسطى الإسلامية. لكن من ناحية ثانية فإن الحاضر الأوربي المتقدم والفاصل للدين عن الدولة شاهد لايمكن دفعه بالاستشهاد بنصوص إسلامية في الحرية والتقدم. بدأ النقاش إذن حول التقدم ومستلزماته. وانتهى افتراقاً في قضايا دور الدين في دنيا الواقع, وعلائقه بالدولة والسلطة السياسية. وهي إشكالية لاتزال عالقة في الفكر والواقع العربي على مشارف القرن الواحد والعشرين. صراع الحاضر السياسي أما المواجهة الثانية فقد كانت بين رشدي صالح الذي أصدر عام 1957 رواية تأويلية عن ابن خلدون عنوانها: (رجل في القاهرة), ومحمد البهي الذي أصدر عام 1957 أيضا كتاباً ضخماً عنوانه: (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) وقد خصص في كتابه هذا فصلا طويلاً عنوانه: (الماركسية في التجديد في الفكر الإسلامي) للرد على رشدي صالح, ومؤلفين آخرين اعتبرهم ماركسيين مثله هم خالد محمد خالد (من هنا نبدأ), ومصطفى محمود (الله والإنسان). محاولة رشدي صالح في فهم ابن خلدون محاولة ماركسية فعلاً, تحتذي طرائق جورج برنارد شو في شرح الاشتراكية وتبسيطها لأنصاف المتعلمين. والجديد فيها ـ فضلاً عن صيغتها الروائية الجذابة ـ استلهام شخصية تراثية مشهورة من أجل الدعوة لقيم وتحليلات وممارسات معاصرة. أما محمد البهي ـ الذي كان وقتها مديراً للثقافة بالأزهر, ثم صار مديراً لجامعة الأزهر, فوزيراً للأوقاف وشئون الأزهر ـ فأكثر ما أزعجه فيما قال, استخدام ابن خلدون للدعاية للشيوعية. فالتجديد أمر مشروع, والاستلهام للتراثيات مفيد للناشئة, لكن حدود التجديد هي حدود جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لا أكثر ولا أقل. بيد أنه عندما يمضي مجادلاً رشدي صالح ورفاقه المتمركسين من وجهة نظره, يكشف عن سر انزعاجه الحقيقي: الصراع في الثقافة المصرية صراع على الحاضر السياسي, والهوية الثقافية والسياسية لمصر بعد الثورة, والتي لم تكن قد تحددت بعد. وهو مثل محمد عبده من قبل ضد الصليبية, ومثل شيخه المراغي ضد الشيوعية, فهناك غربان مرفوضان: الغرب الماضي (الصليبي), والغرب الماركسي, ويبقى الأمر مفتوحاً فيما يتعلق بالغرب الثالث (الثاني في الحقيقة, لأن الغرب الأول الذي يهاجمه باسم الاستشراق والصليبية هو غرب متصور له علاقة بتحديد الهوية أكثر مما له علاقة بالواقع). يقرر رشدي صالح على لسان ابن خلدون حتمية التطور, وحتمية الصراع الطبقي, وحتمية انتصار المسحوقين. فيجيبه محمد البهي بحتمية انتصار الإسلام على الشيوعية وعلى الصليبية. إنه صراع على السلطة, أو أنه دعوة من جانب مثقفين في جبهتين متقابلتين لثورة يوليو لاعتناق إحدى وجهتي النظر, والطريف أن مرجعية رشدي صالح الظاهرة إسلامية تراثية, بينما مرجعية محمد البهي إسلامية حديثة. معالم في الطريق ويأتي المشهد الثالث ليُفصح عن الخيارات التي ما كانت قد تحددت أثناء الخمسينيات. إنه كتاب سيد قطب: معالم في الطريق, الذي كتبه في السجن, ونظر فيه للحاكمية الإلهية, في مواجهة حاكمية الجاهلية والطاغوت. كان سيد قطب يخرج من السجن في النصف الثاني من العام 1964 ليعود إليه بعد سبعة أشهر, ثم ليُعدم عام 1966. وكان محمد البهي يُعزل من الوزارة ويوضع في الإقامة الجبرية, بينما كان رشدي صالح وزملاؤه يخرجون من السجون ليتولوا المؤسسات الصحفية والثقافية, وليشاركوا في تحديد سياسات وخيارات مصر الناصرية. محمد البهي موظف الدولة القديم وضع الغرب الليبرالي, في مواجهة الشرق الشيوعي. أما إسلاميو الإخوان المسلمين فكانت المسألة لديهم أكثر تعقيداً. فطوال الثلاثين عاماً الماضية انصب اهتمام مثقفيهم على نقد مادية الغرب وصليبيته وتآمره على الإسلام والمسلمين. وما اقتصر الأمر على نقد السياسات, بل والثقافة والحضارة أيضاً. لذلك كان الأقرب لتصور فكر الهوية والإحيائية هذا تنصيب نموذج ثالث في مواجهة الشيوعية والرأسمالية معاً: إنه النظام الإسلامي, نظام حاكمية الله في الأرض, الذي لم تدنسه أوضار الشرق أو الغرب. فإذا كانت إشكالية مطلع القرن هي إشكالية كيف نتقدم, وإذا كانت إشكالية الأربعينيات والخمسينيات: رأسمالية أو اشتراكية, فإن إشكالية الستينيات والسبعينيات تتحدد بالسؤال: كيف يمكن أن تبقى مسلماً? وعلى ذلك يجيب سيد قطب: لايمكن أن تبقى مسلماً من دون الدولة أو النظام السياسي الذي يحكم بما أنزل الله! فيجيب شيوخ الإخوان (في المخطوط الذي تدوول داخل السجون ثم طبع عام 1977 بعنوان (دعاة لاقضاة) ) بأن المسلم يستطيع ممارسة دينه دونما الحاجة للدولة كما في الصلاة والزكاة وغيرهما, لكنه يستطيع مقاومة تلك الدولة إن حالت بينه وبين أداء دينه على الوجه المرضي. لو كانت الدولة الإسلامية من ضرورات الدين لزال الدين يوم زالت الخلافة عام 1924. ولم تُعجب هذه الإجابة الشيخ يوسف القرضاوي الذي بدأ عام 1974 إصدار سلسلته المعروفة بحتمية الحل الإسلامي, وهي حتمية تنطلق من أن الإسلام أصلح للإنسان من سائر الوجوه, وأن الله تكفل بحفظه وازدهاره حتى يعم العالم. وإذا كان الشيخ القرضاوي يلتمس للحتمية شواهد في النصوص, وفي (حركة الواقع), فإن الذي أوصله إليها في الحقيقة أفكار الاشتراكيين حول الحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية. فقد رأى أنه مادامت الشيوعية حتمية الحدوث برغم أنها مذهب إنساني, فإن الإسلام أولى أن يكون انتصاره حتمياً. وهكذا أطللنا على السبعينيات وهناك حتميتان تسودان فكرياً: الحتمية الإسلامية, والحتمية الماركسية, أما الحتمية الثقافية المتصلة بالقومية والوحدة, فقد تراجـعت من أفق المشـروع إلى أفق الأفـكار, وبدا أن لا أحد يهتم لهذا التراجع. المأزق الثقافي والسياسي يحدد عدد من النقاد ومتتبعي الثقافة العربية المعاصرة, هزيمة العام 1967, باعتبارها نقطة البداية في مراجعة السياسات والأفكار والمسلمات الثقافية. بيد أن الأولى ـ من وجهة نظري ـ الذهاب إلى أنها كانت الحدث الذي كشف أبعاد المأزق الثقافي والسياسي العربي. أما الخيارات التي جرى التوصل إليها أو الاندفاع باتجاهها على المستوى الثقافي بعد الهزيمة فهي أبعد ما يكون عن المراجعة النقدية, والرؤية الشاملة لأبعاد المأزق, أذكر أن المثقفين المصريين اليساريين احتفوا احتفاءً كبيراً بروجيه جارودي ـ وكان وقتها لايزال ماركسياً ـ وماكسيم رودنسون عندما أتيا إلى القاهرة عام 1968. وقد حدثهم جارودي عن الأبعاد الإنسانية للاشتراكية, وعن إمكان الانفتاح على الدين من واقع تجربته في الحوار الماركسي الكاثوليكي وقتها. أما رودنسون فاقترح عليهم من أجل تبييء الأفكار الاشتراكية في الثقافة العربية التفكير في رموز عربية تراثية لها مثل ابن خلدون وابن رشد. والواقع أن الماركسيين العرب لم يقصروا في هذا المجال منذ عمل رشدي صالح السالف الذكر, ودراسة أحمد عباس صالح عن اليمين واليسار في الإسلام, وحسين قاسم العزيز عن ثورة الزنج, وإعادة استخدام دراستي دي غويه وبندلي جوزي عن القرامطة, وصولاً إلى العملين الموسوعيين لحسين مروة وطيب تيزيني, ثم أعمال الجابري الأولى, وأدونيس, وتوفيق سلوم, وأحمد علبي, وإميل توما.. إلخ. وأكثر أعمال الأساتذة/الدعاة هؤلاء أعمال انتقائية, تتتبع ماتعتبره نزعات مادية أو عقلانية في الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي الوسيط. وتطمح بعض هذه الأعمال للقيام بتحليلات ماركسوانية, تقرأ الأصول الطبقية للفئات والتيارات الوسيطة التي تحمل التوجهات المادية, ووقائع الصراع الاجتماعي, والقوى التقدمية والأخرى الرجعية. ويكتفي آخرون كالجابري وسالم يفوت بتتبع النزعات والتيارات التي يعتبرانها عقلانية برهانية. وبرغم قول بعض هؤلاء بالقطعية المعرفية على الطريقة الفوكوية, غالباً ما يرون خطاً ناظماً ماديا أو عقلانيا يربطهم هم بشخصيات أو تيارات تبلورت في القرون الهجرية الأولى. الموروث الثقافي لقدانشغل الإسلاميون واليساريون بالموروث الثقافي, لأهداف مختلفة. بيد أن المنهج كان واحداً, وظل كذلك حتى ظهور الليبراليين الجدد أواخر الثمانينيات. إنه نهج التأصيل يستخدمه الإسلامي ليزن به وقائع العالم فيشجب أو يستحسن, ويستخدمه اليساري فيسوّغ به ومن خلاله توجها مقرراً له, وبذلك فقد انشغل رجال الحتميتين بالماضي بحسبانه حاضراً غير منقض, بل يمكن الاستعانة به أو شهره سلاحاً في وجه الخصم. وقد تجلى ذلك في تلك الثنائيات التي استتبت باعتبارها نقائض لامصالحة بينها, شأنها في ذلك شأن العرب في سوء علائقهم بالعالم من حولهم: عروبة/إسلام, تجديد/تقليد, حداثة/أصالة, معارضة/سلطة, تنوير/ظلامية.. الخ. ويحسب بعض الباحثين الأجانب أن الصراع المباشر في المجال الثقافي بين اليساريين والإسلاميين تأخر بسبب تجنب اليساريين العرب للبحث في الدين, وقيام الثورة الإيرانية, وصيرورة الإسلاميين جهة المعارضة الرئيسية في عدة بلدان عربية. لكن هذا التفسير صحيح بحدود. فالإسلاميون لم يقصروا في حملاتهم الشعواء على الشيوعية والإلحاد وتجلياتهما في الأنظمة التقدمية. لكن السبب الرئيسي لعدم اندلاع الصراع وحدة البنية الفكرية للتيارين, وموقف التيارين المتشابه من متغيرات العالم. فالحملات المفوتة على الاستشراق, ومقولة الغزو الثقافي, وتبني اليساريين ذوي الأصول القومية لمقولات الخوف على الهوية, والطبيعة التآمرية للسياسات الدولية على العرب والمسلمين, كل تلك مشتركات دفعت في النهاية إلى تلاق لمزيد من تجميد الموقف, والإقرار الضمني بالعجز وغياب المبادرة في السياسة كما في الثقافة. صراع التاريخ والمعاصرة في سياق قراءة بجريدة السفير لطرائق توظيف ابن رشد وابن خلدون في الفكر العربي الحديث, قلت: (يبقى أن نحاول النظر إلى ابن رشد أو ابن خلدون باعتبارهما جزءاً من تاريخ الفكر, وليس تياراً حداثياً أو عقلانياً أو إسلامياً معاصراً). وقد أزعج ذلك كثيرين, فتصدوا لي مؤنبين ومعتبرين أن ابن رشد كان كما ذكر الجابري جسراً على العالم الحديث, أو جسراً على الألف الثالث كما ذكر مطاع صفدي..الخ. وقد حاولت فيما سبق أن أتتبع بإيجاز مسألة التراث في الفكر العربي باعتبارها هُجاسا ومظهراً من مظاهر أزمة هذا الفكر, واختبائه وراء الحتميات, وأنا مختص بدراسات هذا التراث, لكنني أعتبر دراساتي في نطاقه دراسات في تاريخ الفكر, وظيفتها استيعابه وتجاوزه ـ وهذا شأن كل الأمم التي تعاملت مع تراثها بطريقة صحية. بيد أن التعامل الهُجاسي مع تراثنا هو مظهر من مظاهرالأزمة وليس سببها. فالحق أن المثقفين العرب طوال مايزيد على القرن من الزمان استطاعوا ـ مع عوامل مساعدة كثيرة ـ الوصول إلى ثقافة عربية واحدة تسود في أوساط الأكثرية الساحقة من القراء والكتاب في مشرق الوطن العربي ومغربه, بيد أن استيلاء الدولة القطرية ذات الدعوى القومية على السلطة في قلب الوطن العربي, واستتباعها لجماعات رئيسية من المثقفين, وغياب السياسة والحريات والتراكم الثقافي والتربوي, والفشل الذريع في قضية فلسطين, وفي إقامة الدولة العصرية ذات العلاقة الصحية مع العالم, كل ذلك أحدث تأزما في الثقافة بدت مظاهره في قلة الحيلة والانكشاف في عدة مناسبات: بيد أن أسوأ ما حدث للثقافة العربية سوء علاقتها بالعالم والعصر, كما يتجلى ذلك في هذا الخوف الشديد على الهوية والخصوصية, والغرام بأحاديث الغزو الثقافي, ولعن العولمة بحجة سيطرة الولايات المتحدة عليها. بينما الواقع أن الثقافة والهوية كلاهما لايتجدد من الداخل, بل في العلاقة مع الخارج تلاؤماً أو إسهاماً أو تسوية. فالحق فيما أرى أن خوفنا من العالم ومتغيراته يعود إلى نقص المعرفة به أو الجهل النسبي به. فالثقافة رؤية تستند إلى معرفة, وإلا انقلب التغيير دونما معرفة متجددة إلى كوابيس, وهو مانراه بل ونشهده في ردود أفعالنا على متغيرات الوقائع والقيم والمصالح والسياسات وآليات الاتصال والتواصل وأحسب أن التخلف المعرفي النسبي لدى المثقف العربي يزيد من ضعف ت أثيره. إذ لاشك أن ضآلة أعداد القراء يحد من التأثير, كما أن النقص في التلاؤم مع وسائل الإعلام المعاصرة إشكال لايمكن تجاهله عند بحث مسألة التأثير. لكن العلة الأبرز تبقى في العجز عن التأثير الباقي للنقص المعرفي الفاضح. فالأطروحة الأخرى المؤسسة على معرفة هي التي تبقى في الأخلاد والأسماع, وتغير في الثقافة والسياسات في المدى المتوسط. الصراع الحضاري نحن نناقش منذ سنوات أطروحتي فوكوياما وهنتنجتون عن نهاية التاريخ وصراع الحضارات, وبغض النظر عن مدى جدية هذه أو تلك, فإننا نتعامل مع الأطروحتين, كأنما وضعتا لقراءة وضعنا نحن في عالم ما بعد الحرب الباردة. ولطالما عجبت لإجماع الكتاب يساريين وإسلاميين وليبراليين على رفض أطروحة هنتنجتون في الصراع بين الثقافات والحضارات. وما كانت دهشتي لأنني أرى أن رؤيته لذلك صحيحة, بل لأننا أصررنا طوال العقود الثلاثة الأخيرة على تأكيد هويتنا الخاصة في مواجهة العالم, وأصررنا على اعتبار الصراع بيننا وبين إسرائيل, وبيننا وبين أمريكا حضارياً. بل إن الإسلاميين يمضون قدما ليعتبرونا (في الحقيقة: ليعتبروا الإسلام, أما المسلمون فهم كثيروا الشك فيهم!) البديل المستقبلي للغرب وحضارته. والحق أن المواجهة مع العالم ليست دليل عافية ولاقوة, بل هي هروب إلى الأمام, وحرب بسيوف دونكيشوتية.
|
|